الشخصية اللطيفة التي يبدو عليه ولي العهد السعودي، لم تعد ذلك الغطاء المناسب في الوقت الذي توشك حقيقة الجريمة أن تبصر النور.

افتتاحية صحيفة “لو موند” الفرنسية

 

(صحيفة “لوموند” الفرنسية- ترجمة: محمد السياري- وكالة الأنباء اليمنية “سبأ”)

مع مرور الأيام ، بدأت حقيقة الشخصية التي يتخفى وراءها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في التجلي شيئاً فشيئاً؛ أو بالأحرى، مع انكشاف المزيد من ملابسات جريمة اغتيال الصحافي السعودي، جمال خاشقجي- وإن كانت وسائل الإعلام لا تحصل سوى على الشيء اليسير وببطئ شديد- أصبح من الأيسر تحديد معالم هذه الشخصية الاستثنائية بشكل أفضل وبوضوح أكبر.

وقد كانت آخر تلك المعلومات بمثابة الضربة القاضية لتلك الشخصية “المسالمة” التي تبدو لعجزها أمام تلك المستجدات كما لو كانت هي “الضحية” في حين تسود ملامحها الابتسامة البريئة على كافة القنوات الرسمية.

تسجيلات صوتية صادمة ومروعة:

منذ أيام قليلة ، كانت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، كشفت أنَّ ولي العهد السعودي، أخبر أحد مستشاريه في العام 2017 عن نيته المبيتة في تصفية الصحافي السعودي، المنفي إلى الولايات المتحدة الأميركية، ما لم يرجع إلى “الحظيرة” ويتوقف على الفور عن توجيه الانتقاد الخطيرة ضد المملكة العربية السعودية. أما ما يتبع ذلك فقد بات الجميع على دراية كاملة به: حيث زار جمال خاشقجي القنصلية السعودية في مدينة اسطنبول التركية، في بداية أكتوبر من العام 2018، ليلتقي هنالك بـ”الباربوز”* الذين يهتمون بنقله إلى خانة الذكريات الدافئة للزعيم السعودي الشاب.

ووفقاً لما تم إعلانه على وسائل الإعلام الأميركية ، فإنَّ “المحادثة التي جرت بين ولي العهد السعودي ومستشاره ، والتي تم اعتراضها من قبل جهاز الاستخبارات المركزية الأميركي (السي أي أيه)، هي أكثر الأدلة تفصيلاً وقوة حتى اللحظة ، وأنَّ ولي العهد قد فكر وبكل عزيمة في قتل السيد خاشقجي قبل أن يقوم فريق من عملاء الاستخبارات السعوديين بتنفيذ عملية خنقة حتى الموت ومن ثم تقطيع جسده وإخفاءه حيث لا يمكن الوصول إليه “. وفي حين أنَّ السلطات السعودية، قامت في 3 يناير الماضي بفتح ملف التحقيق في قضية أولئك العملاء مع اتخاذ أقصى درجات السرية والتعتيم ، إلا أنها في مرحلة الاستئناف في 31 من الشهر ذاته حرصت وبكل شدة على التغييب الكلي لوسائل الإعلام والصحافة.

من ناحية أخرى، ذهبت رئيسة فريق التحقيق في قضايا الإعدام غير القانونية التابع لمنظمة الأمم المتحدة، أغنيس كالامار، إلى التأكيد على “أنَّ السيد خاشقجي كان ضحية جريمة قتل وحشية مع سبق الإصرار والترصد تم تنفيذها من قبل مسؤولين تابعين للحكومية السعودية”؛ وفي الوقت ذاته كشفت بـ”أنَّ التعامل مع هذه القضية من قبل الحكومة السعودية، كان يفتقر إلى المصداقية والشفافية”؛ وعلى الأرجح أنَّ تعاطي هذه الأخيرة مع القضية لم تكن الغاية منه سوى طمأنة الشركاء الدوليين للمملكة.

وفي السياق ذاته، أشارت الخبيرة الفرنسية، التي تقود تحقيقاً دولياً مستقلاً، إلى أنَّ التقرير المقدم للمنظمة “يستند إلى الأدلة التي تم جمعها في إطار فترة تواجد الضحية في تركيا على غرار التسجيلات الصوتية الصادمة والمرعبة التي تم الحصول عليها آنذاك”.

همجية وحشية أم ضرورة سياسية!

بالرغم من أنَّ السيدة كالامار كانت أقرت بأن فريقها لم يكن بالمستوى المطلوب للمصادقة على تلك “المادة الصوتية”، إلا أنَّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية خلصت، في نوفمبر الماضي، بعد التدقيق الشديد والبحث الطويل في العديد من مصادر المعلومات- بما في ذلك مكالمة هاتفية بين الصحافي المقتول والسفير السعودي لدى الولايات المتحدة الأميركية، خالد بن سلمان- إلى أنَّ ولي العهد السعودي هو بلا شك من أصدر الأمر بالتخلص من السيد خاشقجي.

ومن هذه الإحاطة التي تضاف إلى ما كشفت عنه صحيفة “نيويورك تايمز” مؤخراً يمكننا أن نستشف العديد من الحقائق التي تخبرنا الكثير عن شخصية محمد بن سلمان وأساليب العصور الوسطى التي عادت بفضله إلى الحياة من جديد، بل وأيضاً يتسنى لنا معرفة إلى أيِّ حدٍ قد يبلغ طموح تلك الهيئة اللطيفة التي بالرغم من أننا قد خُدعنا بها طويلاً إلا أنها لن تدوم طويلاً بذلك القدر.

إذن، من المفترض وبصورة حتمية أن يقدم جميع ما سبق من إحاطات ومستجدات سبباً قوياً وكافياً لجعل شركاء الرياض، بغض النظر عن جنسيات كلاً منهم، يعيدون النظر في العلاقات التي يقيمونها مع المملكة السعودية! وإلا فكيف من الممكن الاستمرار في إقامة الصفقات التجارية والمحافظة على العلاقات الدبلوماسية والتصرف كما لو كان لبقاء الدولة الأولوية المطلقة على كافة ما دون ذلك، لاسيما في ظل وجود زعيم على أهبَّة الاستعداد لانتزاع روح صحافي أربكت كلماته رهافة مسمعه؟ وهل تحلل النافذون من السلوكيات الأخلاقية والسمات الإنسانية حتى أنهم لم يعودوا يميزون بين البربرية الهمجية والضرورات السياسية؟ وفضلاً عن كل ما سبق فمن الواضح أنَّ ذلك ما أصبح عليه كلاً من محمد بن سلمان و”أصدقاءه”- في صدارتهم الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا – للأسباب الدبلوماسية والاقتصادية التي لا أظن أنَّ أحداً مازال يجهلها.

خلاصة القول، يبقى الأمل الوحيد في الوقت الراهن أن يخلص التحقيق الدولي الذي تجريه الأمم المتحدة إلى تسليط الضوء على كافة محاور القضية، كي يتسنى بذلك في نهاية المطاف تحديد هوية “الجناة الأصليين” في الجريمة والنيل منهم.

وفي انتظار تحقق ذلك، يتوجب علينا أن نتحلى بالإيمان الراسخ والثقة المطلقة في أنَّ المزيد من الملابسات ستبصر النور، والمزيد من الحقائق ستكشف إلى أن يماط اللثام عن حقيقية تلك الشخصية المتمثلة في ولي العهد السعودي.

* الباربوز: اسم يطلق على عملاء المخابرات المكلفين بإنجاز الأعمال القذرة كالخطف والاغتيالات وغيرها من الأعمال التي لا يجب أن تحمل أي دلالات على تورط الدولة فيها.