غرام الأرمن بإردوغان.. لماذا الآن؟
استغلّ الرئيس إردوغان الواقع الأرميني الداخلي المتأزم، فأرسل إشارات إيجابية إلى يريفان
السياسية: حسني محلي *
بعد عدد من تصريحاته وتصريحات وزرائه ومستشاريه فيما يتعلق بالانفراج السياسي، ولاحقاً العسكري، بشأن العلاقة بأرمينيا، التقى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الخميس، في براغ، الرئيسَ الأرميني نيكول باشينيان، على هامش القمة الأولى للمجموعة السياسية الأوروبية، وبحث معه في مجمل التفاصيل الخاصة بمستقبل العلاقات الثنائية، وانعكاساتها المحتملة على الوضع الإقليمي في القوقاز، وعلى الوضع الدولي بصورة عامة.
واكتسب اللقاء أهمية إضافية لأنه جاء بعد عامين من الهزيمة التي مُنيت بها أرمينيا على يد الجيش الأذربيجاني، المدعوم من تركيا و”إسرائيل”، بحيث اضطرّت، في خريف عام 2020، إلى الانسحاب من جميع الأراضي الأذربيجانية المحيطة بكاراباخ، والتي كانت احتلتها خلال الفترة 1992-1993.
كما خسرت عدداً من مناطق إقليم ناغورنو كاراباخ، قبل أن تُضطر إلى التوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار بعد تدخل روسيا، التي نشرت قواتها عند خطوط التماس بين الأرمن والأذربيجانيين، على الرغم من أن أرمينيا عضو في منظمة الدفاع الجماعي مع روسيا ودول أخرى.
ولم يُبالِ الناخب الأرميني بهذه الهزيمة والخسائر البشرية التي لحقت بالجيش الأرميني، فعاد وانتخب باشينيان رئيساً للوزراء في حزيران/يونيو 2021، وقيل آنذاك إن الروس كانوا ضده بسبب مساعيه للتقارب مع الغرب، وخصوصاً أميركا وبريطانيا وفرنسا.
استغلّ الرئيس إردوغان الواقع الأرميني الداخلي هذا، فأرسل إشارات إيجابية إلى يريفان، معبّراً عن استعداه لفتح صفحة جديدة في العلاقة بها، بعيداً عن الذكريات التاريخية، والمقصود بها اتهامات الأرمن للدولة العثمانية بإبادة الأرمن في إبّان الحرب العالمية الأولى، عندما تمّ تهجيرهم من الأناضول إلى سوريا، والقليل منهم هُجِّر إلى العراق.
كان إردوغان يعرف جيداً أن الأرمن في وضع لا يسمح لهم، اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً، مواجهة المشاكل المعيشية التي يعانونها، الأمر الذي يُضطرهم إلى المصالحة مع تركيا، مهما كانت أعباء هذه المصالحة النفسية ثقيلة عليهم.
فالأغلبية الساحقة من الأرمن (عدد سكان أرمينيا أقل من 3 ملايين) في وضع معيشي صعب جداً، واضطُرّ كثيرون منهم، وخصوصاً الشبان، إلى مغادرة البلاد والعمل في الخارج (يوجد في تركيا نحو 50 ألفاً منهم).
وتوقّع إردوغان أن تساعده هذه المعطيات على إقناع باشينيان بضرورة قبول المصالحة مع أنقرة وفق الشروط التركية، ولاحقاً الأذربيجانية، ليساعده ذلك على حلّ المشاكل الاقتصادية والمالية التي تعاني من جرّائها أرمينيا، في الوقت الذي يعرف الجميع أن باشينيان، المدعوم أميركياً وغربياً، يسعى، من خلال المصالحة مع تركيا والانفتاح عليها، وخصوصاً أنها عضو في الحلف الأطلسي، لتوجيه رسائل واضحة إلى روسيا، التي ترى في أرمينيا حديقة خلفية لها في منطقة القوقاز، وفيها أذربيجان وجورجيا، التي تسيطر روسيا، منذ حرب 2008، على مناطق واسعة منها، كأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.
كما يتوقّع كثيرون أن يضحّي باشينيان بكثير من حقوق الأرمن في إقليم كاراباخ على الرّغم من اعتراض الأوساط القومية في يريفان، والتي تتهمه بالخيانة الوطنية، وهو الأمر الذي لم يُبال به الناخبون الأرمن، عندما صوّتوا له من جديد، في انتخابات حزيران/يونيو 2021، في حين أثبت موقف باشينيان، وكانت ملامح وجهه تعكس ضعف أوراق المساومة لديه خلال لقائه إردوغان، أنه ومَن معه على استعداد لأن ينسوا الذكريات التاريخية، التي وصفها الرئيس الأميركي في نيسان/أبريل 2020، رسمياً، بأنها “إبادة جماعية وتطهير عرقي”.
هذا الأمر ترفضه أنقرة، وتقول إن ما حدث آنذاك هو أن الأرمن، الذين كانوا مواطنين في الدولة العثمانية، تآمروا مع روسيا ضد دولتهم، الأمر الذي اضطُر السلطات العثمانية إلى تهجيرهم من حيث كانوا يعيشون في الأناضول، إلى سوريا والعراق. ويقال إن عددهم آنذاك كان نحو مليونين.
أمّا إردوغان فيسعى، من خلال إعادة العلاقات الدبلوماسية بيريفان وفتح الحدود البرية معها، لكسب ودّ الأرمن من خلال حركة التجارة اليومية معهم، عبر البوابات الحدودية.
ويتوقع كثيرون أن يساعد انفتاح تركيا على جارتها أرمينيا الرئيس إردوغان، في حساباته الخاصة، على التصدي لسياسات إيران وروسيا، الجارتين لأرمينيا. كما يتمنى إردوغان أن تساعده هذه المصالحة على تحقيق أهدافه الاستراتيجية في القوقاز وآسيا الوسطى، حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي، ومنها سيصل القطار التركي التجاري إلى الصين مروراً بأرمينيا.
ويخطّط إردوغان لمدّ أنابيب جديدة عبر أراضيها من أجل نقل البترول والغاز، من أذربيجان وتركمانستان وكازاخستان، إلى تركيا، ولاحقاً إلى أوروبا، كما هي الحال بالنسبة إلى الأنابيب التي تمر الآن عبر جورجيا.
وبالإشارة الى الوجود الإسرائيلي المكثّف في أذربيجان وجورجيا، ومساعي إردوغان لمزيد من التقارب، بل التحالف مع “تل أبيب” ومنظمات اللوبي اليهودي في أميركا، فالجميع يعرف أن موسكو وطهران تراقبان تحركات الرئيس إردوغان بشأن المصالحة الاستراتيجية مع يريفان. وهو ما لا ولن ترتاح إليه العاصمتان المذكورتان، ليس فقط لأنها جارتان لأرمينيا، بل بسبب معرفتهما حسابات إردوغان المستقبلية، ويعرف الجميع أنها ستستهدف، على نحو أو آخر، المصالح والحسابات الاستراتيجية لكل من إيران وروسيا، وخصوصاً في المرحلة التي تواجه موسكو تحديات وتهديدات دولية بسبب الحرب الأوكرانية.
فتركيا طرف في هذه الحرب بسبب المسيّرات التي تبيعها لكييف، كما أنها طرف مهم فيها بسبب سيطرتها على مضائق البحر الأسود، الاستراتيجي بالنسبة إلى روسيا، بينما ترى طهران أن احتمالات التنسيق والتعاون التركيَّين مع يريفان تشكّل عملاً قد يستهدفها، لأنها جارة لكل من أرمينيا وأذربيجان، مع التذكير بحملات الأوساط القومية والإعلام الموالي لإردوغان خلال حرب كاراباخ (خريف عام 2020)، وتحدثت معاً عن ضرورة استفزاز المشاعر القومية للأذريين شمالي غربي إيران، باعتبار أنهم ذوو أصل تركي، ويشكّلون امتداداً لشعب أذربيجان.
ويبقى الرهان على نتائج اللقاء الأول بين إردوغان وباشينيان، الذي إن استسلم للشروط التركية، من أجل كسب مزيد من الدعم له من أنقرة والعواصم الغربية لمواجهة ضغوط الأوساط والقوى القومية، المدعومة من روسيا، فحينها لن يتردد إردوغان في تلبية جميع مطالب باشينيان، لأنه سيساعده على إغلاق ملف الإبادة الأرمنية، بقبول أرميني، كما سيزيد في أوراق المساومة التي يملكها، ويمنحه مزيداً من القوة في مواجهة روسيا وإيران ودول أخرى، كفرنسا، وهذه الدول لا تريد لإردوغان أن يتحوّل إلى عنصر قومي مستقل يتحدّى الجميع في القوقاز وآسيا الوسطى بعد ما حقّقه في الشرق الأوسط والبلقان، بل حتى في أفريقيا!.
المصدر: الميادين نت
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع