بثينة شعبان*

“الكل واحد والواحد هو الكل”. هذا أهم ما قالته ليز تروس، رئيسة وزراء بريطانيا، في كلمتها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ملخصة بهذه العبارة سرّ قوة الغرب وسرّ استمرار هيمنتهم على الشعوب وقدرتهم على نهب مقدراتها من خلال الهيمنة والحروب ونصب حكومات عميلة والتحكم في مصائرهم على مدى العقود المنصرمة.

التحالفات بين الدول الغربية، وخصوصاً دول الناتو وكندا وأستراليا، واجتماعهم على كلمة واحدة في ما يتعلق بشن الحروب وزعزعة استقرار الشعوب والتدخل في شؤونها ومحاولة إلغاء قرارها المستقل إلى أن تصبح تابعة لهم، هما سرّ ادعاءاتهم على مدى عقود بأنهم يمثلون “الأسرة الدولية”، وأنهم الوحيدون الذين يحق لهم أن يتكلموا باسم العالم بأسره، وهو الحق الذي لا تمتلكه أي دولة أو مجموعة أخرى، في رأيهم.

ولكن ما حدث في العقدين الأخيرين، وبعد الحروب الوحشية التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على أفغانستان والعراق وليبيا في انتهاك واضح للقانون الدولي، أو الحروب بالوساطة التي شنها الغرب وأعوانه على سوريا واليمن، وحرب الحصار والمقاطعات على فنزويلا وإيران، وفي الآونة الأخيرة روسيا، وبعدما انكشف إلى حد ما دور الإعلام الغربي المضلّل في دعم هذه الحروب وتغطية التعذيب والجرائم الوحشية التي ترتكبها الجيوش الغربية ضد المدنيين العزل، سواء من خلال ويكيليكس أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وبجهود المخلصين والطامحين إلى كشف الحقيقة، بعد كل هذا الخرق لاحتكار الصوت الواحد، بدأ العالم برمته يضيق ذرعاً بهذا الأسلوب وبأدوات الهيمنة وبالسردية الغربية المنافقة التي لا علاقة لها بالواقع، سواء في الغرب أو الشرق.

ولعلّ المتضرر الأكبر في الآونة الأخيرة من الخطوات الغربية التي تم اتخاذها، وخصوصاً منذ عام 2014، والمستهدف الأكبر من الغرب، هو روسيا الاتحادية، ما قاد إلى هذه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إذ أصبح واقع الحال اليوم يهدد باندلاع حرب مباشرة، وربما نووية، بين الغرب وروسيا على الأرض الأوكرانية.

ما نشهده اليوم هو أن روسيا والجيش الروسي في أوكرانيا يخوضون معركة ضارية نيابة عن العالم كله المتضرّر من هذه الهيمنة الغربية التي استمرت منذ الحقبة الاستعمارية وما ارتكب فيها من جرائم إبادة ونهب للثروات. وقد تعززت هذه الهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن بعدما بدأت الولايات المتحدة تتحدث عن نظام على أساس قواعد لا يعرف أحد ماهيتها، وبعدما ضربت بعرض الحائط قرارات الشرعية الدولية، وأفرغت الكثير من المنظمات الدولية من مضمونها، معتمدة موقفاً منافقاً من حقوق الإنسان والانفصام الكامل بين السردية الغربية وما تقوم به الدول الغربية فعلاً على أرض الواقع ضد البلدان والشعوب الأخرى، وإلى حدّ ما ضد فئات معينة في بلدانها بسبب العنصرية المتجذرة في التفكير الغربي، لم يعد العالم قادراً على التزام الصمت.

ولكن المشكلة التي تواجهها البلدان والشعوب المتضررة من الهيمنة الغربية لم تؤسس لآليات عمل ولتحالفات ولشراكات حقيقية قادرة على تأدية الدور نفسه الذي تؤديه التحالفات الغربية في استهداف هذه الدول والشعوب. وهنا يكمن الضعف الأساسي في معالجة الوضع الدولي القائم والخروج من هذا المأزق الخطر، بتغيير جوهري يحقّق الأهداف الكونية المرتجاة من هذا التغيير، وهنا تكمن نقطة الضعف الأساسية.

أضف إلى هذا أن الدول المتضررة من الهيمنة الغربية لا تمتلك الآلة الإعلامية الضخمة المركزة والموجهة التي تنطلق بصوت تحريري واحد من أقصى الغرب إلى أدناه لدى أي مفصل يهدد سيادة الغرب على العالم وسيطرته على مصادر ثرواته؛ فعلى الرغم من ادعاء الغرب بأن لديه حرية إعلام، نلاحظ لدى كل مفصل مهم أن الإعلام الغربي يتحدث بصوت واحد منطلقاً من استراتيجية واحدة، وإن اختلفت التكتيكات، وبغية الوصول إلى هدف واحد.

إذاً، يقوم اليوم الغرب بكل تحالفاته، من الناتو إلى جي7 إلى أواكس، بمحاربة روسيا على أرض أوكرانيا ومدّ أوكرانيا بالمستشارين والأسلحة المتطورة والمرتزقة، على حساب أمن ولقمة عيش واستقرار ومصلحة شعوبه، وخصوصاً في أوروبا، لأنه يعتبر أن المعركة التي يخوضها مع روسيا اليوم هي معركة وجود بالنسبة إلى مصالح الفئات الرأسمالية المتصهينة الحاكمة في الغرب وقدرتها على التحكم في مصائر البشرية.

