هل نحن أمام نهاية حقبة حرب المدفعية التقليدية؟
السياسية:
خلال الصراع الحالي في أوكرانيا، سلمت الحكومات الأميركية والأوروبية عدداً من الأسلحة العالية التقنية إلى الجيش الأوكراني. وفي الواقع، أجهزة استخبارات “الناتو” تقوم بتقييمات ميدانية لأنظمة الأسلحة المتطورة الواحدة تلو الأخرى في الميدان الوحيد المهم حقاً: ساحة المعركة. ومن بين الأنظمة التي تخضع الآن لفحص دقيق، هناك النيران المضادة لبطارية المدفعية، وهي تكتيك وتكنولوجيا لم يتوقفا عن التطور منذ بداية الحرب العالمية الأولى، وبينما أكتب هذه الكلمات، فهي تسهم، إلى جانب عوامل قليلة أخرى، في عرقلة تقدم فلاديمير بوتين من الشرق.
وتعود أصولها إلى الأيام المظلمة للجبهة الغربية [جبهة برية واسعة النطاق بين فرنسا وبلجيكا أثناء الحرب العالمية الأولى]، حينما كانت الجيوش المتنافسة تحاول تدمير بعضها البعض باستخدام واسع النطاق للصناعة الحربية. وفي ذلك السياق، تظهر صور جوية من تلك الحقبة ساحة معركة شبيهة بفوهات سطح القمر. في تلك المرحلة، كانت معظم نيران المدفعية تستهدف نطاقاً معيناً وأطلق أطقمها قذيفة تلو الأخرى من موقع ثابت، على أمل تدمير أعدائهم عن طريق الاستنزاف.
ثم حدث أمر آخر. تطورت سلسلة من التقنيات الجديدة التي مكنت الجيش من حساب الموقع الدقيق لبطاريات العدو. للوهلة الأولى، عندما يطلق مدفع العدو قذيفة، عليك الاختباء، إذ إنها على الأرجح القذيفة الأولى في سلسلة كاملة من القذائف، وإذا لم تقتلك الأولى، فربما تؤدي واحدة أو اثنتان من القذائف المئة التالية إلى إلحاق مزيد من الضرر.
وعلى الرغم من ذلك، مع ظهور تقنية بطاريات المدفعية المضادة، بدأت طلقة العدو الأولى تمثل أمراً آخر. أصبحت رسالة موجهة عن غير قصد إلى الجيش البريطاني، تكشف موقع المدفعية الألمانية الدقيق. في وقت مبكر جداً من الحملة، كان الجنود يستعملون المناظير، مترقبين رؤية وميض معين. وبمجرد ظهوره، كانوا ينتظرون صوت الانفجار الفعلي. وبما أن الصوت ينتقل بسرعة 343 متراً في الثانية تقريباً، صار من الممكن تحديد المسافة بين المراقب والسلاح، إضافة إلى الاتجاه الفعلي الذي أتت منه النيران.
في المراحل الأولى من الحرب، استخدم الناس ساعات التوقيت للقيام بذلك، ولكن مع مرور الوقت، طور الفيزيائي الأسترالي ويليام براغ نهجاً أكثر حداثة، ربط فيه جهازاً إلكترونياً بميكروفونين أو ثلاثة موضوعة في مواقع محددة. كذلك، تمكن عريف تابع لبراغ، وهو أيضاً فيزيائي، من اختراع ميكروفون خاص يلتقط هدير التردد المنخفض لمدفعيات العدو، ما يساعد على تمييز هذا الصوت عن الهدير فوق الصوتي الذي تصدره القذيفة الفعلية. وهكذا، أصبح من الممكن تحديد موقع مدفعية العدو بنسبة خطأ حوالى 25 متراً تقريباً، ما سمح للمدفعية الصديقة بالرد على أسلحة العدو وتدميرها.
