السياسية:

إن استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، دليل على سياسات واشنطن غير الشرعية في بلد أجنبي، وهو الأمر الذي ليس فقط لم يحصل على موافقة الكونغرس في هذا البلد، بل يوفر أيضًا العديد من الأسباب لخلق توتر ونزاعات أوسع في المنطقة، يمكن أن تفرض الكثير من التكاليف على الولايات المتحدة وحلفائها.

يتركز اهتمام العالم حاليًا بشكل كبير على الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فضلاً عن تصاعد التوترات بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان. وفي هذه الأجواء، هناك اتجاهات مقلقة أخرى في مجال السياسة الخارجية والعسكرية الأمريكية أقل ملاحظةً وتحليلاً.

أحد هذه المجالات هو استمرار الوجود الأمريكي في سوريا. هذا الوجود العسكري موضع الاحتجاج من مختلف الأبعاد القانونية والأخلاقية والاستراتيجية، لكن الغريب أنه يواجه دعماً واسعاً من الحزبين الديموقراطي والجمهوري في الكونغرس الأمريكي ومؤسسات السياسة الخارجية لهذا البلد.

يصعب على الأمريكيين تبرير وجودهم العسكري في سوريا من أي وجهة نظر. إن نشر قوات الاحتلال الأمريكية في شمال شرق سوريا، الغنية بالموارد النفطية، لا يمكن تبريره بسهولة وقد أثار الكثير من الشكوك حول الدوافع المحتملة لواشنطن.

إضافة إلى ذلك، فإن قوات سوريا الديمقراطية الكردية، التي لها علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، لا تتصرف وفق المبادئ الديمقراطية. وبالطبع، فإن القوات الأمريكية المتمركزة في سوريا قد استُهدفت مرات عديدة من قبل حلفاء إيران، وليس لها موقع قوي.

في غضون ذلك، تسبب الوجود الأمريكي في شرق سوريا في توترات خطيرة بين الولايات المتحدة وتركيا، كأحد حلفائها في منظمة حلف شمال الأطلسي.

في تشرين الثاني(نوفمبر) 2022، وضعت أنقرة جولةً جديدةً من القصف الجوي على مواقع القوات الكردية في شمال سوريا على جدول أعمالها. ونُفِّذت إحدى هذه الهجمات على مسافة 300 متر من قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، ما دفع واشنطن للشكوى من تركيا، والتأكيد على أن مثل هذه الأعمال تعرض حياة القوات الأمريكية في سوريا لخطر جسيم.

إن تزايد الخلافات بين تركيا والولايات المتحدة فيما يتعلق بالقضية السورية ليس مشكلةً صغيرةً، والسبب الرئيسي لهذه القضية هو أن الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى تركيا للعمل في إطار السياسة الكلية لحلف الناتو، والتي تتمثل في فرض العزلة على روسيا في خضم حرب أوكرانيا.

ومع ذلك، كانت سياسة تركيا تجاه روسيا غامضةً، وفيما يتعلق بإيران، فقد أثارت قلق واشنطن بشكل خطير. والسبب الرئيسي لهذه القضية هو أن تركيا أقامت علاقات جيدة مع طهران، واكتسبت إيران المزيد من القوة لتجاوز العقوبات المفروضة عليها باستخدام هذه القضية. وفي هذه الأجواء، إنه لأمر كارثي حقًا أن يكون لأمريكا خلاف مع تركيا بشأن القضية السورية.

اتخذت سياسة واشنطن غير العقلانية وغير المنطقية تجاه سوريا آثارًا ملموسةً لبعض الوقت. ومع ذلك، فقد تسارعت هذه العملية في الآونة الأخيرة أكثر فأكثر.

بدأت سياسة أمريكا الخاطئة تجاه سوريا في عهد باراك أوباما. في ذلك الوقت، بذلت حكومة الولايات المتحدة جهودًا مكثفةً للتعاون مع السعودية وتركيا وقوى سنية أخرى في العالم الإسلامي للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد من السلطة. والسبب الرئيسي والدافع وراء هذه الحملة، هو أن الحكومة السورية لها علاقات وثيقة مع إيران، لذا يجب الإطاحة بها.

في الواقع، كانت سوريا الشريك الاستراتيجي الرئيسي والحليف الاستراتيجي لإيران في منطقة الشرق الأوسط. في الوقت نفسه، كان للحكومة السورية علاقات وثيقة مع روسيا لفترة طويلة. لذلك، اعتقد الغرب وحلفاؤه أن الحكومة السورية برئاسة “بشار الأسد” قد ارتكبت خطأين لا يغتفران، وهما إقامة علاقات وثيقة مع كلا من إيران وروسيا.

بذل خصوم وأعداء سوريا في الشرق الأوسط جهودًا متضافرةً للإطاحة بالنظام السياسي في سوريا. تلقى هذا النظام السياسي الكثير من الدعم من الأقليات الدينية في سوريا. في غضون ذلك، يمكن أن نذكر دعم المسيحيين والدروز والعلويين لحكومة بشار الأسد.

وفي هذا الإطار، زادت واشنطن من حدة دعمها للفصائل المعارضة لحكومة بشار الأسد، وشنت حملةً واسعةً ضدها بأبعاد مختلفة.

حاولت حكومة أوباما إطلاق نوع من اللعبة الأخلاقية، وتصوير حكومة بشار الأسد على أنها غير أخلاقية وشيطانية. وفي هذا الإطار، بذلت الحكومة الأمريكية في ذلك الوقت أيضًا جهودًا كثيرةً لوصف الجبهة المعارضة لبشار الأسد بالأشخاص الذين يقاتلون من أجل “الحرية”.

وأصر صانعو السياسة الأمريكيون على هذا النهج، وكان هذا على الرغم من حقيقة أن العديد ممن يسمون بالمقاتلين من أجل الحرية، كانوا في الواقع إرهابيين تابعين لجماعات خطيرة مثل داعش والقاعدة.

أدى دخول روسيا في معادلة الحرب الأهلية السورية في عام 2015، لدعم النظام السياسي القائم في هذا البلد، إلى تدمير آمال الجماعات الإرهابية وحكومة الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين في كسب الحرب السورية إلى حد كبير. لكن إدارة أوباما رفضت التخلي عن حملتها في الحرب والصراع ضد سوريا.

في الواقع، في نفس الوقت وحتى قبل ذلك، كان لدى الحكومة الأمريكية خطط كثيرة للتواجد في سوريا. وتسبب هذا الإجراء الذي اتخذته الحكومة الأمريكية في انتقادات وجّهها قادة أميركيون تشير إلى وجوب احترام ما يسمى النظام الدولي القائم على القواعد والقانون.

في هذه الأجواء، كانت سوريا دولةً مستقلةً ومعترف بها دولياً، لكن الولايات المتحدة أدخلت بوقاحة قواتها العسكرية في جزء من أراضي هذا البلد. واستمر هذا التدخل الأمريكي في سوريا حتى في ظل تصاعد التوترات بين هذا البلد وتركيا.

كان رجب طيب أردوغان أحد الداعمين الرئيسيين لجهود إزالة بشار الأسد من السلطة السياسية في سوريا، ودعم بقوة الجماعات المعارضة له. ومع ذلك، فقد تضاءل حماسه إلى حد كبير بعد أن رأى أن الاضطرابات في سوريا أدت إلى تحركات كبيرة من قبل بعض الجماعات الكردية بالقرب من الحدود التركية، والآن قبلت تركيا بالكامل واقع النظام السياسي السوري وبشار الأسد.

حتى أن أردوغان حذر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من أن ينقل القوات الأمريكية التي كانت موجودةً في الأراضي الخاضعة لسيطرة القوات الكردية. كما اتخذ ترامب نفس الإجراء عشية الهجوم العسكري التركي على سوريا في المناطق القريبة من الحدود مع هذا البلد.

واللافت أنه على الرغم من أن القوات الأمريكية غيرت مواقعها في ذلك الوقت، إلا أنها ما زالت مستهدفةً بنيران المدفعية وقوات الجيش التركي.

والملاحظ أن الكونغرس الأمريكي لم يأذن مطلقًا بالمهمة العسكرية الأمريكية في سوريا. ومع ذلك، اتخذ تحالف من الحزبين بقيادة السياسية الأمريكية من المحافظين الجدد “لين تشيني” العديد من الإجراءات، وفي إطارها تمت إدانة وحظر أي انسحاب للقوات الأمريكية من الأراضي السورية بأشد الأدبيات قسوةً وعدوانيةً.

وفي هذا الصدد، رأينا أنه على الرغم من التصريحات الرسمية التي تؤكد أن أمريكا لديها نحو 400 جندي شرقي سوريا، ومع ذلك تشير البيانات الميدانية إلى أن عدد القوات المذكورة يتراوح بين ألفين وأربعة آلاف شخص.

خلال فترة بايدن أيضًا، لم يصبح النهج الأمريكي تجاه سوريا أكثر قانونيةً ولا أكثر تماسكًا. ويبدو أن السياسة الأمريكية في التعامل مع سوريا تمضي قدمًا دون هدف واضح، لكنها تتخذ موقفًا أكثر خطورةً يومًا بعد يوم.

في تشرين الأول(أكتوبر) 2022، مارس القادة الأكراد السوريون ضغوطًا كبيرةً لجذب المزيد من الدعم من واشنطن. حتى أن القادة الأكراد طالبوا الحكومة الأمريكية بوقف الهجمات التركية على شمال سوريا، وهي قضية ستزيد الخلافات بين أمريكا وتركيا. في الوقت نفسه، أدى تكثيف واستمرار الوجود الميداني للولايات المتحدة في سوريا، إلى زيادة كبيرة في خطر نشوب صراعات أوسع.

هناك أيضًا خطر آخر، وهو أنه ربما يمكن للمجموعات المؤثرة والضاغطة أن تنجح في جهودها لتعميق الوجود العسكري الأمريكي في سوريا. وبطبيعة الحال، فإن خطر نشوب صراع بين الولايات المتحدة وروسيا حول حرب أوكرانيا خطير أيضًا، لأن روسيا قوة نووية ويمكنها توجيه ضربة قاسية لواشنطن. ومع ذلك، لا ينبغي أن ننسى أو نستهين بالمخاطر المتزايدة والمتعددة التي يسببها التدخل الأمريكي في سوريا.

* المصدر: الوقت التحليلي

* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع