المقاومة الفلسطينية ومُحددات العلاقة بالأمة
قرار "حماس" استئناف علاقاتها مع سوريا، وما تبعه من جدلٍ بين مؤيدٍ ومُعارض، أعاد موضوع المقاومة الفلسطينية ومحددات علاقتها بالأمة إلى الواجهة السياسية.
وليد القططي*
منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة والجدل دائر حول طبيعة علاقة حركاتها المقاوِمة بالأمة العربية والإسلامية، وحول اتجاهات مواقفها السياسية وسلوكها العملي من صراعات الأمة الداخلية بين الدول وداخلها.
وقد زاد هذا الجدل حِدة بعد ثورات “الربيع العربي”، وآخر حلقات مسلسل الجدل قرار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الأخير بعودة علاقاتها مع الجمهورية العربية السورية، كما جاء في بيانها الرسمي منتصف شهر أيلول/سبتمبر الحالي بعنوان “أمة واحدة في مواجهة الاحتلال والعدوان”، الذي أعلنت فيه الحركة “استئناف علاقتها مع سوريا الشقيقة”، و”أعربت فيه عن تقديرها الجمهورية العربية السورية قيادةً وشعباً”.
هذا القرار، وما تبعه من جدلٍ بين مؤيدٍ ومُعارض، وما آثاره من نقاشٍ بين راضٍ وساخط، أعاد موضوع المقاومة الفلسطينية ومحددات علاقتها بالأمة بمختلف مكوناتها: دولاً وأنظمةً وشعوباً وأحزاباً وقوىً… إلى الواجهة السياسية، ليستدعي النقاش حوله والبحث في مُحددات منهجية تضبط علاقات المقاومة الفلسطينية ومواقفها السياسية وسلوكياتها العملية بالأمة ومكوناتها في الاتجاه الذي يخدم فلسطين الشعب والقضية والمقاومة.
انتبهت منظمة التحرير الفلسطينية إلى حساسية هذا الموضوع وأهميته، فوضعت في الميثاق الوطني الفلسطيني مادةً تؤكد حيادها تجاه صراعات الأمة الداخلية، جاء فيها: “… وتلتزم بالحياد فيما بينها… ولا تتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة”، والتزمت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) بهذا المضمون في نظامها الداخلي بالنص على أنَّ: “حركة فتح لا تتدخل في الشؤون المحلية للدول العربية”. وفي مؤتمرها الحركي السادس سجّلت أنها لا تدخل “في تحالفات جزئية مع بعض الدول العربية ضد دول عربية أخرى”.
ولكن حركات اليسار الفلسطيني، كالجبهتين الشعبية والديمقراطية، اعتبرت أنَّ معركة الشعب الفلسطيني واحدة ضد الصهيونية والإمبريالية والرجعية، فانحاز اليسار إلى “الثوريين والاشتراكيين” ضد “الرجعيين والرأسماليين”.
وعملياً، تورطت المنظمة في الصراعات الداخلية – بعيداً من الصواب والخطأ – ولا سيما في الأردن (أيلول الأسود 1970)، وفي لبنان (الحرب الأهلية 1975)، وبين العراق والكويت (الغزو العراقي للكويت 1990)… وغيرها، ما ألحق أضراراً كبيرة بالقضية الفلسطينية ما زالت آثارها مستمرة.
وتبنت حركة المقاومة الإسلامية نظرياً موقف منظمة التحرير الفلسطينية في وثيقتها السياسية مضموناً ونصاً: “… وترفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، كما ترفض الدخول في النزاعات والصراعات بينها”، ولكن هذا الموقف النظري المُحايد الرافض للتدخل في الصراعات الداخلية العربية بين الدول وداخلها، لم يتحقق أثناء ثورات “الربيع العربي”، وغلبت عليه حسابات “الجماعة” ونظرية “من وقف معنا في الحق لا نقف معه في الباطل”، فاتخذت الحركة مواقف سياسية وعملية تجاه أطراف الصراع الداخلية في الدول العربية التي ضربتها أعاصير “الربيع العربي” المسمومة بناءً على مُحددات ليست فلسطين كشعب وقضية ومقاومة في سُلّم أولوياتها، وهذا مصدر الإرباك في الموقف السياسي للحركة، الذي أنتج مواقف متأرجحة ومتناقضة ومضبوطة بموازين القوة على الأرض ولعبة الغالب والمغلوب، وخصوصاً في كل من مصر وسوريا، مع أنَّ المطلوب لم يكن أكثر من النأي بالحركة عن صراعات بوصلتها ليست فلسطين، وليس الوقوف مع أي طرف في الحق أو الباطل.
أمّا حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، فرغم تأكيدها إقامة علاقات إيجابية مع الجميع لنصرة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وخدمتهم، فإنها ربطت موقفها السياسي ومحددات علاقتها مع أطراف الأمة بفلسطين، فأكدت في وثيقتها السياسية أنَّ العلاقة مع كل طرف تتحدد “بناءً على موقفه من فلسطين، ومستوى دعمه المادي والمعنوي لها، وأقله دعم وإسناد صمود شعبنا وثباته على أرضه، وحقه في المقاومة والدفاع عن نفسه وأرضه ومقدساته، في مواجهة العدوان الصهيوني المستمر”.
وبذلك، حددت أولوية علاقتها مع الأمة بموقفها من فلسطين، باعتبارها القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، فتقترب من الآخرين بقدر اقترابهم من فلسطين والمقاومة وعدائهم للكيان الصهيوني، وتبتعد عن الآخرين بقدر ابتعادهم عن فلسطين والمقاومة واقترابهم من الكيان الصهيوني، وتنأى بنفسها عن المحاور والصراعات الموجهة لصرف الأمة عن قضيتها المركزية فلسطين تحت عناوين مذهبية وعرقية وسياسية وغيرها.
يتضح مما سبق أهمية وضع مُحددات للمواقف السياسية لحركات المقاومة الفلسطينية تجاه الأمة بمختلف دولها وشعوبها وأنظمتها وقواها السياسية، وأساس هذه المحددات فلسطين: الشعب والقضية والمقاومة، والميزان هو مقدار الاقتراب أو الابتعاد من فلسطين، فبقدر اقتراب الآخرين في الأمة من فلسطين وشعبها وقضيتها ومقاومتها يتم الاقتراب منهم، وبقدر ابتعادهم عن فلسطين وشعبها وقضيتها ومقاومتها يتم الابتعاد عنهم.
في المقابل، بقدر قبول الآخرين في الأمة للكيان الصهيوني تدرجاً، من الاعتراف، ثم التطبيع، حتى التحالف، يتم التناقض معهم. وبقدر رفض الآخرين في الأمة للكيان الصهيوني تدرجاً من عدم الاعتراف، ثم دعم المقاومة، حتى الحرب ضده، يتم الانسجام معهم.
إن تحديد فلسطين كأساس لضبط العلاقة والموقف والسلوك لدى حركات المقاومة الفلسطينية مع أطراف الأمة يترتب عليه توحيد المُحددات في التعامل مع الجميع، فلا يمكن تبرير التطبيع مع الكيان الصهيوني – على سبيل المثال – أو السكوت عنه عندما يقوم به طرف ما، ورفضه ونقده عندما يقوم به طرف آخر.
ويترتب عليه عدم اتخاذ موقف سياسي أو بناء العلاقة على أساس “مصلحة الحركة” المرتبطة بمفاهيم الفرقة الناجية أو الحزب الأوحد والمنفصلة عن مصلحة فلسطين ومشروع تحريرها.
ويترتب عليه عدم اتخاذ موقف سياسي أو التدخل الفعلي في الصراعات البعيدة عن فلسطين ذات الهويات المذهبية والعرقية والسياسية وغيرها، والنأي بفلسطين وشعبها وقضيتها ومقاومتها عن تلك الصراعات التي لا تشير بوصلتها إلى فلسطين والقدس والأقصى.
*المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع