شرحبيل الغريب*

 

قبل 23 عاماً، فتحت المقاومة الإسلامية فجراً جديداً، ليس في لبنان وحده بل المنطقة بأسرها، تمثل بزوغ هذا الفجر بدحر كامل للاحتلال الإسرائيلي عن جنوب لبنان، وأسس لمرحلة جديدة في إدارة الصراع العربي-الإسرائيلي، وسجّل هزيمة ساحقة مدوية لـ “إسرائيل” التي لطالما تفاخرت بأن لديها “جيشاً لا يقهر”، ولم يكن انتصاراً عسكرياً فحسب بل انتصاراً سياسياً له أبعاد تاريخية لا يمكن لـ “إسرائيل” إنكارها.

كسر حزب الله اللبناني منذ انتصار المقاومة والتحرير عام 2000، كل قواعد الصراع ومعادلاته، وسجّل انتصاراً مؤزراً على “إسرائيل”، وأعلن بالفم الملآن أن هزيمة “إسرائيل” ليست بالمعجزة وباتت ممكنة، ورسخ لنهج مقاوم وقاعدة مغايرة للصراع معها، أعطى دروساً وعبراً لكل حركات المقاومة في المنطقة، أن المقاومة نهج وطريق لتحرير الأراضي المحتلة والخلاص من الاحتلال وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن المقاومة باتت اليوم بقوتها وجهوزيتها قادرة على تسجيل الانتصار مرات ومرات وكسر شوكة “جيش” ادّعى أنه “جيش الأسطورة الذي لا يهزم”.

في عيد الانتصار والتحرير، ما زالت نكهة الانتصار الأولى حاضرة في العقل والذاكرة، نستحضر أمام هذا الانتصار معاني كبيرة ونعيش دروساً وعبراً لا مثيل لها، وتحضر أمامنا أحداث مخلدة، كيف قاومت العين المخرز، وكيف تحررت الأرض بقوة السلاح من دون قيد أو شرط، كيف حلت ثقافة الانتصار بدلاً من ثقافة الانكسار التي أرادتها “إسرائيل” ومن خلفها أميركا، وكيف انقلب المشهد رأساً على عقب، وانتهى الزمن الذي كانت تعربد فيه “إسرائيل” وتقول إنها تحتل الأرض التي تريدها وإلى المدة التي تريدها ولا تخرج منها إلا بشروطها التي تريدها.

رسمت المقاومة الإسلامية في لبنان قبل ثلاثة وعشرين عاماً مساراً جديداً في المنطقة، منذ اللحظة التي أعلن فيها الأمين العام لحزب الله اللبناني سماحة السيد حسن نصر الله في كلمته الشهيرة إبان هزيمة “إسرائيل” وتحرير جنوب لبنان، أن “إسرائيل” أوهن من بيت العنكبوت، وما زلنا نعيش في ظلال هذه المواقف الصادقة التي جسّدت واقعاً جديداً لصالح محور المقاومة الذي بات اليوم أقوى من أي وقت مضى، يسجل الانتصارات لصالحه والهزائم للمحتل ومن يصطف في صفه، ليس في لبنان وحده بل في فلسطين التي استلهمت تجارب فريدة من المقاومة الإسلامية مكنتها من تسجيل قفزة نوعية في مواجهة “إسرائيل” وجعلتها تحقق انتصاراً آخر، حررت فيه قطاع غزة وطردت الاحتلال عن كامل ترابه عام 2005 كمحطة أولى على طريق التحرير، وهذا يعني أن حزب الله افتتح مسار الانتصارات وثبت معادلة مفادها، أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، وأن زمن الانتصارات هو الذي يجب أن يكون فينا وبيننا.

حاول البعض قبل 23 عاماً ترسيخ فكرة أن “إسرائيل دولة وكيان وجزء لا يتجزأ من المنطقة يمكن التعايش معه”، حتى جاء انتصار المقاومة والتحرير ليثبت أن هذه الفكرة أصبحت جزءاً من الماضي، وأن الحاضر في انتصارات المقاومة ومحورها بعد 23 عاماً، هو أن “إسرائيل” أصبحت تعيش صراع المأزق الوجودي، وأن فكرة زوالها باتت حاضرة في العقل والذاكرة الإسرائيلييْن، وأن قدرتها على البقاء لم تعد أمراً ثابتاً كما الماضي، وأن لعنة العقد الثامن باتت لعنة تلاحق الإسرائيليين في كل وقت وحين، وأن الهجرة المعاكسة والانقسام والتشرذم باتت هي العناوين الأكثر تداولاً وسيطرة على المشهد في “إسرائيل”.