وقد تحدث معظم المسؤولين الغربيين في الجمعية العامة عن هذه المعركة مع روسيا بوصفها حرباً بين النظم “الليبرالية الديمقراطية” من جهة و”الديكتاتوريات” من جهة أخرى، ولكنهم يعرفون حق المعرفة أنها حرب بين الهيمنة الغربية التي تحمل كل صفات الاستبداد والديكتاتورية، والتي تريد للقطب الواحد أن يستمر كي تمضي قدماً في شن الحروب ونهب الثروات وتسخير البشر والموارد لتراكم الثروات الأسطورية للفئة المتصهينة الحاكمة في الغرب، وبين الدول والشعوب الطامحة إلى الاستقلال الحقيقي والكرامة المتساوية وتغيير هيمنة الغرب على مقدراتها وقرارها.

إنها فعلاً معركة وجود، لأن انتصار روسيا في هذه الحرب (ردّد مسؤولون غربيون، من ضمنهم أمين عام حلف الناتو ووزير الخارجية الأميركي، أن هدفهم الأساسي من السخاء في دعم أوكرانيا هو منع انتصار روسيا) سيشكل فرصة لها وللصين ولدول البريكس ومنظمة شنغهاي حتى يشكلوا تحالفاً اقتصادياً أمنياً سياسياً عسكرياً في مواجهة التحالفات الغربية. وعند ذلك، سيتغير العالم مرة وإلى الأبد.

إن حدوث ذلك سوف يحدّ، وإلى مدى بعيد، من قدرة الغرب المتصهين على نهب ثروات الشعوب والتحكم في مصائر بلدانهم ومستقبل أجيالهم، وسوف يرسي نظاماً عالمياً جديداً قائماً على الحرية والكرامة المتساوية للدول والشعوب، وعلى صيانة حقوق كل إنسان في العالم، وليس الصهيوني المحتل على حساب الفلسطيني، أو الأميركي على حساب الأفغاني والعراقي، وغيره من الأمثلة التي لا تحصى عن نفاق الغرب وازدواجية معاييره وعنصريته في التعامل مع العرب والآسيويين والأفارقة.

كي يحاول ضمان عدم خسارة هذه الحرب الوجودية، يتبع الغرب مساراً ذا شقين: الشق الأول هو دعم أوكرانيا بكل ما يملك من مال وسلاح وعتاد ومرتزقة في هذه الحرب، لأنه، كما أعلن، يريد منع روسيا من الانتصار، لأنه يريد الاستمرار بنهب الشعوب والدول والتحكم في مقدراتها.

والمسار الثاني هو إثارة الفتن والقلاقل الداخلية في البلدان التي تشارك روسيا والصين توجههما في تحويل العالم إلى عالم متعدد الأقطاب وترفض الهيمنة الغربية، مثل إيران وفنزويلا وسوريا واليمن، وهذا ما تقوم به الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط.

هذه التدخلات المخططة والمدروسة والممولة من الغرب، وآخرها ما أسموه “الربيع العربي”، تعمل على تأخير تقدمنا وازدهارنا واستهلاك مواردنا في الحروب أو نهبها أمام أعين العالم، وتستكمل هذه التدخلات العسكرية بالوساطة من خلال عقوبات وحصار يقوّض فرص الازدهار والعمل والاستقرار، ويدفع شباب هذه البلدان إلى قوارب الموت هرباً من الواقع الذي اختلقته ونفذته الدول الغربية وعملاؤها عن سابق تصميم، لتقويض قدرة هذه البلدان على متابعة مسارها المستقل في الرأي والعمل والنهج والسياسة.

إذاً، الموضوعان متكاملان: خوض الحرب ضد روسيا في أوكرانيا وإثارة الفتن في الدول التي تستعصي على الهيمنة الغربية وتنحاز إلى محاولات تغيير النظام العالمي إلى نظام متعدد الأقطاب، وبإرادة دولية تمثل البشرية فعلاً، وليس فقط أصحاب السحنة البيضاء والعيون الزرقاء.

في الواقع، إن الحروب التي يشنها الغرب على شعوبنا وبلداننا متعددة الأوجه. وقد تكون الحرب العسكرية والحصار الاقتصادي من أبرز نماذجها، ولكن حروب المياه، وحروب البذار، وحروب الأسمدة، وحروب الأدوية، وحروب التعليم، وحروب الأوبئة، وحروب الاختراقات الأمنية، بشكل ما يعرف “بالثورات الملونة” أو “داعش” أو “الربيع العربي”، كلها حروب قائمة بدرجات متفاوتة لمنع بلداننا من الإمساك بناصية التقدم والابتكار والازدهار.

أما ما يتوجب على الشعوب المتضررة فعلاً من الهيمنة الغربية والطامحة إلى تغيير قواعد النظام الدولي لما فيه خير البشرية وراحتها وسعادتها، فهو أن تجترح آليات عمل واستراتيجيات تواجه استراتيجيات الغرب وآليات عمله. على هذه الدول أن تنشئ تحالفات على قواعد مشابهة للتحالفات الغربية، بحيث يكون “الكل واحداً، والواحد هو الكل”، وأن تواجه السردية الغربية المنافقة التي أصبحت مضحكة للمفارقة الشديدة بينها وبين الواقع المعيش، بسردية أخرى معبرة عن الحقيقة والواقع.

التغيير العالمي المطلوب كبير، والفئات الحاكمة المتصهينة في الغرب تدرك جيداً خطورته عليها وعلى مصالحها الحالية والمستقبلية. ولذلك، لا بد من أن تصل التحالفات الطامحة إلى تغيير القواعد العالمية وبناء نظام دولي جديد تشاركي وعادل للجميع إلى القناعة بأن المعركة بكل أوجهها وجودية للجميع، وليس فقط لروسيا، من جهة، وللغرب من جهة مناقضة.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع