الكارثة الطبيعية في السودان: فقه النازلة
السياسية:
قال أحد المتأثرين بنكبة السيول في السودان إن المواطنين العزل يواجهون ويلات النكبة في غياب جلل للحكومة. واختياره لـ”عزل” بليغ في خلو يدهم من معين على النائبات كخلو يد الواحد من السلاح في وجه من جاءه مدججاً به، وهو مع ذلك غياب حرفي بمعنى مهم، فيعيش السودان قرابة العام في ظل حكومة تصريف أعمال من وكلاء الوزارات، وبلغ من سخط الناس على الحكومة الخفية أن لم يقبلوا أي ذكر لوالي الولاية الشمالية في اجتماع لهم مع الفريق ركن عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، وأعادوا في منطقة المناقل طاقم تلفزيون جمهورية السودان من حيث أتى متأخراً جداً.
وكان تواري الدولة أثراً مما يعرف بتجويف الحكومة، وهي إفراغها من وظائف خدمة المحكومين إفراغاً يجعل منها صدفة لا معنى لها، فتستأثر بالحكومة دوائر منها لشوكة سلاحها أو أخرى لأن تصريف المال بيدها، ولذا ساغ عن الجيش عندنا وعند كثير غيرنا قول بعضهم إنه إذا كان للأمة جيش فلمثل جيشنا أمة. وسنرى كيف صارت المصلحة الحكومية القائمة بأمر مورد الذهب السوداني حكومة في حد ذاتها.
كانت السيول التي ضربت ست ولايات من ولايات السودان الـ16، وهو ما حذرت منه هيئة الأرصاد الجوية منذ يونيو (حزيران)، فقالت إن البلاد ستشهد موسماً غزير المطر تنتج عنه سيول قد تضرب معظم الولايات، ووقع المحذور منه، فراح ضحيته 89 مواطناً، وانهار 19926 منزلاً كلياً، وتهدم 3258 منزلاً، وتحطم 63 مرفقاً حكومياً، وتأثرت بالخراب 66 ألف أسرة، وهلك الزرع في 2730 ألف فدان، ونفقت مئات الحيوانات.
ولما سجلت الحكومة هذا الغياب المشهود لم تكف بيروقراطيتها عن عوائدها المتوارثة، فأخذت تعلن كـ”منطقة كوارث” ولاية منكوبة بعد أخرى، وهي ما التقطته منذ فيضانات وسيول عام 1988 الكبرى من ممارسات دول غيرنا. واستغربت لمعارضين للحكومة ينادون مثلها بإعلان الولايات المتأثرة بالأمطار مناطق كوارث كأن في ذلك غناءً، وكان مناطاً بهم كشف زيف مثل هذا الإعلان الذي هو حيلة عجز. فالإعلان عن “منطقة كوارث” ترتيب حكومي تهب به الحكومة الفيدرالية في مثل الولايات المتحدة لإسعاف الولاية المنكوبة متى عجزت بمواردها وحدها عن ملاقاة كارثة ألمت بها، ومثل هذا الإعلان عندنا “كلام ساكت” في قولنا، فلم يكن بيد الولاية المنكوبة أصلاً موارد استنفدتها لتستنجد بمركز فيدرالي في الخرطوم، خلا وفاضه هو نفسه من مؤسسة مواردها مدخرة لمثل هذا اليوم. فقال أحد المتأثرين بالسيول في اليوم التالي للكارثة إن حكومة ولايتهم “تبرعت” لهم بـ40 مليون جنيه، وعلق قائلاً إن ما تبرعت به الولاية لا يكفي لصيانة دورة مياه، فلم تدخر الولاية مثلاً خيماً حتى لمثل هذا اليوم، فتبيت أسر كثيرة بعد أسبوع من الكارثة في العراء أو في خيم متواضعة تبرع بها أهل الخير.
وكان إعلان المناطق المنكوبة “مناطق كوارث” صرخة في وادي الحكومة الفيدرالية، فلم تكن بأفضل جاهزية من الولايات المستغيثة، فليس في الدولة مؤسسة من تلك التي تغاث فتغيث، فالدفاع المدني قاصر على إجراءات محدود في إطفاء الحريق وإنقاذ الملهوفين في الظروف العادية.
لم يأمر الفريق ركن عبدالفتاح البرهان بأي اعتمادات إسعافية من حكومته إلى تاريخه، وكان بين أهله في الوسط النيلي حين مسهم ضر السيول، فاستعان بالشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة التي “تبرعت” بتريليوني جنيه أمام المتضررين وبحضوره، وأثار هذا التبرع في بلد رئيس مجلس السيادة احتجاجاً ونقاشاً يتصل بتدارك الطوارئ مؤسسياً لا كفاحاً. فما تأثرت مناطق أخرى بالسيول حتى استنكر أهلها حظوة منطقة البرهان بما لم يحظوا هم به، فسارعت الشركة بتبرعات أخرى لهذه المناطق رفعاً للحرج عنها، واضطر وزير الموارد المعدنية لتسجيل اعتراضه على ما رآه استنزافاً لموارد وزارته. فقال إن إنفاق وزارته من مال المسؤولية المجتمعية قاصر على المناطق المنتجة للذهب حين تتأثر بالسيول وليس أي منطقة أخرى.
أما الاعتراض الجوهري على التبرع من الحكومة لسد الكيان المؤسسي للطوارئ فجاء من جهة قانونية ما تقوم به الشركة حيال الكارثة في غير ما اختصاص، فالشركة، بحسب هذا الاعتراض، قامت لتنظيم إنتاج الذهب ومراقبته، وعليه فهي غير متخصصة حتى بتسلم المال عن نشاطها إلا بواسطة أرانيك معروفة من وزارة المالية التي لها الولاية على المال العام، وعد المعترضون همة الشركة في إسعاف المنكوبين تجنيباً للمال العام يبطل ولاية وزارة المالية عليه.
وفتح انفلات زمام الكارثة من يد الحكومة الباب لما لم نكن بحاجة له من دارج السياسة. فجنح النقاش في تفسير ما وقع في منطقة المناقل على النيل الأبيض بالذات إلى نظرية المؤامرة. فمن رأي بعضهم أن معدل الأمطار بالمنطقة كان طبيعياً. وما زاد الطين بلة (التورية غير مقصودة) في قولهم إن سلطات وزارة الري، عن قصد أو غير قصد، فتحت بوابات قناة مشروع المناقل من خزان سنار في غير ما وقت فغمرت المياه قنواته وترعه فوق طاقتها الاستيعابية، بل قيل إن وزير الري اعترف في كلام له بذلك، ثم سحبه. واستعان معارضون لهذا الرأي بصور جوية لم ترصد أي تدفق غير عادي في قناة المناقل. وعزوا السيول لتدفق مياه المطر الاستثنائي من الهضبة التي تعلو المناقل والمواضع من حولها.
من جهة أخرى، اشتبك أنصار ثورة ديسمبر (كانون الأول)، ممن تولوا الحكم الانتقالي حتى أزاحهم انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وخصومهم في نقاش باللوم واللوم المضاد. فسارع خصوم الانقلاب الحاكم بتحميله الوزلا لإهماله الاستعداد لخريف أرهصت نذره بالخطر. أما خصوم الانتقالية فحملوها انسداد قنوات مشروع الجزيرة وامتداده في المناقل بالإطماء خلال سنوات حكمها الثلاث. وهو الانسداد الذي طفحت به السيول فخربت. وأرجع نقاد الانتقالية هذا الدمار إلى قرارات اتخذتها في شأن شركات كانت تعمل في إزالة الطمى فعطلتها. فتراكمت وحدث ما حدث. وردت أطراف الانتقالية على نقادها بأن قراراتها تلك ردت للدولة آليات للحفر استولى عليها نافذون في النظام القديم بغير وجه حق. علاوة على أن الكارثة لم تقع لتراكم الطمي، وإنما من معدلات الأمطار الاستثنائية كما تقدم.
لقيت الحكومة الكارثة، وهي صدفة فارغة من فرط عقود من التجريف والتجويف. فمن مظاهر تجويف الدولة صيرورتها عالة مطلقة لوارد الخارج متى ضربتها كارثة. ولا يفضح هذا النقص في دولتنا مثل مطالبة حزب معارض لإعلان البلاد “منطقة كوارث” لتنبيه العالم ليهب لنجدتنا. والأنكى أنه لم تعد للحكومة سمعة حتى في توزيع ما سيجود به العالم لسوء صيتها جراء شهرتها في الاعتداء على مساعدات العالم المالية والعينية. فكل عون من الخارج يجد كثيرة سبيله إلى الأسواق بواسطة “المستثمرين في الأزمات” على حد قول إحدى الصحافيات.
ولحق التجويف حتى بفكر الكارثة عندنا، فحتى التشخيص لوقوعها صار من المحفوظات الأولية لا نأخذ به ولا نمل تكراره. فلا أعرف عدد المرات عبر السنين الذي رددنا تواتر السيول المهلكة علينا لتشييد المواطنين منازلهم على مجاري السيول، أو انعدام البنى التحتية، أو عدم توافر خرائط بمناطق الخطر، أو عدم تحديث وسائل الدفاع المدني، ففي هذا التشخيص صدى حرفي مما كتب بعد سيول 1988 وفيضاناتها وما بعدها لعقود. ويبدو أن من يخرجون به كمن يؤدون دوراً في مسرحية معادة لا محللين.
ولأن الدولة لم تعد سوى صدفة فارغة ركبتها عادة “علوق الشدة” في قولنا. ونريد به أن تعلف ركوبتك مباشرة قبيل ركوبها، وهي مجاز سوداني في تدارك الأمر في الساعة الـ25، أو قبلها بقليل. فمتى استمعت للفريق البرهان في لقاءاته المتضررين ستجد فعل المستقبل غلب على خطابه للمتأثرين بالمحنة في مثل “سنوفر”، “سنعتني”، “سنبني”، فلم يسبق خطابه إسعاف وصل للمتضررين من أي نوع ومقدار، فصرف خلال المخاطبة تعليمات مباشرة لمسؤولين في الدولة ممن حوله لتوفير غرض أو آخر لإسعاف المتأثرين. وتستغرب كيف لم يجتمع شمل هذه الجهات من قبل الواقعة لتلقاها بحزم. وصار قرار الدولة بتكوين “لجنة طوارئ” لتدارك المحنة هو عنوان الوجود الحكومي العاقب للمأساة. ولا يملك من يتأمل حال هذا الوجود للحكومة (لا وحدها التي على رأسها البرهان، بل كمؤسسة سودانية) من الاقتناع بأنها لم تستعد أبداً للطوارئ مما هو خليق بأسرة، ناهيك بدولة فحسب، بل إن مفهوم الطوارئ نفسه طارئ عليها. فكل ما تعرفه الحكومة من فقه النوازل أنها ستعلف دابتها له في اليوم العاقب: علوق الشدة.
بقلم: عبد الله علي إبراهيم أكاديمي وصحافي
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية وتعبر عن راي الكاتب