ليلى عماشا*

يوم عاد باسل الأعرج على نعشه، هرع عمّه إلى أمّه يبشّرها أنّ جميع الرصاصات اخترقت جسد “ضناها” في وجهه وصدره، وأنه لم يجد أيّ رصاصة في ظهره.. صرخت بكلّ عزّة “سبع يُمّا”.

والدة الشهيد الأسير الفلسطيني ياسر حمدوني شاركت بحمل نعشه فوق رأسها، وسارت به إلى مثواه كما لو أنّها تحمل وليدها إلى المهد..

وبالأمس، أم ابراهيم النابلسي، زغردت، ضحكت، تحدّثت إلى رفاق شهيدها ودمه لم يزل على حافة منديلها الأبيض، فرحت به، حملت نعشه وبارودة..

لا يتسع مكتوب لحكاية أمهات الشهداء، في فلسطين وفي كل أرض تقاوم.. لا يتسع لوصف تعابير وجوههن كتاب، ولا تحوي لغة في الأرض ما يكفي من الرموز لترجمة أمومتهن.. فأمومتهن قصّة مختلفة.. قصّة يتوقف عندها مطوّلًا من لا يستطيع فهمها.. وقد يحاكمها جاهلٌ أو يسيء فهمها مصابٌ بلوثة الفردانية..

يبدو عصيًّا على الذين تخلّوا عن فطرتهم أن يفهموا كيف لأمٍّ تذرف دمعها كلّه أمام مهد صغيرها إذا ارتفعت حرارته وتُجنُّ إذا جرحه أحد بكلمة أو بتصرّف، أن تقف بكلّ صلابة وتتلقى رصاصة نبأ استشهاده فتزغرد. ربما من نعم الله علينا أن عشنا في زمن يمكن لنا فيه التعرّف عن قرب على حقيقة هذه الأمومة العالية، فلا نقف أمامها متعجبين، بل نغرق فيها، نذوب في تفاصيلها، ندرك عناصرها ونظلّ نشعر بالخجل حيالها…

إلى أمّ ابراهيم.. إلى أمهات الشهداء جميعًا..‎‎
الشهيد ابراهيم النابلسي مشاركاً في تشييع رفيق له

 

يحاول الكثيرون من أهل المعسكر الأميركي الصهيوني والثقافة الغربية الركيكة انسانيًا، تفكيك نموذج أم الشهيد بهدف تفريغه والحدّ من أثره.. هم يريدون نموذج الثكلى المنهارة التي أصابها الجزع من هول الفقد الذي أصابها، ولما لم يجدوه حاولوا العمل على رجم هذا النموذج عبر الحديث عنه وكأنّه خالٍ من العاطفة، فترى أحدهم بكل وقاحة يضع حبّ الأم لابنها محل استفهام أو يتّهمها بالتمثيل والمكابرة.. هم بذلك يحاولون فك الإرتباط بين الأمومة والأرض، وبين العاطفة التي تجمع الأم كفرد بابنها، وبين كونها نهر عاطفة يجمع في مساره حب الأرض والكرامة والحرية والإيمان ويصبّ تمامًا في صدر الإبن الشهيد.. هنا، الأمّ ليست فردًا في مشهد تشييع الشهيد، هي بلاد بكل ما تحوي البلاد، وهي القضية بكل ما يخصّ القضية، وهي الفداء بكل معاني الفداء.. وهذه الأم نفسها تستمدّ صلابتها من حقيقة فهمها لمعنى الشهادة، وتقرّ بأنّها لو كانت تشيّع ابنها وقد قضى نحبه في حادث أو من مرض لاستطاعت أن تبيح لنفسها الحق بالإنهيار.

أم الشهيد، تدرك بفطرة الأمومة، أن كلّ ما يصدر عنها مرتبط بسيرة شهيدها.. أم المشتبك تكمل اشتباكه بوقوفها في تشييعه صلبة.. أم الذي استشهد اغتيالًا تعي أن أحد أهداف اغتيال ابنها هو كسر الحلقة المتماسكة المحيطة به، فتشدّ جرحها وتتماسك.. أم المدنيّ الذي استشهد في قصف تعرف أن أحد أهداف القصف هو ترويع الناس وترهيبهم، فتقف كي تقول لن نُرهب ولن نجزع.. المسألة ليست نتيجة تخطيط مسبق. ما يصنع جهوزية الأم لمواجهة على هذا القدر من الإيلام هي فطرتها أولًا، والفطرة لا تتجزّأ، فالأمومة والإرتباط بالأرض عنصران في فطرة واحدة..

نعود إلى أم ابراهيم. يودّ المرء أن يتمكّن من الوقوف صلبًا أمام علو عتبة احتمالها.. لكن الدّمع يسبق العين إلى كفّها. يرتمي عند تراب قدميها قبلة. ينسكب على وجهها كي يغسل عنه شحوب الشوق الذي ولد ماردًا في لحظة تلقيها النبأ.. يرى فيها عند جثمان ابنها أمًّا تضمّ وليدها بعد مخاض طويل ومؤلم.. يسمع كلماتها التي تتلوها على دمه وقد غطى كفيها فيشعر أنّها تهمس له بتهويدة يحبّها قُبيل النوم.. يسترق النظر إليها وهي تحتضن رأسه المخضّب فيراها أمّ العريس التي تنظر إلى جمال ابنها وتصلّي على النبي الكريم، وتحوّطه بأسماء الله كي لا تصيبه عين حاسد.. تقول “استودعتك يا الله من كان عندي.. من كان أغلى من روحي.. ابراهيم”.

* المصدر :موقع العهد الإخباري