بقلم: لمياء الخالدي*

(صحيفة:الجارديان البريطانية, ترجمة: انيسة معيض- سبأ)

بصفتي عالمة آثار، لقد رأيت تراث اليمن الغني. ولكن بالنسبة للعديد من قادة العالم، فإن مبيعات الأسلحة هي وحدها الاهم.

شاهدت في رعب مثل أي شخص آخر في جميع أنحاء العالم, الأسبوع الماضي عند احتراق نوتردام وسقوطها. لقد رأيت ردود المذهولين من المشاهدين على الأخبار وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وأمام أجهزة التلفزيون وشاشات الهاتف في شوارع مدينة نيس، حيث أعيش. لقد كانت جزء من الهوية الوطنية لفرنسا ورمز دولي لباريس لقد كانت تنهار أمام أعيننا.

لقد ضرب هذا الحريق العرضي لأحد أهم المعالم الثقافية والدينية الفرنسية وترًا مؤلمًا في كل شخص أعرفه: كنت أتلقى رسائل تنمو على الحزن من أصدقاء في السودان واليمن والولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية. أثارت المشاهد التي لا يمكن تصورها لحرق كاثدرائية نوتردام صوراً للمباني المحترقة أثناء الحرب، والحنين لكل الأشياء التاريخية القيمة التي تحولت إلى رماد. ولا يمكن للمرء أن ينظر إلى هذا المشهد دون الشعور بالحزن.

ومع ذلك ، لم أستطع التوقف عن التساؤل عن سبب رد الفعل المروع تجاه تدمير كاثدرائية نوتردام، أحد مواقع التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو، ليس  نفس رد الفعل الذي نراه دائماً على تدمير أي نصب تاريخي، بغض النظر عن موقعه وبغض النظر عن الجنسية أو العرق أو الدين.

حتى في الوقت الذي نحزن فيه على نوتردام، يتم بيع ما قيمته مئات الملايين من الدولارات كسلاح من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وأستراليا ودول أخرى إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، حيث تبدأ عامها الخامس من الغارات الجوية والاعتداء على الأرض في  اليمن. في حين أن اليمن هي واحدة من أفقر دول العالم من حيث إجمالي الناتج المحلي للنمو، إلا أنها غنية جداً بالتراث الثقافي. واليوم، يمزق هذا البلد القديم والباعث على الفخر البالغ عدد سكانه 25 مليون نسمة، إلى جانب تراثه الذي لا يقدر بثمن.

نتيجة لهذه الحملة العسكرية الوحشية ، قتل أكثر من 85000 طفل بسبب سوء التغذية، و 18000 هم الضحايا في اوساط المدنيين، وشرد ملايين الأشخاص نتيجة النزوح داخلياً. منذ بداية النزاع في عام 2015، تعرضت مئات الآثار الدينية والتاريخية اليمنية، ثلاثة منها تدرج ضمن  مواقع التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو، فضلاً عن المواقع والمتاحف الأثرية الشهيرة، للقصف أو تعرضت لأضرار نتيجة للهجمات الجوية التي شنها التحالف عليها، باستخدام الطائرات وأنظمة التوجيه والقنابل التي باعتها لهم الدول الغربية.

لقد عملت كعالمة آثار في مواقع في جميع أنحاء العالم، حيث أقوم بمسح وتوثيق وحفر واستعادة ماضينا الإنساني المشترك. هذا الماضي يحمل مفاتيح كثيرة لمستقبلنا، ونحن علماء الآثار نحتفظ بهذه الحقائق في أيدينا. نحن مكتشفون وحماة تاريخ عالمي، ونكتشف وننقل أدلة عن أصولنا، وابتكاراتنا وصراعاتنا السابقة، وصعود وسقوط الإمبراطوريات القديمة والآثار الرائعة. في هذه الأزمنة الحديثة، يتحمل علماء الآثار واجب أخلاقي وقانوني في احترام وحماية هذا الماضي. علينا أيضًا مسؤولية بناء الوعي العام حتى ينخرط مواطنو العالم في حماية التراث على جميع المستويات، الملموسة وغير الملموسة.

خلال السنوات العشر من مسيرتي قمت بالعمل والعيش في اليمن وإعادة بناء ماضيها، اكتشفت بلدًا له تاريخ غني ومناظر طبيعية جميلة وسكان كرماء لدرجة أنه كان من المستحيل عدم الوقوع في حبه. في حين أن الكثيرين قد لا يكونون على دراية باليمن، فمن المحتمل أن يكونوا على دراية بعدد كبير من “نوتردام” اليمن التي  تعد، بالإضافة إلى كونها رمزاً للهوية الوطنية لليمن، جزءًا مهمًا من تاريخنا الإنساني المشترك.

إلى اليمن ، نحن ندين لملكة سبأ والقصور والمعابد للممالك السبئية وتجارة البخور وسد مأرب وبعض أقدم الجاليات اليهودية والمسيحية والإسلامية والآثار التي أقاموها والمحفوظات التي يعود تاريخها إلى عهد القرن التاسع قبل الميلاد. وبالنسبة لليمن، فنحن مدينون أيضًا للهندسة المعمارية الأقدم والأكثر روعة في العالم من الطين والحجر، ونظام بيئي محمي فريد غير معروف في أي مكان آخر في العالم ، في جزيرة سقطرى التراثية التابعة لمنظمة اليونسكو. يتم تقويض التراث الطبيعي الهش لجزيرة سقطرى من خلال التنمية الإماراتية، حيث يعملوا على ضمها وتحويلها إلى وجهة سياحية فاخرة، كل هذا مع استمرار قصف المدنيين والتراث اليمني

كل يوم أشاهد اليمن يحترق، وكل يوم أسمع صمتاً فقط. كان دونالد ترامب واضحًا تمامًا بشأن سبب اعتراضه مؤخراً على مشروع قانون أقره مجلسي الكونغرس الأمريكي لوقف مبيعات الأسلحة الأمريكية للسعودية. لقد رأى الكونغرس أدلة دامغة على أن هذه الأسلحة تُستخدم ضد السكان المدنيين المدمرين جراء الحصار والمعاناة من المجاعة والكوليرا. لكن رئيس الولايات المتحدة عبر عن ما يخبئه جميع قادة العالم عن مواطنيهم: مبيعات الأسلحة أهم من حياة البشر والتراث العالمي.

يتم انتقاد مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية وائتلافها والتحقيق من قِبل البرلمانيين والمحامين وجماعات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم لأن الوضع في اليمن أمراً بالغ الخطورة، واستمرار العنف والحظر والتجويع القسري لا مبرر لهما. دعنا نقف ونعيد بناء نوتردام بشكل جماعي؛ ولكن دعنا نقف أيضًا ونوقف تدمير حكوماتنا لليمن وشعبها ونوتردام اليمن، حيث من الواضح أن مصدر الحرق والدمار ليس من قبيل الصدفة. بل يتم تنفيذه بموافقة حكوماتنا، وبتمويل من الضرائب التي ندفعها ، وبأسمائنا.

*لمياء الخالدي باحثة في علم الآثار بالمركز القومي الفرنسي للبحث العلمي