هل أزمة لبنان من أسوأ عشر أزمات منذ 1850؟
السياسية:
يشهد لبنان أزمة اقتصادية تحمّل في طيّاتها أبعادًا متعدّدة، اقتصادية ومالية ونقدية ومؤسساتية وسياسية، ضاعف من شدتها الحصار والعقوبات والنزوح السوري وكوارث طارئة كجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، حيث أدت كل هذه العوامل مجتمعة إلى:
– تراجع الناتج المحلّي الإجمالي من 52 مليار دولار عام 2019 إلى 23 مليار دولار عام 2021.
– وصول التضخّم إلى أرقام قياسية 84.9% و154.8% و171.2% في 2020، 2021 ، 2022 على التوالي.
– تدهور في قيمة الليرة مقابل الدولار حيث ارتفع سعر الصرف من 1507.5 ليرات إلى ما يزيد عن 100,000 ليرة مقابل الدولار الواحد.
– وقوع العديد من الأسر في براثن الفقر حيث تشير التقديرات إلى وجود ثمانين بالمئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر.
وفي ظل هذا الواقع المرير أصدر البنك الدولي في ربيع عام 2021 تقريره الدوري تحت عنوان “لبنان يغرق (نحو أسوأ ثلاث أزمات عالمية)”، حيث يوحي العنوان للوهلة الأولى بفرادة الأزمة في لبنان وصعوبة حلّها. وبحسب التقرير المذكور فإن الأزمة اللبنانية هي ثالث أزمة مالية لجهة حدّتها Crisis Severity منذ عام 1850 بعد أزمة تشيلي (1926) وأزمة إسبانيا (1931)، في حال اعتماد السيناريو الأسوأ، وسادس أزمة من حيث الحدّة في حال استخدام السيناريو المتفائل. وقد تحوّل هذا التوصيف إلى حقيقة بديهية يحتذى بها في معظم التقارير المحلّية والأجنبية التي صدرت وتصدر تحت عنوان “الإصلاح والتعافي”.
وهذه الدراسة المنشورة في النشرة الاقتصادية الصادرة عن المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق تهدف إلى مقاربة الأزمة اللبنانية الراهنة موضوعيًا وعلميًا، ساعية بذلك إلى المساهمة في رسم مسار التعافي والحلّ بعيدًا عن التوظيفات السياسية. ويتبين من خلال هذه الدراسة، وما سبقها من نشرات اقتصادية، أن بداية الأزمة اللبنانية تعود فعليًا لزمن طويل سابق للحراك الذي بدأ سنة 2019، مما يجعل كل محاولات النُخب الاقتصادية والأكاديمية والسياسية السائرة في ركاب هذا النموذج للتنصّل أو البراءة من مسؤولية الأزمة مكشوفة تماماً، رغم محاولاتهم الهروب إلى الأمام من خلال طروحات بالية كالفيدرالية.
وتتطرّق الدراسة إلى عرض مروحة واسعة من قواعد البيانات البارزة (أو ما يعرف بالتصنيفات) حول الأزمات المالية في العالم، وهي: تحليل نسب التجانس والتوافق فيما بينها لجهة تحديد نوع الأزمات المالية أو سنة البداية والنهاية، وكذلك كيفية احتساب الخسائر الناتجة عنها، وبالأخص تأثيراتها على الناتج المحلّي الإجمالي Output Losses، لتخلص من كل ذلك إلى الآتي:
– عدم وجود إجماع بين الباحثين في العالم سواء حول تعريف الأزمات المالية وتحديد طبيعتها أو على تحديد بداية الأزمة أو نهايتها، خصوصاً أن معظم قواعد البيانات المعروفة عالمياً تعتمد على المنهج التأريخي السردي Narrative Approach، والذي يتصف بشكل أساسي بمراجعة الأحداث من المصادر المكتوبة كالصحف والكتب والدراسات المنشورة، دون أن ينفي ذلك تعديل العديد من التصنيفات عند توفر مصادر أخرى لدى الباحثين. وبذلك تثبت هذه الدراسة بالأدّلة والبراهين وجود شكوك كبيرة حول صحة التأريخ للأزمتين الكبيرتين في تشيلي (1926) وإسبانيا (1931)، اللتين ذكر أن لبنان ثالثهما في حال استخدام السيناريو السيئ بحسب سردية البنك الدولي.
– عدم وجود آلية لاحتساب الخسائر الناتجة عن الأزمات المالية، بل تتفاوت التقديرات تبعًا للفرضيات ومصادر البيانات، خصوصاً أن تحديد بداية الأزمة ونهايتها غير محسوم من قبل التصنيفات. فقد لوحظ أن غالبية المنهجيات تعتمد سنة الأزمة كأساس لحساب الخسائر في الناتج المحلّي الإجمالي من أجل قياس تأثير الأزمة، وكذلك نهاية الأزمة كمؤشر لحساب المدّة التي استغرقتها عودة الناتج المحلّي إلى اتجاهه العام. ويضاف إلى ذلك الاختلاف في مقاربة الأسباب الداخلية (الضمنية) Endogeneity والتي لها علاقة كبيرة في هبوط الناتج المحلّي الإجمالي، مما يؤدّي غالباً إلى تضخيم الخسائر المرتبطة بالأزمات المالية. فقد تؤدّي صدمات مفاجئة غير مرتبطة بالقطاع المالي إلى حدوث انخفاض في الإنتاج وتبعاً لذلك مشكلات في القطاع المالي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك جائحة كورونا التي أدت إلى تراجع كبير في الناتج المحلّي الإجمالي لغالبية الدول.
