السياسية – مركز البحوث والمعلومات:

 

تدخل الحرب في الداخل الأوكراني عامها الثاني، ومازالت المعارك على أشدها بين المتحاربين في مختلف جبهات الصراع من إقليم دونباس وصولا إلى إقليم خيرسون مروراً بشبه جزيرة القرم، ومع اشتداد المعارك الحربية يبدو أن الاستنزاف هو الحقيقة الماثلة اليوم في مختلف الميادين “العسكرية والاقتصادية والسياسية” ولمختلف الأطراف، دون معرفة من بمقدوره الصمود مطولاً، لا سيما مع الدعم العسكري والاقتصادي “غير المسبوق” من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها للجانب الأوكراني.

بعيداً عن الخوض في تفاصيل الصراع العسكري رغم بروز التهديدات النووية في الآونة الأخيرة، لا بد من الذهاب في ما هو أبعد من ضجيج وأصوات المدافع والانفجارات وهو الصراع في بعده الاقتصادي الذي لا يقل تأثيراً، بل يزيد، مع مرور الوقت لكون ضجيجه يتعدى حدود البلدان المتصارعة إلى مختلف أصقاع العالم.

هذا التأثير قد يكون إيجابياً لبعض الأطراف وسلبياً للبعض الأخر، وما لا يمكن تجاوزه في هذه السطور ما له علاقة بالرغبة الأمريكية في تحقيق الاستفادة المثلى من الحرب، وعلى وجه الخصوص في الجانب الاقتصادي والتجاري وهو محور حديثنا في هذا الورقة.

التنافس التجاري الدولي لم يكن وليد هذه المرحلة، ولكنه تعاظم بصورة كبيرة مع بداية الحرب في أوكرانيا وأصبح واضحاً أن الحرب سرّعت من تشكل التحالفات المختلفة بالمقارنة عما كان عليه الوضع خلال العقود السابقة، ولا سيما في التجارة الدولية.

في هذا السياق، هناك من يرى أن هذا التنافس يمثل امتداد طبيعي للمخاض الطويل الذي يشهده النظام الدولي والتحولات الهيكلية في مختلف المجالات، بما فيها السياسي والاقتصادي، وما الصراع والتنافس الجيوسياسي ما بين القوى المهيمنة سيما الولايات المتحدة والصين سوى انعكاس مباشر لهذا الواقع المسيطر في عالم اليوم.

هذا الصراع في حقيقته لا يلغي أن البلدان يجمعهما الكثير من المصالح، ولغة الأرقام تشير إلى حجم التجارة السنوي بينهما هو الأكبر بين بلدان منذ عقود، وتشير البيانات الأمريكية أن حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2022 وصل إلى حوالي 690 مليار دولار، وتعدت هذه الفوائد البلدان لتشمل الاقتصاد العالمي جراء حجم التبادل الهائل في المنظومة الاقتصادية الدولية، وبما أسهم في المحصلة النهائية في زيادة النمو الاقتصادي العالمي خلال العقود الماضية.

وحسب الأرقام السابقة هناك من يعتقد أن الوجب على البلدين الحفاظ على هذه التقارب، بالمقابل هناك من لديه وجهة نظر أخرى مغايرة لا سيما في الجانب الأمريكي، مرجعاً ذلك إلى عوامل سياسية وأخرى مرتبطة بالخلل في الميزان التجاري لصالح التنين الصيني، حيث تشير الأرقام أن صادرات السلع الأمريكية إلى الصين تبلغ 153.8 مليار دولار، فيما تبلغ الواردات حوالي 536.8 مليار دولار.

لكن التوترات المتصاعدة والخلافات القائمة منذ سنوات توحي إلى أن الطرفان يمضيان إلى فك الارتباط الاقتصادي بينهما،  وتقليل اعتماد كل طرف على الأخر، وقبل أن نتحدث عن ما يدور اليوم أو نستشرف المستقبل لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء وتحديداً في العام 2018 عندما شهدت العلاقات الاقتصادية بين البلدين حرباً تجارية “غير مسبوقة” بعد إعلان واشنطن فرض رسوم جمركية على الواردات الصينية (للحد من صعود العجز التجاري لصالح الأخيرة) مبررة ذلك التوجه إلى الممارسات التجارية غير العادلة، كسرقة الملكية الفكرية وعدم وصول الشركات الأمريكية إلى السوق الصينية، وغيرها من القرارات والهادفة في مجملها إلى تقويض التنين الصيني اقتصادياً.