بين يدي، عيد المقاومة والتحرير الذي جاء تتويجاً لمسيرة مقاومة أُذِلتْ فيها “إسرائيل” وكُسرت هيبتها، وبين توقيت المناورة التي نفذها حزب الله اللبناني في ذكرى انتصار المقاومة الــ 23 بعنوان “سنعبر”، ثمة رسائل ودلالات ذات معان كثيرة تلقي بظلالها على المشهد، ويمكن تسجيلها في مسارات عدة.

– الرسالة الأهم والأبرز ما حملته المناورة وهو العدة والعتاد والاستعداد ومدى الجهوزية والإمكانيات العسكرية الكبيرة التي لوّح بها حزب الله، وقد حملت في طياتها رسائل تحذير وردع متعددة لـ”إسرائيل” في التوقيت والشكل والمضمون، خاصة بعد المواجهة الأخيرة في قطاع غزة، والتحذير الصريح من مغبة الإقدام على أي محاولة استهداف في لبنان، في حالة تعكس ميزان الردع بما يضمن عدم المساس بقواعد الاشتباك.

– تأكيد خيار وحدة الساحات وترابطها في مواجهة “إسرائيل”، والتحذير من المساس بأي من قيادات المقاومة الفلسطينية بعد اغتيال قيادات في “سرايا القدس” الذراع المسلحة لحركة “الجهاد الإسلامي” في قطاع غزة، وقطع الطريق أمامها تجاه أي مغامرة محتملة تكرر فيها السيناريو ذاته.

– في سردية لمجريات الأحداث منذ العام 2000 م وحتى اليوم، وسلسلة الانتصارات التي حققها محور المقاومة، ما زالت “إسرائيل” ومعها أميركا تحاول أن تعيد ترتيب المنطقة وفق رؤية تخدم أجندتها ومصالحها، لكن في كل جولة مواجهة تتبدد مخططاتها وتفشل مؤامراتها على صخرة الصمود والقوة ووضوح النهج والرؤية لمحور المقاومة بأسره.

– من أبرز الخلاصات في عيد المقاومة والتحرير، أن مشروع المقاومة الذي كان قبل 23 عاماً، مشروعاً خاصة بالمقاومة الإسلامية في لبنان لكنه حمل رسالة واضحة الهوية ولم تغب فلسطين عن أجندته، أصبح اليوم مشروعاً كبيراً يمتد من طهران إلى فلسطين انطلاقاً من مواقف ثابتة راسخة في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه دعم المقاومة الفلسطينية وإسنادها، والتي لم تتوقف يوماً عن دعم القضية الفلسطينية سياسياً ومالياً وعسكرياً.

– أصبح مشروع المقاومة في عيد المقاومة والتحرير، وما يحمله من نهج ورؤية وهوية يفرض معادلات وتوازنات جديدة في المنطقة عنوانها الطريق إلى فلسطين البوصلة، وهذا ما أخذته إيران على عاتقها منذ اللحظة الأولى لانتصار ثورتها الإسلامية ومعها كل قوى محور المقاومة في المنطقة في العراق واليمن وسوريا ولبنان.

في عيد المقاومة والتحرير، إن كان من محطة مهمة وجب استحضارها، فقد نجحت إيران ومعها حزب الله وما ترجمه قائد فيلق القدس الشهيد قاسم سليماني بشكل عملي من نهج وفكر ورؤية في إرساء قواعد جديدة للمنطقة تستند إلى قاعدة قوة المقاومة هي الأساس ومواجهة “إسرائيل” كعدو مشترك يجب إزالته من المنطقة.

سجل محور المقاومة وما زال يسجل انتصارات متتالية، فمن انتصار حزب الله في لبنان في يوليو عام 2006، إلى انتصارات المقاومة في فلسطين عام2005، والتي كان آخرها انتصار المقاومة في معركة “سيف القدس” و”ثأر الأحرار” لهو دليل واضح على صوابية النهج والفلسفة والتكامل في البنية والأهداف والميدان وتقدم محور المقاومة نحو المزيد من الانتصارات.

في عيد المقاومة والتحرير، وأمام ما تمر به القضية الفلسطينية من مرحلة تاريخية تتصاعد فيها المؤامرات، فقد أصبح للمقاومة محور يقف صفاً واحداً مع فلسطين ومقاومتها، وإن كان من هدف ففلسطين والقدس والمسجد الأقصى هي البوصلة، وفي هذا المقام، ما زالت كلمات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله خلال كلمة ألقاها بمناسبة “يوم القدس العالمي” حاضرة فينا، وهي حقيقة عبّدت بالدم والشهادة لا تقبل التشكيك ولا التأويل، أن المقاومة الإسلامية في لبنان لن تتخلى عن فلسطين ولا عن مقدسات فلسطين، ليزداد اليقين أكثر أن لحظة الانتصار الأكبر قد اقتربت، وأن الصلاة في القدس والمسجد الأقصى باتت أقرب من أي وقت مضى.

المصدر: موقع الميادين نت