بيد أن هذا النوع من التقنية لم ينجح عندما كان العدو يقرر إطلاق صف كامل من المدافع في الوقت ذاته. إضافة إلى ذلك، كان يحدث تشويش في الصوت ناتج من التغيرات في اتجاه الرياح ودرجة حرارة الهواء. ولكن مع بداية الحرب العالمية الثانية، تجهز الجانبان بالرادارات، علماً أن معظم البطاريات المضادة الحديثة تستخدم الرادار عوضاً عن الصوتيات للكشف عن العدو.
وفي المراحل الأخيرة من الحرب، أدخل الألمان صاروخ “فاو 2” (V2) وبدأوا يقذفون أطناناً من المتفجرات الشديدة الانفجار إلى شوارع في لندن بشكل عشوائي ومن دون سابق إنذار. وكانت الحرب التي بدأت مع جنود خيالة يحاولون الدفاع عن بولندا، وصلت إلى ذروتها باستخدام القذائف ذات الدفع الصاروخي وأنظمة الكشف الإلكترونية المنتمية إلى عصر آخر على طراز تلك الموجودة في رواية “باك رودجرز” [شخصية خيالية علمية في قصص مصورة]. واستطراداً، كان النظام متقدماً للغاية لدرجة أن البريطانيين عندما سمعوا به للمرة الأولى لم يعيروه أهمية باعتباره معلومات مضللة، إذ إنه ببساطة كان من المستحيل على الألمان أن يطوروا مثل هذا السلاح المتقدم المبهر في الأعوام الخمسة أو الستة التي مرت منذ بداية الحرب.
بينما يطلق العدو قذيفته الأولى تجاهك، من المهم التقاط إشارة القذيفة الفعلية في منتصف طريقها نحوك واستخدام أجهزة الكمبيوتر لحساب موقع المدفع الفعلي الذي يحاول تفجيرك وتدميرك إلى قطع صغيرة
ولحسن حظ البريطانيين، جاء دخول صواريخ “فاو 2” متأخراً لكي يحدث أي فرق حقيقي في نتيجة الحرب، بيد أن الألمان امتلكوا ما يكفي منها لقتل بضعة آلاف من الناس في لندن وزرع الخوف في صدور سكانها الذين طالت معاناتهم. والأسوأ من ذلك بعد، أنه كان من المستحيل اعتراض الصاروخ. للوهلة الأولى، كان من المرجح أن تكون مواقع الإطلاق قابلة للقصف، بيد أن الألمان فكروا في ذلك مسبقاً. وفي الواقع، صمم الصاروخ ليطلق من نظام متنقل. وكانت القوات الألمانية تقود كل صاروخ إلى موقع محدد مسبقاً في حقل أحد المزارعين وتطلقه عبر القنال [الإنجليزي]، ثم بعد فترة وجيزة، تعود أدراجها إلى قاعدة معسكرها، مستعدة لتحميل الصاروخ التالي.
من منظور سلاح الجو الملكي البريطاني RAF، لم تكن هناك ببساطة منصة إطلاق ثابتة لقصفها. وفي محاولة يائسة للرد، حاول البريطانيون التقاط إشارة صاروخ “فاو 2” على الرادار ورسم مساره أثناء تقدمه نحو العاصمة. وبالنظر إلى أن كمية الوقود في الصاروخ متوقعة وأن الدفع الذي يوفره محركه معروف بالفعل، كان من الممكن على الأرجح تخمين [تقدير] موقع الإطلاق وحساب مكانه الدقيق بينما كان الصاروخ لا يزال في الهواء. بالتالي، كان بإمكانهم الاتصال بقاذفات “موسكيتو” المغيرة عن طريق الراديو وتزويدها بالإحداثيات الخاصة بمواقع الإطلاق قبل أن يتاح للألمان الوقت لحزم أمتعتهم والمغادرة.
كان جهداً بطولياً يستحق أن ينجح، لكن تأثير الرياح المتغيرة والضغط الجوي في ارتفاعات عالية أديا إلى حدوث أخطاء متعددة وفي النهاية، لم تنجح المقاربة.
واستكمالاً، استعملت جيوش الحلفاء كلاً من الأنظمة الصوتية والرادار في الحرب العالمية الثانية من أجل اكتشاف موقع المدفعية الألمانية واليابانية. وسرعان ما أصبح هذا النهج فاعلاً لدرجة أن العدو استوعب تكتيكاتنا وقرر تغيير الموقع عمداً قبل أن يتمكن البريطانيون أو الأميركيون من معرفته. وأدى ذلك إلى تكتيك جديد يعرف باسم أطلق النار وانطلق بسرعة، بتعبير آخر، أطلق بضع قذائف على خصومك ثم ابتعد قبل أن يتمكن الجانب الآخر من تحديد موقعك. كانت تقنية استخدمها الجيش الياباني على نطاق واسع في معركة أوكيناوا.
وغني عن القول إن هذا النوع من التكنولوجيا تقدم بشكل هائل منذ ذلك الحين، وأصبح بإمكان حفنة من البطاريات المضادة الحديثة أن تسبب أضراراً أكثر من صف كامل من المدافع في الحرب العالمية الثانية. وفي الواقع، تعد البطاريات المضادة الموجهة بالرادار من المعدات الاعتيادية في معظم جيوش “الناتو” على الرغم من حقيقة أن بعض أحدث المعدات غير متاحة لكل جيش في العالم. وبعد قرار بوتين بغزو أوكرانيا، سلمت الدول المتعاطفة مع الجيش الأوكراني أنظمة من هذا النوع إلى الأوكرانيين.
وفي الحقيقة، يبدو أن الجيل التالي من الأسلحة المضادة للبطاريات فعل كثيراً للحد من تقدم القوات الروسية. في ذلك الإطار، قدمت فرنسا مدافع “هاوتزر” الضخمة التي تحمل اسم “القيصر” (Caesar) وأثبتت بالفعل، بحسب روايات متعددة، أنها أسهمت في تحول كبير [في مجرى الحرب]. يستخدم نظام “القيصر” مدفعاً يبلغ قطره 155 ميلليمتراً ويمكنه إطلاق النار على أهداف تبعد أكثر من 26 ميلاً [41.8 كلم] (أو 31 ميلاً [50 كلم] بقذائف مدعومة بالصواريخ). وكمدفع ذاتي الحركة، يستطيع إطلاق ست رشقات والابتعاد في غضون دقيقتين قبل أن يتمكن العدو من الرد. وفيما استخدم الجنود في الحرب العالمية الثانية قطعاً من الورق ومعدات يدوية الصنع لاستهداف الأعداء، جرى تعزيز الأنظمة الحديثة بشرائح السيليكون، ما يجعلها الأكثر دقة على الإطلاق.
وبينما يطلق العدو قذيفته الأولى تجاهك، من المهم التقاط إشارة القذيفة في منتصف طريقها واستخدام أجهزة الكمبيوتر من أجل حساب موقع المدفع الفعلي الذي يحاول تفجيرك وتقطيعك [إحالتك] إلى قطع صغيرة. في المقابل، يمكن لأجهزة الكمبيوتر ذاتها أن ترسل إشارة إلى طواقم المدفعية الصديقة، وتعطيهم تعليمات حول طريقة الرد على النيران مباشرة باتجاه المدفع الذي أطلق قذيفة للتو على الأوكرانيين. وأدت تلك التقنية إلى حصول مبارزات مدفعية على مسافات أقصر بين الجيوش المتنافسة. الآن، تطلق المدافع الروسية الذاتية الدفع سلسلة قصيرة من القذائف على الخصم ثم تتوقف وتبدأ على الفور بالانتقال إلى موقع جديد ومختلف، إذ إن الموقع الذي تسارع إلى غادرته على وشك أن يتضرر بشدة من البطاريات الأوكرانية المضادة.
بطريقة موازية، هناك تقنية جديدة أخرى تتضمن المراقبة الجوية المستمرة للعدو باستخدام المسيّرات. والجدير بالذكر أن تحديد موقع مدفعية العدو بصرياً أعطى ميزة هائلة للجيش وأدى إلى ظهور صناعة جديدة في الأسلحة المحمولة التي ربما تكون فاعلة ضد الطائرات المسيّرة، على غرار سلاح “سكاي بيم” (Skybeam) الإسرائيلي الصنع، وهو عبارة عن سلاح محمول يدعي المصنعون أنه قادر على تعطيل طائرة من دون طيار على مسافة تصل إلى ثلاثة كيلومترات. إذاً، مع تقدم تقنية ما وتزويدها أحد الجانبين على ما يبدو بميزات تنافسية [إمكانات تفوق}، يطور الجانب الآخر سلاحاً مضاداً لحرمانه من تلك الميزة [القدرات]. في المقابل، نشر الجيش الروسي نظاماً قائماً على الليزر لمواجهة الطائرات المسيّرة الغربية المستعملة في اكتساب معلومات استخباراتية عن جيوشها. ويبدو أن الإلكترونيات الرقمية والرادار الحديث تخليا عن العلوم الصوتية التي كانت معتمدة في الحرب العالمية الثانية.
على الرغم من ذلك، ربما تكون فكرة الرصد الصوتي على وشك العودة من جديد. تذكر [أيها القارئ] أنه عندما يقوم جندي ما بتشغيل الرادار من أجل البحث عن قذيفة معادية أثناء طيرانها، فإنه في الواقع يستخدم القذيفة لإقتفاء أثر الموقع الدقيق للمدفعية التي أتت منها. بالتالي، لم يعد إطلاق قذيفة مدفع على الخصم مجرد وسيلة لمهاجمة العدو، بل قد يمثل أيضاً طريقة لإخبار عدوك بمكانك بالضبط. خلال النزاع في جزر فوكلاند، تمكن سلاح الجو الملكي البريطاني من تدمير نظام رادار أرجنتيني باستخدام صاروخ أطلق جواً من قاذفة “فولكان” (Vulcan). آنذاك، التقط الصاروخ إشارة الرادار وتبعها وصولاً إلى هوائي الرادار بحد ذاته الذي سرعان ما تم تدميره. ومع مرور الوقت، بدأ الأرجنتينيون يدركون ما كان يحدث وأوقفوا تشغيل الرادار عمداً بمجرد اكتشافهم قاذفة “فولكان”.
وعلى نحو مماثل، فإن إشارة الرادار المنطلقة من البطارية المضادة تبث موقع الرادار [والبطارية] التي تعود إلى الأشخاص الذين يطلقون النيران، على افتراض أن خصمك لديه التقنية اللازمة لاكتشاف تلك الإشارة. على النقيض من ذلك، فالنظام القائم على تحديد إشارة صوتية من مدفع الخصم هو جهاز غير فاعل [متلق وليس مصدر لإشارة ما]، لا يقوم بشيء يذكر للكشف عن موقعه. حالياً، يستثمر عدد من الجيوش حول العالم في أنظمة الكشف الصوتي لتحديد مواقع مدفعية العدو في زمن الحرب.
وفي سياق متصل، يعتقد أن قوة الشرطة الأميركية من الممكن أن تنشر نظاماً صوتياً في بعض المدن الأميركية، يبلغ سيارة الشرطة بالاتجاه الذي يجب أن تسير فيه من أجل اكتشاف السلاح الذي تم إطلاق النار منه للتو. سيخبرك [مثل هذا النظام] أيضاً بالمسافة بين ميكروفونات مراقبة الشرطة ومطلق النار. ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا النظام سيكون مفيداً في مكافحة الجرائم المدنية أو لا.
بقلم : ستيفن كاتس كاتب
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع “اندبندنت عربية” وتعبر عن راي الكاتب