وبعيداً عن الخوض في خسائر الطرفين جراء تلك الحرب وما أعقبها من تهدئة لا بد من التأكيد أن الاستراتيجية الأمريكية في هذا السياق لم تعد خافية على أحد وفي المقدمة الغريم الصيني، حيث سارع الساسة في واشنطن في نهاية عهد الرئيس الجمهوري السابق “دونالد ترامب” وبداية عهد الرئيس الديمقراطي “جو بايدن” على دراسة البدائل الممكنة لتعزيز سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد على الصين، هذا التوجه تحول إلى خطوات عملية من خلال زيادة التجارة الأمريكية مع حلفائها التقليديين في مختلف أنحاء العالم.

وبناء على ما تقدم، يمكن ربط ما وراء الدعم الأمريكي وحلفائه للجانب الأوكراني  في المواجهة العسكرية مع الدب الروسي ومن خلفه القوى الرافضة لسياسة الهيمنة الغربية والأمريكية، فمن ناحية كان سلاح العقوبات الاقتصادية المفروض على موسكو بمثابة رسالة “لا يمكن أن تخطئها العين”  من واشنطن إلى القوى المنافسة وفي مقدمتها الصين أنها بصدد إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي الحالي بما يتوافق مع مصالحها، ولنا في التصريحات الأخيرة بين واشنطن والاتحاد الأوربي خير دليل على النوايا المراد تطبيقها وتعميمها على مستقبل التجارة الدولية.

وما جرى الحديث عنه خلال المرحلة السابقة من أن هناك مساعي متقدمة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في صياغة اتفاق تجاري بينهما، أصبح قريب المنال لا سيما بعد إعلان الطرفان “رويترز” حسب تصريح مسؤول رفيع في الاتحاد الأوروبي قوله “أن واشنطن والاتحاد الأوروبي يصيغان اتفاقاً تجارياً يماثل اتفاق تجارة حرة”.

هذا الإعلان كان واضحاً في أن هناك بوادر تشكل خارطة جديدة للتجارة الدولية، وما سرّع في هذا التوجه، كما يرى العديد من الخبراء هو اشتعال الحرب في أوكرانيا، وتزامنت الأزمة مع رغبة الولايات المتحدة في تغيير قواعد التجارة الدولية لصالحها من خلال استغلال الأزمات المختلفة بما فيها أزمة أسعار الغداء والطاقة، هذا من جهة ومن الجهة الأخرى الاستفادة من حالة الذعر التي يعيشها الحلفاء في كلاً من أوروبا جراء تصاعد الحرب في أوكرانيا، إضافة إلى تصاعد التوترات في شرق أسيا “بحري الصين واليابان”

ويشير عدد من الخبراء، أن واشنطن تسعى إلى مزيد من الاستحواذ على الأسواق التقليدية إضافة إلى أسواق جديدة تكون فيها حرية التجارة دون منافس حقيقي من قبل القوى الاقتصادية الكبرى، ولن يتحقق هذا الهدف في ظل بقاء العمل في منظمة التجارة العالمية واتفاقاتها المختلف المنظمة للقواعد الحاكمة للتجارة الدولية بين الدول منذ إنشاءها في العام 1995.

وبالتالي فإن تغيير قواعد التجارة الدولية سوف يكون أحد أهم الأهداف المراد تحقيقها على المدى المتوسط والطويل، من خلال فرض سياسة الأمر الواقع على الحلفاء قبل الخصوم، وهذا ما كان بعد أن أعلنت واشنطن عن خطة دعم صناعي بقيمة تبلغ 369 مليار دولار لدعم برامج أمن الطاقة وما يسمى بالصناعات الخضراء، إضافة إلى استثمار حوالي 300 مليار دولار في برامج خفض العجز بموجب قانون “خفض التضخم”، فيما كان الرد من الحلفاء في أوروبا خجولاً على هذا القرار من خلال تصريحات دبلوماسية تقول “لقد غيّر قانون خفض التضخم كل شيء. هل ما زالت واشنطن حليفة لنا أم لا”!!.

حتى تضع الحرب في أوكرانيا أوزارها لم ولن تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة التطرف وفرض شروطها وابتزازها للعالم أجمع وفي مختلف المجالات السياسية والاقتصادية، ولكن ما لا تدركه واشنطن أن حساباتها الخاطئة والكارثية في “احتلالها كلاً من افغانستان والعراق وحربها على سوريا وعدوانها على اليمن” سوف تتكرر لا محالة في الحرب الأوكرانية، والنتائج حتماً سوف تكون كارثية على مستقبل أمريكا وحلفائها عاجلاً أم آجلاً.