السياسية: وليد فارس*

وقع خبر إعلان موسكو ضم أربع مقاطعات أوكرانية في شرق البلاد وجنوبها بعد إجراء استفتاء أحادي للسكان إلى الاتحاد الروسي، كالصدمة لدى الإعلام العالمي. وصدرت بيانات عدة منددة بالإعلان، بدءاً من واشنطن فالعواصم الأوروبية، والتزام من إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي عدم الاعتراف بهذا الضم، وتشديد من قبل كييف بإرادتها على مواصلة “تحرير أراضيها”، بما يعني ذلك تواصلاً للمجابهات العسكرية في هذه الأقاليم. فهل تقود عملية الضم إلى حرب لا متناهية ومفتوحة، أم إنها قد تؤسس لاحتمال بدء حوار حول صفقة بين موسكو وواشنطن؟ فإلى أين حرب أوكرانيا؟

الهدف الروسي

عندما اجتاحت القوات الروسية الأراضي الأوكرانية في فبراير (شباط) الماضي، ووصلت طلائعها إلى ضواحي العاصمة، وبدأ الكرملين بوضع “شروط” لإنهاء العمليات العسكرية، ومنها عدم دخول أوكرانيا في الناتو، تعالت الأصوات في أوروبا والغرب خائفة من غزو قد يصل إلى برلين وبراغ، وربما بروكسل.

وكانت معظم الدول الأوروبية قد عانت الزحف الألماني السريع Blitzkrieg في بداية الحرب العالمية الثانية، من الزحف السوفياتي الجارف في نهاية تلك الحرب، وبدأ معظم الأوروبيين بتخيل وصول الدبابات الروسية إلى شواطئ الأطلسي.

لكن كل هذه السرابات بدأت تتبدد مع تعثر القوافل الروسية أمام كييف، وتراجعها تدريجاً نحو الشرق. وأضاف تدفق السلاح الغربي إلى الجيش الأوكراني شعوراً بأن الحلف الأطلسي قد قلب المعادلة، وأن “السوفيات الجدد” إلى التراجع والعودة إلى روسيا، لكن الحقائق قد تكون أكثر تعقيداً من المقارنة المبسطة مع الحرب العالمية الثانية. فلنتوقف على ما أدى إلى إعلان كهذا من قبل الرئيس بوتين، واحتمال بقاء حالة كهذه أمراً واقعاً، وما يمكن أن يحصل على أثر ذلك.

“الخطط” الروسية

في المرحلة الأولى من الاجتياح الروسي، لا سيما عندما اقتربت القوات الروسية من كييف، ظن العالم بما فيه الاستخبارات الغربية أن هدف الكرملين هو تغيير النظام في أوكرانيا وضمها إلى “الإمبراطورية القيصرية” الجديدة، وأن أهدافاً أخرى سيتم التوجه إليها كدول البلطيق الثلاث ومولدافيا وربما رومانيا، وذلك كان خطأ في التقدير، لأن القوة العسكرية الروسية من دون تعبئة شاملة لم تعد قادرة، لا سيما لوجيستياً، وإن كانت متمكنة من تنفيذ تقدم سريع وبعيد، على أن تؤمن الدعم الاستراتيجي لاحتلال كهذا.

وقد ظن الغرب أن تعثر الروس أمام كييف وعلى جبهات “غربية” أخرى داخل أوكرانيا هو نتيجة لسقوط مشروع بوتين لاحتلال أوكرانيا وابتلاعها كلياً، لكن الواقع كان غير ذلك. فالمتابعون بدقة للعقيدة القومية لفريق بوتين يدركون أن الهدف الاستراتيجي الأول للكرملين منذ قدوم الرئيس بوتين إلى السلطة، هو “استرجاع روسيا أراضي قومية روسية حيث تسكن جاليات روسية أو ناطقة باللغة الروسية”، أولاً.

أما أبعد من ذلك فيمكن أن تنظر القيادة الروسية إلى “قضايا أخرى”، كالمرافئ والسواحل والمواقع الجغرافية، وغيرها. وقد صنفت هذه الفوارق في الأولويات الاستراتيجية منذ مارس (آذار) الماضي، واستنبطت الخطة الروسية الأساسية. فبتقديري دخلت روسيا إلى أوكرانيا بهدفين، الأول هو السيطرة على “مناطق روسية” (بنظر الكرملين)، وصفتها بـ”الحمراء” Red zones، وهذه المناطق تريدها موسكو تحت سيطرتها وضمها نهائياً. والهدف الثاني هو السيطرة على مناطق “أوكرانية” قدر المستطاع، لكن لفرض تأثير فيها ومقايضات جمة، ومنها العاصمة ومناطق في الشمال والجزء الغربي من الساحل على البحر الأحمر، ووصفت هذه المناطق بـ”البرتقالية”Orange Zones .

لروسيا كان ولا يزال هدفان في أوكرانيا، هدف سيصعب تحقيقه وهو السيطرة على “كل” أوكرانيا وترويضها، بسبب الدعم الغربي الكبير لحكومة كييف، إلا إذا حصلت تطورات دراماتيكية كمواجهة مباشرة بين الأميركيين والروس، وهي مستبعدة الآن، لكن المرحلة المقبلة لا تزال حافلة بالمفاجآت.

أما الهدف الروسي الثاني فقد حققته موسكو، وهو السيطرة على دونيتسك ولوغانسك ومنطقة آزوف والقرم. وهي المساحة الجغرافية “للمنطقة الحمراء”، وقد جرى “إدخالها في الاتحاد الروسي بعد استفتاء شعبي، لكن من دون إشراف الأمم المتحدة، لكن الكرملين والدوما (برلمان روسيا) لا يأبهان لتفاصيل القانون الدولي، فهما يعتبران أن “الضم قد وقع”، وانتهى الموضوع. وتوسيع حدود روسيا إلى شرق وجنوب دولة أوكرانيا، الجمهورية السوفياتية السابقة، أعطى الاتحاد ساحلاً طويلاً على البحر الأسود، وبحراً مغلقاً لحماية أسطولها في خليج آزوف، ومرافئ تجارية أساسية تطل على البلقان وتركيا والقوقاز، وأيضاً مناطق صناعية في إقليم الدونباس. روسيا أخذت ما تريده في المنطقة الحمراء، وهي الآن في موقع الدفاع عما تعده “أراضيها”.

الخطط الأوكرانية

الرئيس زيلينسكي وحكومته لا يزالون يحتفلون بانسحاب للقوات الروسية من حول كييف ومن معظم مناطق الشمال، أي عملياً من المنطقة البرتقالية، وإعادة تجمعهم في الشرق والجنوب، أي في المنطقة الحمراء. بالنسبة إلى الأوكرانيين ليس هناك حمراء أو برتقالية، إنها كلها أراض وطنية أوكرانية يجب تحريرها، وعلى هذا الأساس فليس هناك إلا مشروع واحد هو الاستمرار في القتال حتى إخراج كل القوات الروسية من كل الأراضي الأوكرانية. إذاً خطط كييف هي خطط هجوم على كل الجبهات، ورفض الاستفتاءات وعملية الضم القسري للمحافظات الأربع. وما تحتاج إليه الحكومة الأوكرانية هو دعم عسكري أطلسي متواصل ودعم مالي أميركي من دون حدود، هذا هو لب الموضوع عند الرئيس زيلينسكي وفريقه، لكنهم يعلمون أن روسيا ستحارب بكل قوتها بما في ذلك أسلحتها الاستراتيجية، للحفاظ على تلك الأراضي “الروسية”.

الحرب “ما بعد الضم”

ما بعد إعلان روسيا ضم “الشرق والساحل” تحولت الحرب في أوكرانيا إلى معادلة جديدة، بما قد تكون أشد خطورة، ربما قد تؤدي إلى محادثات سلام. الأوكرانيون مصممون على الهجوم “لتحرير الأراضي المحتلة”. وقد أحرزوا تقدماً على عدة محاور، إلا أن إخراج الجيش الروسي من كل تلك المحافظات سيحتاج إلى جهد كبير وسلاح إضافي ووقت أطول، وستتكبد أوكرانيا خسائر مؤلمة للوصول إلى هدفها عسكرياً. بالمقابل فإن روسيا الآن تعتبر أنها ستقاتل عن “أراضيها” بالتالي ستستعمل جميع قوتها العسكرية، ولا خيار لها في التراجع. أي إنها ستكون حرب أسلحة، عنيفة ومدمرة.

ومن بين الأسلحة التي ستستعملها روسيا الصواريخ الباليستية المتطورة والدرونات، وقد هددت باللجوء إلى السلاح النووي التكتيكي، إذا اضطر الأمر. وهنا يكمن الخطر، لأن أي استعمال لسلاح كهذا ستكون له نتائج كارثية، مما سيؤدي إلى إخلال في التزامات الدول القانون الدولي وقوانين الحرب Laws of War. أوكرانيا تصر على التحرير عسكرياً، وروسيا تهدد نووياً، والغرب ملتزم مبدأ التحرير، لكنه لا يريد مواجهة نووية.

استشراف الآتي

لقد وصلت المعادلة إلى قمة صعوبتها، قبل انفجار تراجيديا غير مقبولة. فكيف يمكن استشراف الآتي القريب؟ من دون شك الحرب ستستمر تقليدياً بين الطرفين، بين كر وفر. أوكرانيا تقضم بعض الأراضي، وروسيا تهضم كامل الأراضي التي ضمتها. واشنطن والناتو سيستمران في دعم الجيش الأوكراني، لكنهما سيمتنعان عن الدخول مباشرة في الحرب. هذا سيناريو ممكن التكهن به. إلا أن نجاح الأوكرانيين في اختراق على الأرض يضع مدنيين “روساً” تحت سيطرتهم سيدفع موسكو إلى كسر المعادلة واللجوء إلى الممنوعات.

ماذا سيفعل الغرب؟ التكهنات كثيرة والموقف صعب. إذا امتنعت الولايات المتحدة عن الرد الاستراتيجي، تربح روسيا. وإذا ردت بالسلاح نفسه يدخل الكوكب في “هولوكوست” نووي، وهو أمر لا تتحمله البشرية، لذلك ربما أن هناك معادلة غير مرئية، وهي أن يدعم الغرب كييف لاسترجاع كل المنطقة “البرتقالية”، ولكن ليس إلى حد السيطرة على المنطقة “الحمراء”. من هنا فكرة أن الغرب سيدعم أوكرانيا حتى الخطوط الحمر الروسية، وبعدها تبدأ مفاوضات سلام، هذا في المنطق، لكن أحياناً تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن.. سنرى.

* المصدر: اندبندنت عربية
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع