محمد جرادات*

ما حقيقة التسريبات الصهيونية حول مفاوضات للتوصل إلى هدنة طويلة الأمد تجري في القاهرة، وقد رافقتها طروحات عدة عبرت عنها مقالات وتصريحات فلسطينية تتماهى معها؟

لا تلبث غزة أن تخرج من هدنة لتدخل أخرى أو هي هدنة بين كل حربين. هذه حال غزة العصية على الانكسار منذ أن احتلها الجيش البريطاني قبل قرن من الزمن (عام 1917). وقد احتفل الغرب يومها بهذا الانتصار التاريخي، باعتبار السيطرة البريطانية على حساب السيطرة العثمانية نصراً للحروب الصليبية على الشرق الإسلامي.

اليوم، تكثر التسريبات عن مشروع هدنة طويلة الأمد يراد لغزة أن تدخله من دون نظر إلى الأمام، ولا حتى إلى الخلف والأطراف، في لحظة فارِقة تبوأت فيها صدارةَ المقاومة في فلسطين وعموم المنطقة. وقد أخذت ساحات الوطن والأمة تحبو رويداً نحو توحدها الميداني على وقع بطولات غزة وجنين والقدس، في ظل وحدة الهجوم الصهيوني الأميركي على أمتنا وقلبها النابض في فلسطين.

شكّلت معادلة غزة مقياس النبض في صراع الشعب الفلسطيني ومن حوله الأمة برمتها في مواجهة الأطماع الصهيونية والمشاريع الغربية، حتى تمنى الزعيم الصهيوني رابين أن يبتلعها البحر، وهو ما جعل شارون، رمز التطرف في الكيان الصهيوني، ينسحب منها بشكل أحاديّ، بعدما فكّك مستوطناتها التي كان يرى أكبرها، وهي “نتساريم”، مثل “تل أبيب”.

يضطر الصهيوني في مواجهة الاستعصاء الفلسطيني إلى تغيير خططه وفق معادلة الميدان. وقد رأيناه يتجاوز ثوابته المزعومة وقداساته التوراتية في أبجديات الصراع حول الأرض. كلّ ذلك تبعاً للمستجدات، وخصوصاً عندما تتزعزع حياة الصهيوني ويصبح الأمن الشخصي في مهب الريح.

لجأ الصهيوني عند انسحابه من غزة عام 2005 إلى الخطة “ب” بعد فشله في توفير الأمن لمستوطنيه، فذهب إلى محاصرتها وخنقها لتعيش على حافة الحياة، مع محاولة استراتيجية بعيدة المدى لعزلها عن القضية الفلسطينية، عبر تذويبها في رمال سيناء مرّة بعدما استعصى عليها البحر المتوسط، أو ربطها بالأفق المصري الحصري مرّة أخرى، ودفعها نحو خيارات الهجرة أو البحث عن لقمة العيش عبر تصريح صهيوني أو منحة قطرية.

ولكن غزة ظلّت مرة تلو الأخرى تدحض كل التسريبات والإشاعات بدماء شبابها وتضحيات مقاومتها، فالهدنة في عقلها ليست سوى استراحة محارب، كما صرّح قادة المقاومة مراراً، وهي تأتي كل مرّة باستجداء صهيوني وضغوط عربية ودولية، وتقبلها غزة باعتبارها درة التاج الفلسطيني وحاملة هموم الأمة، لتراكم قدراتها العسكرية ويدها على الزناد، في مشاغلة تتصل بتطورات المشهد الفلسطيني برمته، وهي إن كظمت غيظها مرّة، ما تلبث أن تندفع في أخرى.

يأتي الصهيوني ليسرّب أن مفاوضات حول هدنة طويلة الأمد تجري في القاهرة، ابتدأها بوصول وفد فلسطيني رسمي كبير من رام الله برئاسة رئيس حكومة السلطة، ثم بوفدين قياديين موسعين من الجهاد الإسلامي وحماس، عقب انتهاء معركة “ثأر الأحرار” التي قاتلت فيها سرايا القدس بمظلة فلسطينية كاملة، وهو ما وضع المشهد الفلسطيني وكل متعلقاته في حال سؤال عن حقيقة ما يجري، فحركة الجهاد الإسلامي التي تحمّلت عبء المعركة الأخيرة بدماء قادتها وترسانتها الصاروخية وصمود قيادتها السياسية، أخرجت التقليد الفلسطيني عن نمطيته المعهودة، ووضعت الجميع أمام مسؤولياتهم.

ما حقيقة هذه التسريبات الصهيونية، وقد رافقتها طروحات عدة عبرت عنها مقالات وتصريحات فلسطينية تتماهى معها؟ والغريب هو نشر بعض المقالات الفلسطينية في الصحف الصهيونية، لتعيد نشرها مراكز أبحاث فلسطينية.

وقد جاء عقبها الحديث عن توحيد 40 جناحاً عسكرياً في غزة في 10 أجنحة ضمن الغرفة المشتركة، وأن المعركة الآتية ستكون موحدة، بما أعطى التسريبات الصهيونية قدراً من الاحتمالية، وهي احتمالية تنفتح على إمكانية وجود عرض صهيوني أو مصري، أو هي وصفة لخلط الأوراق عقب مناورات اللكمة القاضية وارتفاع وتيرة التهديد ضد إيران ولبنان.

الإصرار الصهيوني على تجنيب دخول حماس المعركة في معركتي “وحدة الساحات”، ثم “ثأر الأحرار”، وما بينهما من مواجهات عقب قمع المعتكفين في الأقصى أو اغتيال خضر عدنان، هو إصرار وفّر بيئة أنعشت هذه التسريبات، رغم نفي حماس القاطع لما قاله نتنياهو عن وجود مفاوضات لتبادل أسرى، ثم نفي الجهاد وحماس وجود مفاوضات كهذه حول هدنة طويلة أو قصيرة.

لم يكن مفاجئاً ما جاء على لسان الناطق باسم الجهاد داوود شهاب بأنّ “موضوع الهدنة بسقف زمني ليس مطروحاً، ونحن شعب تحت الاحتلال، والشعوب التي تقع تحت الاحتلال من حقها أن تقاوم وتدافع عن نفسها”، فالخطاب الدائم عند قادة الجهاد متناسب مع فعلها الميداني واستهدافها غير المنقطع منذ أن أسسها فتحي الشقاقي قبل 40 عاماً.

لكن النفي الحمساوي الرسمي، وهو الذي وضع حدّاً للترويج الصهيوني، نظراً إلى وضع حماس كجهة تحكم غزة، مع إمكاناتها العسكرية والجماهيرية المتقدمة، يُفترض أن يشكل رادعاً لبعض الأصوات التي خرجت من محيطها، وهي أصوات وصل أحدها إلى أن يدعو للتعاطي مع مشروع دولة غزة التي يمكنها، بحسب هذه الدعوة، أن تضع حداً للتنظيمات المشاكسة في اختلاق حروب جانبية!

الغيرة على غزة لتبقى رأس حربة القضية الفلسطينية هي غيرة مشروعة في داخل البيت الفلسطيني، وهو بيت توحّد خلف المقاومة في “ثأر الأحرار”، رغم السعي الصهيوني للاستفراد بالجهاد، وهو يتوحّد خلف الكتائب المجاهدة في الضفة، وإن حصل بعض التراجع في ظاهرة العرين في نابلس، نتيجة بطش المحتل ومساعي السلطة، ولكنه تراجع غطّت عليه اندفاعة طولكرم وثبات الحالة المشتبكة في جنين، بما يجعل هذه الغيرة ضمانة قوة وتعزيز لثقافة المواجهة مع المحتل كمبدأ ديني ووطني، وهو المبدأ الذي دفع شارون إلى التنازل عن “نتساريم” التي سبق أن اعتبرها مثل “تل أبيب”، وقد تحولت أرضها إلى مرابض تنطلق منها النار نحو مستوطنات القدس وضواحي “تل أبيب”.

* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع