المقاومة في عالم “ما بعد العصر الأمريكي”
إيهاب شوقي*
بدأت بعض ملامح السلوك الأمريكي في سياق نزوله الإجباري عن عرش الأحادية القطبية بالاتضاح في الفترة الأخيرة، وبدت مع هذا السلوك، مكامن الضعف والقوة العالميين وما تخشاه أمريكا حقا وما لا تخشاه.
ويمكنا رصد بعض من هذه الملامح على النحو التالي:
1- الأولوية الرئيسية الأمريكية هي علاج شعبية الإدارة الأمريكية في الداخل، وهو على ارتباط وثيق بلملمة الوضع الداخلي الأمريكي خشية انفراط العقد الاجتماعي الداخلي على خلفية الأزمة الاقتصادية ومظاهر التراجع الدولي لأمريكا والذي القى بظلال كثيفة على الداخل.
وهو ما تمثل في حرص الرئيس بايدن على تكثيف الخطابات واستخدام المقال المكتوب في أشهر الصحف الداخلية لخطاب الداخل والتأكيد على حرص الإدارة على مصالح الشعب الأمريكي حتى لو بسياسات وخطوات تتناقض مع القيم الأمريكية المعلنة!
وربما كان الإعلان عن اغتيال ايمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة وزيارة نانسي بيلوسي الى تايوان خطوتان في هذه المقاربة الداخلية الأمريكية الساعية الى استعادة ثقة الداخل في القوة الأمريكية!
2- مع التحركات الأمريكية الدولية تبدو الخشية الأمريكية الحقيقية والتي تشكل لها خطوطا حمرا، حيث تبدو الخشية العسكرية من روسيا على أشدها بالحرص على عدم المواجهة المباشرة وتحاشي الوصول لنقاط الصدام، وكذلك يبدو الحال مع إيران حيث كانت سوابق الاحتكاكات في صالح إيران التي لم تبدِ أي خشية من المواجهة المباشرة سواء بحريا، أو عبر اسقاط طائرات امريكية، او عبر قصف مباشر للقواعد العسكرية الأمريكية، بينما ظهرت الخشية اقتصادية فقط مع الصين، حيث لم تبالِ أمريكا بتهديدات الصين العسكرية، وانما استخدمت استفزازاتها للصين كأداة لجر الصين لاجراءات يمكن معها توريطها سياسيا وبالتالي اقتصاديا في عقوبات وحصار اقتصادي!
3- تستغل امريكا سياسة الضغط على أضعف تابعيها وانتزاع المكاسب القصوى منهم، بينما تستخدم المقايضات مع من يمتلك هامش قوة ومناورة وهو ما تجلي فيما تم كشفه اخيرا من استخدام السودان في نقل الأسلحة من أذربيجان إلى أوكرانيا وهو ما يعد طعنة سودانية في ظهر الروس الذين يركنون الى بعض الحياد من جانب السودان، بينما يتم منح بعض المكاسب السياسية لدول الخليج في مقابل ضمان الحد الأدنى من الولاء وعدم الاصطفاف في المعسكر الآخر.
وهو ما يكشف ان الاقتصاد بات العامل الأكبر المتبقي في الهيمنة الأمريكية بلحاظ استغلال الأفقر والمقايضة مع الغني، ما يعطي درسا للشعوب للاستقلال الاقتصادي واتباع نهج الاقتصاد المقاوم طالما خلت هذه الدول من الثروات النفطية التي تعطيهم قوة وهمية لا تكفل لهم الاستقلال التام ولا تحميهم من الارتهان.
هنا نحن أمام إمبراطورية متراجعة تحاول التشبث بأظافرها الجارحة بما تبقى لها من مكان بالعرض العالمي، وهو ما ينذر بسياسات أمريكية خطيرة تعمل على إشعال الفتن والحروب لتعطيل الآخرين، مع الحرص على عدم التورط المباشر وإهدار ما تبقى من قوة وهيبة.
وبلحاظ العقيدة البحرية الروسية الجديدة التي وقعها مؤخرا الرئيس فلاديمير بوتين، فإن شرق المتوسط أخذ مكانة متقدمة في الأمن القومي الروسي، إلا أن الجديد هو التركيز على البحر الأحمر وضرورة ضمان قواعد لوجستية وتأمينية، وهو ما يلقي الضوء على طبيعة وجغرافية مناطق الصراع والتوتر القادمة، والتي تضم الى جانب شرق المتوسط، سواحل البحر الأحمر الممتدة من اليمن جنوبا وصولا إلى قناة السويس، وهي مناطق صراع ضخم وخطير.
ربما كان الاستقبال الأمريكي الأول لهذه العقيدة الروسية الجديدة، هو الإعلان عن مناورات أمريكية إسرائيلية في البحر الأحمر، وهو تحديد للمعسكرات والاصطفافات، بأن امريكا والعدو الصهيوني في مواجهة روسيا ومن يحالفها وفي جبهات جديدة تضم البحر الأحمر إلى جانب شرق المتوسط.
هذا يقودنا الى أن محور المقاومة حاضرٌ في الجبهتين، وأن نذر الحرب الشاملة تقترب، وأن تشخيص المقاومة ورسائلها كان دقيقا وصادقا، حيث أرسلت أكثر من مرة برسائل تفيد بأن المواجهات عند حدوثها لن تكون محدودة ولا ضمانة لانزلاقاتها على أكثر من جبهة ولشمولية المعركة.
في ظرف دولي وإقليمي كهذا، سيذكر التاريخ كم كان قرار المقاومة حاسما وشجاعا بعدم تمرير الفرصة التاريخية لانتزاع الحقوق وبشجاعة المواجهة واتخاذ قرارها مهما كان الثمن، حيث الصمت والتمرير في لحظة تشكل نظام عالمي جديد سيترتب عليه انسحاق الصامتين وتثبيت أوضاع الاستضعاف، بينما المواجهة والشراكة في تشكيل الأقطاب سيترتب عليه انتزاع الحقوق والبقاء كقوة كريمة لها وزنها واعتبارها.
* المصدر :موقع العهد الإخباري