ويضاف إلى ذلك أيضاً تباين طرق قياس فجوة الناتج المحلي Output Gap، وهي الفارق بين الناتج المحلّي الفعلي وبين اتجاهات الناتج المحلّي في المدى الطويل. إذ نجد عشرات الطرق لتحديد مجمل الخسائر المرتبطة أساسًا باتجاه الناتج المحلّي الإجمالي Trend أو المحتمل Potential، وكل طريقة لديها قيودها الخاصة. كما أن سنوات الأساس لاحتساب الاتجاه العام للناتج المحلّي الإجمالي غير محدّدة بشكل واضح في الأدبيات وتختلف باختلاف فرضيات الباحثين. وهذا ما يؤدّي إلى تغيّر على صعيد فجوة الناتج المحلّي الإجمالي.
كمثال على ذلك نجد في تصنيف Laeven and Valencia (2008,2013,2018) أن الباحثَين يذكران أن لبنان عانى من أزمة مصرفية بنيوية عام 1990 وأزمة عملات قبل ذلك. وفي التقرير يُقدّر الباحثان أن الخسارة أو الفجوة في الناتج المحلّي الإجمالي نتيجة هذه الأزمة هي 102%، وتجدر الإشارة إلى أن هذه السنة كانت نهاية الحرب الأهلية في لبنان التي استمرت 15 سنة، ما يسمح لنا بانتقاد هذه الخلاصة التي توصّل إليها التقرير خصوصًا لجهة ربطها بالأزمة المصرفية البنيوية وتجاهل العوامل الأخرى.
خلاصة الدراسة في الشأن اللبناني
بينّت الدراسة حجم القيود المنهجية التي تقوّض قدرة أي تصنيف أو مؤشر لقياس حدّة الأزمات المالية. وفي خصوص الحالة اللبنانية فإن المؤشر الذي اعتمد لوصم هذه الأزمة بأنها من أسوأ ثلاث أزمات منذ 1850 غير موضوعي، للأسباب الآتية:
1. إن الدراسة التي تم الاعتماد عليها لحساب مؤشر حدّة الأزمة تتصل بالأزمة المالية البنيوية بشكل رئيسي، في حين أن لبنان يعاني من أزمات متداخلة ومتزامنة مع بعضها البعض على الصعد السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية والمصرفية، بالإضافة إلى انفجار مرفأ بيروت في آب 2020. وكلّها معطوفة على الحصار والعقوبات التي يتعرّض لها لبنان منذ سنوات كما أشرنا أعلاه، مما يجعل المقارنة في غير محلّها.
2. إن اختيار سنة 2017 كسنة للقياس عليها واعتبار أنها تحدد نسبة الذروة في الاقتصاد هو أمر غير صحيح، خصوصاً أن الأزمة المالية والمصرفية أصلاً سابقة لهذا العام، حيث أسهمت الهندسات المالية لمصرف لبنان خلال عامي 2016 و 2017 في فرملة الانهيار الوشيك حينها. وبحسب التجارب غالبًا ما يتضخّم حجم الناتج المحلّي بشكل كبير قبل وقوع الأزمة المالية.
3. إن قراءة تجربتي أيسلندا وأيرلندا توحي بوجود تشابه كبير في أسباب الأزمة اللبنانية، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
– التوسّع الكبير للقطاع المصرفي في البلدين حيث تخطّى خمسة أضعاف الناتج المحلّي الإجمالي.
– النموّ الاقتصادي في البلدين أصبح مدفوعًا بشكل كبير بالقطاع المالي.
– اعتماد نماذج أعمال عالية الربحية ومحفوفة بالمخاطر.
– ضعف رقابة المصارف المركزية والهيئات الرقابية الأخرى على القطاع المصرفي، ما سمح للقطاع المصرفي بالتراخي في تقييم جودة الأصول.
وفي الخلاصة إن الهدف النهائي لهذه الدراسة ليس التشكيك بسردية البنك الدولي وغيره من الجهات الدولية أو المحلية حول الأزمة الاقتصادية اللبنانية واستعصاء حلّها، بقدر ما هو شحذ عزيمة المسؤولين على المبادرة لاتخاذ القرار بحلّ الأزمة في لبنان، باعتبار أنها ليست الأولى من نوعها وبالتالي ليست مستعصية على الحل ذاتياً. حيث تثبت المراجع والأدبيات الاقتصادية وجود أزمات عديدة مشابهة حصلت سابقاً في العالم وأمكن تجاوزها خلال سنوات قليلة، وذلك باعتماد حلول معيارية تتوافق مع الممارسات الدولية ويمكن إدراجها ضمن عدّة أبواب وهي: إدارة الأصول، تقديم الضمانات من الدولة، توفير السيولة، ضخ رؤوس الأموال، إعادة الهيكلة، تعديل القواعد الناظمة للعمل المصرفي وغيرها من الحلول.
* المصدر: موقع العهد الاخباري
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع