السياسية:

الحرب هي السياسة بطريقة أخرى. والمبادرات التي تأخذ بخناق بعضها لحلحلة الأزمة في السودان هي النزاع بطريقة أخرى، فالمناداة بها باسم إنقاذ الوطن، بطريقة مجردة من كل غرض، ما هي إلا سعي أطراف النزاع منذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، إلى تعزيز مواقعها ضمن الحكومة الانتقالية وترجيح كفة ميزان القوة لصالحها.
تكاثرت هذه المبادرات منذ الانقلاب حتى بلغت ثماني مبادرات بحسب إحصاء أحمد أبو شوك، الأكاديمي في جامعة قطر. واستدعى تكاثرها أن تقوم مبادرة من مديري الجامعات السودانية لجمعها وتحليلها للخروج منها بقواسم مشتركة مقبولة لأصحابها. بل قال الخليفة الطيب الجد، صاحب المبادرة التي تشغل البال السياسي الآن، إن مبادرته للم الشمل ستستوعب 50 مبادرة أخرى في اجتماع سيعقد للغرض.
المبادرة التي شغلت الناس طوال الأسبوع الماضي، كانت مبادرة الخليفة الطيب أحمد الجد العباس (1930- ) الخليفة السابع للشيخ العبيد ود بدر لمقام الشيخ العبيد ود بدر القادري طريقة بجنوب شرقي الخرطوم. وعاش الشيخ المؤسس في عهد الحكم التركي في السودان (1821-1885). ولم يتحمس لدعوة المهدية التي صدح بها محمد أحمد المهدي عام 1881 ولم يمانعها أيضاً. واشتهر عنه قوله “كان مهدي جيد لينا وكان ما مهدي شن لينا”. وشارك أبناؤه في حصار الخرطوم عام 1985 حتى سقطت في يد المهدي. واستدعاه المهدي للبيعة في الخرطوم على ما هو معروف عنه من العزوف عن القدوم على الحكام. فتثاقل. واشتهرت عنه كلمته “يا بركة القيوم ما أصل الخرطوم”. ومات في ليلة موعده للقاء المهدي.

فتح صدور المبادرة عن صوفي كالخليفة الطيب، الباب لنقاش حول الصوفية ومشروعية خوضهم في السياسة العامة. فتجد من استبشر بقدوم الصوفية لميدانها بما جبل عليه أهلها من الحكمة والزهد عن الغرض. فبدت المبادرة لهؤلاء المستبشرين وكأنها استجابة لدعائهم أن يخرج السودان من منزلقه الحالي نحو الهاوية. واعترض آخرون على قدوم الصوفي ساحة السياسة التي لم يخلق لها، مطالبين بأن يعكف على أوراده. والمستغرب أن يستبشر قوم في السودان لدخول الصوفي في السياسة، أو يستنكروا منه هذا. فالسياسة والصوفية سيان في تاريخ السودان المعروف منذ قيام أول دولة إسلامية مركزية فيه عام 1504. بل يكفي أن الحزبين الغالبين في السودان منذ عرفنا الأحزاب هما لجماعتين كانت الصوفية الأصل في نشأتهما. فلا حكمة ستستجد بمبادرتهم المطروحة اليوم، لم يقع لنا مثلها في الماضي. وليست مبادرتهم الراهنة حدثاً في السياسة يحظرون من دونه. فهي ما تعودناه من الصوفية. وما تعودته منا صلح الأمر أم طلح.
ولا يحتاج الناظر في تلازم الصوفية والسياسة في السودان من تقويم لسياسات الطيب الجد نفسه منذ قيام الثورة. فلم يعتزلها وكانت له مواقف منها وآراء اتفقت له. فاجتمع سابقاً مع المجلس العسكري في صحبة طائفة من الأئمة والدعاة في 21 أبريل (نيسان) 2019 في أعقاب انقلاب العسكريين على الرئيس المخلوع حسن عمر البشير. وعبر الطيب عن فرحة بهلاك نظام غلب الأجواد والناصح. ونوه بالتغيير الذي حدث بفضل “هؤلاء الشباب” واستدرك قائلاً “الشباب العسكري الذي أزال الحكم وجلس في هذا المكان”. ولا يخفى على السامع أن الخليفة لم يرد أن تنصرف كلمة شباب إلى جيل ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول)، الذي عادة ما ينسب الناس له الفضل في التغيير في تلك الأيام، بخاصة.

ولم تكن مبادرة الخليفة الطيب هذه هي الأولى لرأب الصدع الوطني منذ الثورة. فقاد في مايو (أيار) 2021 المبادرة الشعبية لحراسة الثورة، جمعت وجوهاً من المتصوفة والإدارة الأهلية. ووجهوا الدعوة إلى الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس مجلس السيادة لحضور فطور رمضاني معهم. ولم يسعد “حميدتي” بهجوم الخليفة الطيب على العلمانية في سعيه لحراسة الثورة بالدين. ورأى فيها سياسة خليقة بسياسيين، كان أجدر بجمع للكبار من الصوفية وزعماء العشائر، النأي عنها طالما دعوا إلى لم الشمل لا لتشتيته. ونصحهم “حميدتي” بانتظار المؤتمر الدستوري المرتقب للنقاش عن هوية الدولة. ومما يستحق الذكر أن “حميدتي” لم يتحمس لمبادرة الخليفة الطيب الجد الأخيرة واشترط لقبولها أن يعرف من وراءها.
ولم يتأخر الخليفة الطيب عن دعوة الداعي لمناهضة الحكومة الانتقالية. وكان على مرات ضيفاً على “قناة طيبة” المعارضة للحكومة الانتقالية، فعبر في كلمة له في 30 يونيو (حزيران) 2021 عن تضامنه مع الزحف الأخضر المناهض للحكومة. ودعا فيها إلى سقوطها “لأنها أعلنت عداءها لله والرسول والكتاب” والإتيان بحكومة صالحة بدلاً منها. وتحدث في أول أبريل 2021 للقناة ذاتها في مناسبة إرساء اتفاق السلام مع إسرائيل عبر رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان. فقال إنه وكثيراً من الصوفيين ضد السلام مع إسرائيل، وإنه لا يصح في مثل ذلك الشأن أن يقتصر القرار على مجلس السيادة لأنه شأن جلل يستفتى فيه الشعب عن طريق ممثليه. وزاد أنهم يرفضون فصل الدين عن الدولة.
وهكذا، ومصداقاً لقولي إن المبادرة هي النزاع بصورة أخرى، فمبادرة الخليفة الطيب تنازع لمواقف سياسة اعتمدتها منذ قيام ثورة ديسمبر 2018، إن لم تسبقها. ونازع عند تلك المواقف التي فيها استنقاذ البلاد والعباد عند كل منعطف مذاك.
وبلغ من شدة تمسكه بهذه المواقف أنه لم يهن عليه أن يرمي لجماعات كثيرة من السودانيين، ممن دعاهم لخيمته، ما يغري بمبادرته. فلن تجد حتى جماعات قوى الحرية والتغيير المتطاحنة (المركزي والشيوعي والتوافق) ما يغري في مبادرة لا تستثني من العزل السياسي “حزب المؤتمر الوطني” الحاكم على عهد البشير، ناهيك عن خلوها من الإشارة إلى فريضة التحقيق في العنف الذي طال شباب الثورة منذ اندلاعها، والكشف عمن وراء واقعة فض الاعتصام في يونيو 2019 بالذات. كما ستجد “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، التي تحتل أرضاً “محررة” في جبال النوبة منذ أكثر من عقد، تركيز المبادرة على “المحافظة على الهوية الإسلامية صاحبة الفضيلة” صدى من الدولة الدينية التي نازلتها منذ الثمانينيات، داعية إلى العلمانية. بل أشك أن تلقى المبادرة قبول حركات دارفور المسلحة التي وقعت على اتفاق سلام جوبا (أغسطس/ آب 2020). فهي لم تطالب بفصل الدين عن الدولة فحسب، بل تحقق لها ذلك أيضاً في الاتفاق بصورة مسرفة.
سيجتمع أهل مبادرة الخليفة الطيب الجد إلى مائدة مستديرة، في الـ13 والـ14 من أغسطس الحالي، ليعدوا لقيام حكومة انتقالية لعام ونصف العام قبل إجراء الانتخابات العامة. وستعقد المائدة المستديرة بمن حضر أو “الزول الأبا نعمل ليهو شنو؟”، كما قال الخليفة الطيب في الرد على من سأله عما سيحصل لو تخلفت طوائف ممن دعاهم إلى مائدته المستديرة. ومتى اعتزلت مائدة المبادرة كتلاً سودانية رئيسة في النزاع وصارت المائدة حشداً للطرف الآخر، مما يجعلها تسعيراً للنزاع نفسه بصورة أخرى.

بقلم : عبد الله علي إبراهيم أكاديمي وصحافي
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية وتعبر عن راي الكاتب