خنجر ابن سلمان وفلسطين
أحمد فؤاد
مناسبات الانتقال التاريخي دائمًا ما تستدعي الانتباه إلى ضرورة التوقف قليلًا أمام مشاهد بعينها أو سياسات قد أخذت وقتها. وإطلالة عام جديد على المنطقة العربية تستدعي أكثر من وقفة تأمل وأعمق من نظرة فحص، هي مناسبة تستوجب التفكر والتدبر، وتفرض علينا إعادة فحص الحسابات ومراجعة الدفاتر، ومساءلة النفس عن المكان الذي وصلنا إليه، اليوم.
تقف الأمة العربية كلها أمام تحدي بقاء، لم يعد الوقت رفاهية نملكها، أو حتى نستطيع شراءها، للاستمرار في مسيرة العمل الوطني الحالية، فأوقات اليسر والهدوء قد تمنح الفرص للتساهل والتفاؤل، وربما التسويف والتأجيل، لكن أوقات الأزمات الكبرى المشتعلة حاليًا، تضغط بالتنبيه والتحذير، وتضرب نواقيس الإنذار وتطلق صافرات الخطر، وكل فرصة في هذه الأوقات هي تحدٍّ وجب عبوره، بأقل قدر ممكن من الخسائر المحتملة.
ويمكننا القول بأمانة، دون السقوط في فخ الجموح والقفز فوق حقائق الأشياء، أو الدخول إلى مصيدة التشاؤم باعتبارها أولى طرائق الانكشاف والاستسلام، أن عام 2022 هو عام فلسطين بامتياز، عادت قضية العرب والمسلمين المركزية إلى قلب الشارع العربي عنوانًا وهدفًا ورجاءً، وإذا كانت هذه العودة تكللت بعشرات ومئات الأرواح الطاهرة للمقاومين، فإنها قد انعكست وميضًا رآه العالم كله خلال شهر كامل، جرت فيه بطولة كأس العالم الماضية، والتي أعادت زخمًا دوليًا، يمكن له أن يتسع مستقبلًا ويمكن أيضًا أن يكون مؤثرًا.
ومن جهة الإحصائيات للعام الماضي، فقد جاءت كشفًا لتغير مهول طرأ على الأرض العربية في فلسطين منذ إعلان المقاومة “وحدة الساحات”، إلى اليوم، والفارق المذهل لعدد العمليات النوعية التي نفذها فلسطينيون يمنح، دون جهد التحليل، الإجابة عن سؤال ما الذي ننتظره في العام الجديد؟ في 2019 نفذت المقاومة 19 عملية نوعية، ارتفعت في العامين التاليين إلى 31 ثم 61 عملية، لكن في 2022 تمكنت المقاومة من القيام بـ 285 عملية نوعية ضد الكيان، وارتفعت فيها فاتورة الخسائر الصهيونية إلى 31 قتيلًا مقابل 4 قتلى فقط في 2021.
وشهد العام أيضًا متغيرًا مهمًا، وهو تنوع الجبهات التي استهدفتها المقاومة في خاصرة العدو الرخوة، وامتد التهديد جغرافيًا إلى كل شبر من أرض فلسطين، بدءا من بئر السبع والخضيرة وصولًا إلى “تل أبيب”، والأهم أن عمليات الصهاينة في الداخل الفلسطيني، جنين والناصرة وغيرهما، لم تعد نزهة عسكرية يدفع الفلسطيني فيها الدم دون ثمن، بل تحولت إلى كوابيس قلقة تطارد وزراء الكيان ومسؤوليه، وبالتالي أصبح القرار كله رهينة للخوف من الانزلاق إلى مواجهة أكبر، لم يعد جيش الاحتلال وحده من يمتلك السلاح فيها.
وخلال المواجهات والاقتحامات التي امتدت طوال العام، ظهرت قوة الإرادة الفلسطينية وشدة بأسها وثقتها في خيار المقاومة، رغم تكاليفه الفادحة، مع لجوء الكيان إلى الاستهداف المباشر بغرض القتل والإعدامات الميدانية أمام أية احتمالات خطر، والتي رفعت من عدد الشهداء إلى 224، أغلبهم من الضفة الغربية، بالإضافة إلى امتداد يد الإجرام والبغي لتقطف أرواح 61 زهرة من فلسطين، من الأطفال.
وجاء المدد للخيار الفلسطيني عبر المواجهة التي نشبت حول حقل “كاريش” البحري، بين المقاومة اللبنانية والكيان، وعبر صراع إرادات عميق وواسع المدى استطاع سماحة السيد حسن نصر الله أن ينتزع فيه الحق من الأنياب الأميركية والصهيونية، والتي لم تكن تعرف سابقًا سوى التهامنا، متى شاءت وأنّى شاءت، وكشف السيد من جديد عن صدق كلماته في وصف الكيان “أوهن من بيت العنكبوت”.
كانت معركة كاريش فرصة لتعاين فلسطين أبطالًا قهروا الكيان، بإرادة ويقين وثقة خالصة، مرة بعد مرة، لتحفظ الدرس جيدًا وتعيد ترديده كلما نعت شهيدًا جديدًا إلى علياء المجد، إن الكيان المؤقت واقع طارئ وحدث عابر في الأرض العربية، أما الذي يبقى هنا فعلًا فهو الشعب وإرادته الحرة ومنهجه السليم والصادق، وأن الشعوب الحية لا تهزم، والنكبات في طريق تطورها التاريخي هي طبيعة الحياة وضرائبها ومشاقها وآلامها، في سبيل تحقيق لحظة يقظة الإرادة.
في مقابل هذا الواقع الجديد على قضية فلسطين، لا تزال الطعنة التي تمثلها الأنظمة العربية الرسمية مستمرة وحادة، وكل فصل فيها مصبوغ بمرارات الخيانة والحقد والعار، وفي السعي الخليجي المحموم نحو نيل رضا السيد الأميركي عبر باب الكيان المفتوح والمستعد، فإنهم لم يبيعوا القضية وفقط، وإنما اضطر بعضهم إلى بيع الخيال، عبر ادعاء أحد مشايخهم أن السلام بين دول الخليج والكيان ينهي حالة العداوة والحرب، وكأنهم قاتلوا!
ما يمثله هذا السعي الخليجي هو أنه يخصم من القضية مباشرة مخزون إمدادها وعمق أمتها الحيوي واللازم، فوق أنه يحقق هدفًا صهيوــ أميركيًّا أعلى، يتمثل في إشعال جذوة الخلافات الدائمة بين الدول العربية، وتحويل صراعات الحكام إلى قضايا وطنية، ومصالحهم القذرة إلى أولويات العمل العام في بلدانهم.
وكما كان للعائلة السعودية السبق في استضافة الأميركي والفضل في إلحاق عدد من الدول العربية الأخرى بالحظيرة المفتوحة، فإن ولي عهدها محمد بن سلمان يخطط لخطوة كبرى نحو الكيان، واضعًا ختم القبول النهائي من واشنطن على عرشه، وهي خطوة أقرب مما يتصور أي متشائم، مع بدء انتشار الأنباء حوله في الصحافة الأميركية.
لكن رغم أن قصة التطبيع بين العدو وبين الأنظمة العربية يحمل القضية بالمزيد من الهموم والعوائق، إلا أن انسحاب هذه النظم، التي لم ولن ترفع لواء مواجهة، من مواجهة أعباء القضية لن يكسرها ولن يعجزها عن العمل، كما أن انسحاب مصر والأردن من خندق العداء لم يدفع بالمواطن الفلسطيني إلى اليأس من واقعه أو الكفر بقضيته، ولا يزال يمسك على جمر المقاومة ويورثه.
أن الحقيقة تقتضي القول إن كل جهود التطبيع الشعبي بين الكيان وبين أطراف عربية لم يخرج من القصور، السلام الدافئ مع القاهرة ــ مثلًا ــ لم ينعكس في الشارع المصري على الإطلاق منذ توقيع اتفاقية كامب دافيد المشؤومة، ولم تزد العلاقات المحرمة مع الكيان نظم حكمها المتعاقبة إلا بعدًا عن جماهير شعبها، وبالتالي فقد رفعت احتمالية فشلها أصلًا في الحكم والإدارة، وهو ما نعاينه ونعانيه يوميًا.
- المصدر: العهد الاخباري
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع