من دروس حرب تموز
عماد الحطبة*
منذ مطلع الألفية الثالثة، ساد اعتقاد عالمي بأن مقاومة الأخطبوط الرأسمالي الذي تمتد أذرعه إلى كل بقعة في الكون باتت أمراً شبه مستحيل، وأن البؤر الموجودة هنا وهناك ليست سوى المحاولات الأخيرة والمحكومة بالفشل أمام سطوة العدو الرأسمالي ووحشيته.
لقد أصبح ذكر معاداة الرأسمالية أو الإمبريالية أو الانتصار للمقاومة لغة خشبية تشير بتخلف صاحبها عن ركب الحضارة. لا فرق في ذلك بين مسؤول رفيع بحجم رئيس جمهورية (ميشال سليمان رئيس جمهورية لبنان السابق الذي وصف ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة باللغة الخشبية) أو صديقة كنت أناقشها بما سمي زوراً “بالثورة في سوريا”. وعندما قلت لها إنَّ هؤلاء في خدمة الصهاينة، قالت لي (ضاحكة): “ياه لم أسمع كلمة الصهيونية منذ سنتين”.
لقد اختفت الرأسمالية ومصالحها من قاموس أعدائها، ولا تستغرب اليوم سماع مفكر يساري يتحدث عن الصراع الطائفي وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، ويتغنى بالحرية والديمقراطية بشكلها الغربي الليبرالي، متناسياً أنه كان يهاجم هذا الشكل من الحرية، ويصفه بأنه ليس سوى شكل وظيفي مقترن بحرية السوق؛ شكل لا بد منه لتحقيق الخضوع لشروط العرض والطلب التي تشكل القاعدة الأساسية للسوق الرأسمالية.
اليوم، يسمي هذا المفكر انتقاله إلى المعسكر الآخر تطوراً فكرياً أو حتى تمرداً على الجمود الفكري. لقد تحولت القضية من الدفاع عن مصالح الكادحين لتصبح حرية البرجوازيين وديمقراطية الليبراليين، وأصبح صندوق الانتخاب هو الرمز، وحقوق الإنسان هو المبرر العفوي، وقادة الديمقراطية الغربية هم الزعماء.
لقد تفرعت قضية الجماعة اليسارية، وتحولت إلى مجموعة من القضايا، ووصل بها التشعب إلى الابتعاد تماماً عن جوهر الفكرة الأصلية.
في خضم هذه الراحة التي نعم بها الرأسماليون والرجعيون، بدأت تظهر حركات تمرد في منطقتنا قضّت مضاجع المعتدين، بدأت من جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وتصاعدت على يد مقاتلي حزب الله، وصولاً إلى التحرير عام 2000، لتتحول إلى كابوس بعد انتصار 2006 في جنوب لبنان.
لقد شكل هذا الانتصار نقلة نوعية في تاريخ المنطقة، فالمنفذ والمخطط والمقاتل ينتمون إلى طبقة الكادحين الحقيقيين، وليس إلى مثقفي المدن البرجوازيين، والداعم نظام علماني قومي هو الأخير من نوعه في المنطقة، مثلته سوريا. المؤيد هو الشارع العربي بكادحيه وحالميه، وخصوصاً الأحزاب اليسارية والقومية، أما المعادي، فهو الأنظمة والأحزاب والقوى الرجعية المرتبطة سياسياً واقتصادياً، وبشكل لا يقبل الانفصام، بمؤسسات رأس المال.
لقد شكلت تلك اللحظة من يوليو 2006 لحظة فرز ومواجهة حقيقية؛ مواجهة سوف تستمر في حروب طويلة مع العدو وأدواته، وعلى أكثر من جبهة. سيحقق محور المقاومة الانتصار تلو الانتصار، وسيتوسع ويكتسب أنصاراً جدد مع الوقت، فجبهة المواجهة المحدودة بالجنوب اللبناني اتسعت لتمتد من الموصل إلى حلب والجولان، ومن القدس وجنين ونابلس إلى غزة وصنعاء وسيناء.
نستطيع القول إنَّ تلك اللحظة اقترنت بولادة جماعتين؛ الجماعة الوطنية التي ضمت طيفاً واسعاً من مؤيدي استقلال الإرادة السياسية والاقتصادية ومحاربي المشاريع الاستعمارية. وفي المقابل، الجماعة التابعة والمرتبطة بالمستعمر، من مؤيدي التسويات المحلية والإقليمية على قاعدة الانصياع للمشاريع الغربية.
تخضع كلتا الجماعتين لشروط تشكيل الجماعات الحديثة، إضافةً إلى أنّهما تضمان في تركيبتهما جماعات فرعية متفاهمة أو متناقضة في طروحاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الجماعة الوطنية التي جعلت قضيتها محاربة الاستعمار أو ما تسميه بقوى الاستكبار العالمي، ضرورتها تاريخية تنبع من الحاجة إلى الاستقلال والتحرر، والوعي بهذه الضرورة التاريخية أدى إلى تولد الإرادة التي تجلت بما سمي محور المقاومة. أما العفوية، فقد جاءت من خلال الاستجابة لآمال وأحلام الجماهير الواسعة بإيجاد مكان لها تحت شمس عالم اليوم، والرمز جاء خليطاً قومياً دينياً، حاضراً وتاريخياً.
مثّل حزب البعث العربي الاشتراكي والجيش العربي السوري ورجال المقاومة اللبنانية والفلسطينية الرمز القومي الحاضر، ومثلت رمزية استشهاد الحسين الرمز الديني التاريخي لمفهوم التضحية والفداء.
لقد كان ما حدث في جنوب لبنان فريداً من نوعه إلى درجة اضطرار القوى الرأسمالية العالمية وتابعتها المحلية إلى العمل معاً لإعادة صياغة المفاهيم وترتيب الأولويات. يقول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو: “هناك ضوابط داخلية للحركات الأصولية الإسلامية مرتبطة بخصوصيتها الدينية، وهذه الضوابط ستزول عندما تنتقل هذه التنظيمات إلى المرحلة “التالية/الأعلى” من تطورها، أي عندما تأخذ بعدها العالمي”.
هذا البعد العالمي أعطى الجماعة الوطنية وعياً كونياً غادرت من خلاله خصوصيتها المحلية والدينية لتنخرط في قضية النضال بمعناها الكوني. هذا ما رأيناه في التعاون الإيراني مع فنزويلا وكوبا، والتحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر.
بعد تموز 2006، غادرت فكرة المقاومة الإسلامية التي مثلها حزب الله بعدها المحلي لتكتسب بعداً عالمياً، وأصبحت مقبولة عند معظم من ينادون بالنضال ضد الاحتلال والاستعمار، ومرفوضة عند كل حلفاء الاستعمار. هذا التغير دفع الحزب إلى إعادة صياغة علاقاته مع المحيط المحلي والإقليمي، بما ينسجم مع الموقع الذي أصبح يحتله في خارطة الصراع.
لقد فرض الانتصار على حزب الله تبنيه وعياً كونياً يحدد من خلاله معسكر الأعداء خارج الإطار الديني المعتاد. إن المثال الذي شاهدناه من خلال الاتصال بين جوليان أسانج صاحب موقع “ويكيليكس” وسماحة السيد حسن نصر الله تعبير عن عالمية فكرة المقاومة التي يمثلها حزب الله ومحور المقاومة.
لا نستطيع أن نعزل محور المقاومة عن تاريخ المقاومة ضدّ الاستعمار في منطقتنا، والذي يعود إلى مطلع القرن العشرين. لقد تراكمت الإنجازات الكمية التي حققتها المقاومة العربية، وتحولت بعد حرب تموز إلى إنجاز كيفي نقل المقاومة إلى موقع المواجهة مع كل القوى الاستعمارية، وعلى جميع الجبهات.
إن حضور المقاومة كفكرة في منطقتنا يمنح القوة لكل المقاومين في العالم، لأننا لم نكتفِ بصندوق الاقتراع المخادع، بل واجهنا العدو في الميدان وهزمناه أكثر من مرّة.
* المصدر: موقع الميادين نت