السياسية:

تتساءل إحدى الأمهات اللواتي لم يعد حرق الوقود الأحفوري بالنسبة لهنّ مجرد إحصائيات وأرقام: “لماذا يكون للأطفال رئتا مدخّن قبل أن يصلوا سنّ المراهقة؟”، لتنضمّ إلى مجموعةٍ من الأمهات والعلماء المتخصصين ممن يرفعون صيحات التحذير من خطر السكوت عن هذا القاتل المتسلل إلى عروقنا وقصباتنا.

أشار بروفيسور الأوبئة البيئية جويل شوارتز -مساهم في أحد أهم البحوث الصادرة في المجال- إلى طريقة التناول السائدة لموضوع الخطر الناجم عن حرق الوقود الأحفوري؛ إذ غالباً ما يُثار في سياق انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والتغير المناخي، ولكن لا يولى أهمية كافية لجانب آثاره الصحية.

فمع دور حرق الوقود الأحفوريّ في تلوث الهواء، صارت هذه الصناعة المسؤولة الرئيسية عن خُمس وفيّات العالم المعروفة ومجموعة كبيرة من الأمراض والمشاكل الصحية المتنوعة، فقد لا ترى شهادات وفاة تقول إن صاحبها مات من تلوث الهواء، لكنا نعلم أنه يؤثر على كل عضوٍ في الجسم كما يُذكّر اختصاصي أمراض الرئة بجامعة إلينوي دين شرافنغل.

تلوث الهواء
يتنفس جميع سكان العالم تقريباً (99%) مستويات غير صحيّة من الجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين في الهواء، وفقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية في تقريرها الصادر عام 2022.

لكن لا يتوزع هذا الأثر بصورة متساوية على بلدان العالم؛ إذ تشهد البلدان مرتفعة الدخل تلوثاً أقل بالجسيمات الدقيقة، بينما ترتفع مستويات هذا النوع من التلوث عن المتوسط العالمي لدى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.

وكانت الصدمة بما توصلت إليه الأبحاث الأخيرة بأن تلوث الهواء الناتج عن الوقود الأحفوري -خاصة الفحم والبنزين والديزل- يتسبب في الحقيقة بخمس وفيّات العالم السنوية تقريباً، وهو رقم أعلى بكثير مما كانت تقترحه الأبحاث السابقة.

فهناك أكثر من 8 ملايين شخص لقوا حتفهم جراء تلوث الوقود الأحفوري عام 2018 وفقاً لبحث نُشِر العام الماضي من جامعة هارفارد، بالتعاون مع جامعة برمنغهام وجامعة ليستر وكلية لندن الجامعية؛ ما يعني أن هذا التلوث بات المسؤول الفعلي عن حوالي 1 من كل 5 وفيات في جميع أنحاء العالم.

ويُعدّ هذا الرقم انخفاضاً عن مستويات الوفيّات السابقة؛ إذ كان هذا النوع من التلوّث مسؤولاً عن 21.5% من إجمالي الوفيات في عام 2012، وانخفض إلى 18% في عام 2018 بسبب اتّخاذ الصين إجراءات مشددة لتحسين جودة الهواء.

وفي الهند، كان تلوث الوقود الأحفوري مسؤولاً عن ما يقرب من 2.5 مليون شخص (فوق 14 عاماً) عام 2018؛ ما يعني أكثر من 30% من إجمالي الوفيات في الهند للبالغين ومن يزيد عمرهم عن الرابعة عشرة.

وكانت دراسة كندية حديثة أثبتت أنه حتى المستويات المنخفضة من تلوث الهواء قد تضرّ بالصحة وأنه لا يوجد مستوى آمن لتلوث الهواء، وذلك بعد وصولها لتعرض 7848 مواطناً للموت المبكر كل عام بسبب تلوث الهواء الخارجي، بالرغم من أن هواء كندا من ضمن الأنقى في العالم.

وفيات الأطفال
يُعدّ الأطفال الفئة الأكثر هشاشةً أمام آثار حرق الوقود الأحفوري، ويتسبب الهواء السام الذي ينجم عنه بأكبر خطرٍ على الصغار حول العالم.

يموت آلاف الأطفال دون سنّ الخامسة كل عام بسبب التهابات الجهاز التنفسي المنسوبة إلى تلوث الوقود الأحفوري.

وتمثل فترات نمو الجنين والطفل الأولى المراحل الأكثر تعرّضاً للتأثيرات المزدوجة لاحتراق الوقود الأحفوري، بما في ذلك التأثيرات السامة المتعددة للملوثات المنبعثة (بما في ذلك الجسيمات وأكاسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين والمعادن وغيرها)، وآثار تغير المناخ العالمي العامة على الصحة، التي تُعزى في جزءٍ كبير منها إلى ثاني أكسيد الكربون المنبعث من حرق الوقود الأحفوري.

وتنوّه دراسات متعددة إلى ارتباط تلوث الهواء بنواتج احتراق الوقود الأحفوري بوفيات الأطفال، وانخفاض الوزن عند الولادة، والعجز في وظائف الرئة، والربو عند الأطفال، واضطرابات النمو، والتأثيرات السمية المتعددة، وحتى السرطان، بالإضافة إلى الآثار الخاصة الظاهرة عند تعرض الأجنّة للهواء الملوث أثناء وجودهم في الرحم.

وفي هذا المجال، ركّزت العالمة الأمريكية في مجال الصحة البيئية فريدريكا بيريرا حياتها المهنية على الضرر الذي يلحق بالأطفال من تعرّضهم للمواد الكيميائية البيئية والملوثات، وتحاول تسليط الضوء على الأدلة العلمية المتزايدة التي تشير لتعرَض الأجنة والأطفال المتفاقم لخطر الإصابة بضعف النمو والربو والسرطان من آثار حرق الوقود الأحفوري، ويعود ذلك للضعف البيولوجي الأكبر بطبيعته للجنين والطفل في مراحل نموهما.

وبسبب تصاعد هذه المخاطر، بدأت مجموعة من الأمهات من حول العالم ممن رأين أطفالهنّ يعانون من أضرار صحيّة ناتجة عن صناعات الوقود الأحفوري بتجميع أنفسهنّ للمطالبة باتخاذ إجراءات حاسمة بهذا الخصوص تحت عنوان “هواء أطفالنا” (ourchildrensair).

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، التقى وفد من الأمهات عضو البرلمان البريطاني ألوك شارما للمطالبة بإنهاء تمويل الوقود الأحفوري، وكان على رأس الوفد أم فقدت ابنتها (9 سنوات) بسبب الربو الحاد المرتبط رسمياً بتلوث الهواء في لندن، ومعها أمهات أخريات يمثّلن ما يقرب من 500 أم وأبّ من 44 دولة مختلفة، وقد يكون أكبر حشد للوالدين بشأن أيّ قضية في التاريخ.

زقاق السرطان وتبعات أخرى..
جسم الإنسان مجهّز جيداً لحماية نفسه من الجسيمات الكبيرة المحمولة في الهواء؛ مثل حبوب اللقاح والغبار الثقيل، لكن الجزيئات الأصغر تُستنشق بعمق لتدخل في رئتينا وقد تصل إلى مجرى الدم.

ومن هنا تأتي خطورة الجاني الأكثر تهلكة، ألا وهو الجسيمات الدقيقة، من النوع المسمى “بي إم 2.5” (PM2.5)، أي الجسيمات التي يقلّ حجمها عن 2.5 ميكرون.

يعتبر احتراق الوقود الأحفوري مصدراً رئيسياً من مصادر إنتاج هذه الجسيمات إلى الهواء، ويرتبط التعرض لها بمجموعة من المشكلات الصحية الخطيرة، بما في ذلك أمراض الجهاز التنفسي والسكتات الدماغية والأزمات القلبية وغيرها.

وصنّفت منظمة الصحة العالمية الجسيمات الملوّثة للهواء على أنها مادة مسرطنة من المجموعة الأولى، كما صُنّف الهواء الخارجي الملوّث بالمجمل باعتباره مادة مسرطنة للإنسان أيضاً.

ووصف الأمر الدكتور كيرت ستريف -أحد كبار العلماء في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية في ليون بفرنسا- بأننا أصبحنا نتنفس من هواء “ملوث بمزيج من المواد المسببة للسرطان”.

ويُعدّ “زقاق السرطان” مثالاً بيّناً على أثر هذه الصناعة على الأرواح البشرية، وهو اسم لمنطقة تمتدّ على طول ضفاف نهر المسيسبي بين باتون روج ونيو أورليانز، وتُعرف بهذا الاسم لأن كل واحد من سكّانها معرّض لخطر الإصابة بالسرطان بنسبة تفوق الـ50 ضعفاً عن معدل الإصابات في الولايات المتحدة، والسبب في ذلك رواد الصناعة الذين افتتحوا قرابة 150 من منشآت الوقود الأحفوري واليتروكيمياويات في المنطقة.

صحة الدماغ تحت تهديد الوقود الأحفوري أيضاً
بخلاف ما سبق ذكره، لا يزال العلماء يكتشفون باستمرار ارتباطات جديدة بين تلوث الهواء الناجم عن حرق الوقود الأحفوري ومشاكل صحية خطيرة، وأحدثها الدراسة التي صنّفت تلوث الهواء باعتباره أحد العوامل المسببة للخرف. يُذكر أن ملوثات الهواء عوامل مؤكسدة قوية تتفاعل بسهولة مع المواد الكيميائية الأخرى.

وتُستكشف روابط قوية بين تلوث الهواء وصحة الدماغ العامة؛ لأن التهاب الدماغ هو الاستجابة الطبيعية للجهاز المناعي لحمايتنا من الأمراض هناك، ويمكن أن تصبح هذه الاستجابة مفرطة النشاط وتتسبب في تلف خلايا الدماغ السليمة.

بصفة عامة، يُحفّز الهواء الملوث على نشوء أمراض الدماغ في سن مبكّرة، ويُهدّد بظهور مجموعة متنوعة من المشاكل العصبية، ومن النتائج التي توصلت لها الدراسات في ذلك، ظهور السمات المميزة لمرض ألزهايمر في أدمغة الأطفال في مكسيكو سيتي (التي صُنّفت المدينة الأكثر تلوثاً عام 1992)، وتضاعف مخاطر الإصابة بألزهايمر لدى النساء الأكبر سناً في المناطق الملوثة من الولايات المتحدة، وغير ذلك.

تكمن المشكلة مجدداً في الجسيمات متناهية الصغر التي تستطيع التحايل على آليات دفاع الجسم، وتقترح الدراسات أن بقدرتها حتى الارتفاع داخل الأنف والانتقال مباشرة إلى الدماغ عبر العصب الشمي، وبالتالي تجاوز الحاجز الدموي الدماغي خط الدفاع الرئيسي المجهّز لحماية الدماغ، ويمكن لها أن تصل للدماغ عبر مجرى الدم أيضاً لشدة صغرها.

المصدر: وكالات