ما الذي جرى لبريطانيا بعد فترة رخاء التسعينيات؟
عندما كنت يافعاً لم أعتقد أني قد أتبجح بالأيام الماضية السعيدة وأترحم عليها وأنا لا أود أن أعيد عقارب الساعة إلى الوراء ولكن ما العمل؟
السياسية: جيمس براون *
عندما يسألني الناس ما الذي ميز سنوات تسعينيات القرن الماضي، وهذا السؤال يتكرر من قبل كثيرين حالياً، أجد سهولة في تعداد الأشياء التي أحببتها في تلك الفترة. المهرجانات، كرة القدم، والموسيقى، والفنانون الكوميديون، والشعور الطاغي بالحرية والحماسة فيما كان القرن ــ وحتى عصر كامل يشرف على الانتهاء.
لقد كان ذلك العقد من الزمن يودع قرناً وفيه أكثر وسائل النقل شعبية في وسط المدن هي العربة التي تجرها الخيول، وانتهى مع إتاحة الاتصالات الهاتفية بواسطة الفيديو عبر الإنترنت ذات النطاق العريض، كما لو أن حلقتين منفصلتين من السفر عبر الزمان من سلسلتي “ستار ترك” Star Trek و”دكتور هو” Doctor Who دمجتا في عرضٍ واحد. لقد كانت حقبة التسعينيات بمثابة آخر محطة للاستمتاع إلى أقصى حد طالما كان متاحاً ــ لكن وعلى رغم كل ذلك السعي المبالغ فيه وراء السعادة المطلقة (الهيدونية) hedonism، لطالما شعرنا أن الأمور كانت تتطور في الاتجاه الصحيح وتسير نحو الأفضل.
ورأينا كيف برز جيل جديد من المبتكرين وذوي المواهب الرياضية، وذلك كله أسهم في نجاح المطبوعة “لوديد” Loaded، التي أسستها عام 1994، في تسديد ميزانية تشغيلها لفترة ثلاث سنوات خلال اثني عشر أسبوعاً فقط. لم تكن المجلة يوماً مقصرة في العثور على موضوع قوي ليتصدر غلافها: من النجوم أمثال غاري أولدمان Gary Oldman، إلى كايلي مينوغ Kylie Minogue، ومن ويل كارلينغ Will Carling إلى مسلسل “سيمبسون” The Simpsons، ومن “فيك وبوب” Vic and Bob إلى نجمة فيلم “بالب فيكشن” (خيال رخيص) Pulp Fiction أوما تورمان Uma Thurman.
صورة “بريطانيا الرائعة” Cool Britannia، وموسيقى البوب البريطانية، وحفلة فرقة “أواسيز” Oasis في كنيبورث Knebworth، ونجم الكرة الإنجليزي “غازا” Gazza [بول غاسغوين] في بطولة الأمم الأوروبية لكرة القدم في عام 1996، فرقة بلورBlur و”سبايس غيرلز” Spice Girls، التي غزت المراتب الأولى في لوائح تصنيف الأغاني ــ لقد كان جيل (صنع من أجل) وحدد مساره أشخاص مفعمون بالأمل وحيوية الشباب.
كانت قوانين الحصول على التراخيص متساهلة، وكانت الملاهي الليلية يغذيها إدمان الحب، شهدت تلك الحقبة صعود “معدي الموسيقى دي جاي” DJ، وأسهمت الرحلات الجوية التجارية الرخيصة في اختيار مقصد لإجازاتنا، وكانت هناك كتب رائعة جديدة مثل كتاب “ترينسبوتينغ” Trainspotting و”ذا بيتش” The Beach كي نقرأها على متن طائرات ستيليوس Stelios [صاحب شركة الطيران الاقتصادي “إيزي جيت” easyJet]. وشعر المقيمون في بريطانيا بأنها مكان مثير ونابض بالحياة.
أول أيام عقد التسعينيات شهد إطاحة مارغريت تاتشر وبعد فترة [رئيس الوزراء السابق] جون ميجور الانتقالية الرمادية ــ برز حزب العمال “الجديد” بقوة، مالئاً الساحة السياسية بالأمل، والمدارس بمزيد من الكتب والمستشفيات بمزيد من الأسرة. وفجأة بدت الأمور وكأنها أفضل فصل من فصول حياتنا وربما أكبرها. من المرتبة العاشرة صعدت البلاد لتصبح في المراتب الأولى، وكسرت كل الأرقام القياسية. لا أعتقد أن أحداً كان يتوقع هذا التراجع في الأداء الذي تجد بريطانيا نفسها فيه حالياً.
إن أسوأ فصول هذا التراجع يدور رحاه في هوامش منصات التواصل الاجتماعي المعفنة مثل “تويتر” مع كل الأوحال والبهرجة التي تتنازع على الريادة. لقد أدت عملية “بريكست” إلى سيادة شعور بالفزع، واتساع الفجوة المستمر بين الميسورين وغير الميسورين ــ وحالياً يبدو أن البريطانيين الأقل حظوة في المجتمع يميلون إلى الاعتقاد أن الأشخاص الذين يعبرون القنال الإنجليزية [من فرنسا] على متن زوارق مطاطية هم السبب في كل الأزمات الاقتصادية التي تعانيها البلاد.
الأفراد الذين كانوا في يوم من الأيام محترمين ــ مثل نجم الكرة السابق والمذيع الرياضي غاري لينيكر، و[رئيس الوزراء السابق] توني بلير، وحتى الأمير هاري ــ هم حالياً هدف دائم ومتكرر للأذى على يد أفراد يعتقدون أنه تمت الإساءة إليهم، وممن يشعرون بالمرارة المزمنة، والمشوشين فكرياً والمحبطين.
نقرتان على الشاشة يمكنهما أن تنقلكم [في هذا الزمان] من الشخص السعيد بالتطبيقات التي تملأ شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص بكم، إلى الشعور بأذى لا متناهٍ تسبب به شخص أو جهة مجهولة تعكف على بث الإهانة وتشكل جزءاً من عصابات صغيرة تعمل في غرف الترددات الصوتية في العوالم الافتراضية، ويشجعها على ذلك أشخاص مراوغون، يتشاركون فكرياً مع أتباعهم والمعجبين بهم، ويتحينون الفرصة للتفوه بأي شيء يشعرون أنه من حقهم التفوه به من خلف اسم مزور، وصورة لأبطالهم السياسيين الأسطوريين من أزمنة لم يكونوا ليعرفوها أو أن يختبروها.
لو أمضيتم ولو مجرد 10 دقائق على تطبيق “تويتر” للاحظتم أننا نعيش في بلد تعمه الحرب مع ذاته. انظروا إلى حزب المحافظين ومؤتمرهم السنوي ويمكنكم أن تلاحظوا عرضاً للدمى المتحركة، وليس قاعدة للقيادات [الوطنية] ــ وهم حفنة متهافتة متنوعة من أشخاص عديمي الكفاءة يصرون على التلاعب بعقول الشعب.
عندما كنت في شبابي، لم أكن يوماً لأتوقع أن أكون شخصاً يردد مقولة كم كان الماضي أفضل من أيامنا هذه، وأنا لا رغبة لدي في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ــ لكن هذه حالي اليوم. بكل صدق لا أملك أي فكرة إذا كان من شأن الأمور أن تتحسن أو أن تسوء. التاريخ يرجح الفرضية الثانية، ما الذي جرى لبلدنا؟
مذكرات جيمس براون بعنوان “بيت الحيوان” Animal House. يتحدث فيها عن مسيرته المهنية في قطاع النشر صدرت أخيراً، وهي أقل سوداوية من هذا المقال.
* المصدر: The Independent
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع