حرب أوكرانيا ميدان لفانتازيا اسمها “صراع نموذجين”
السياسية:
رهان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “ثوري” بالمقلوب: سياسات القرن التاسع عشر هي مستقبل العالم في القرن الحادي والعشرين، ولا شيء يُوحي أنه متردد في قراءة التاريخ بمفعول رجعي. لعبة الرجل أكبر من أوكرانيا، ولو احتل كل أرضها و”اختفت كدولة من خريطة العالم” كما توعد صديقه الرئيس ثم رئيس الوزراء سابقاً ونائبه حالياً في رئاسة مجلس الأمن القومي ديمتري ميدفيديف.
وما يُعمل له ليس مجرد تكبير الدور الروسي في النظام العالمي رداً على اتهامه للغرب بالعمل على تصغير هذا الدور، بل أيضاً بناء نظام آخر. وتلك مشكلة، لا فقط مع أميركا وكل الغرب، بل أيضاً مع الصين. لماذا؟ لأن الصين هي حالياً حارس العولمة التي تتململ أميركا منها. والصورة كما يرسمها البروفسور إليوت كوهن في مقال نشرته “فورين أفيرز” هي: “روسيا تريد كسر النظام العالمي، والصين حريصة على العمل به”.
ذلك أن بوتين يقول بوضوح “إن المواجهة مع الغرب ليست مرتبطة فقط بالوضع حول أوكرانيا، بل أيضاً بأنها صراع بين نموذجين لإدارة العالم”. والغرب في رأيه “ليس نموذجاً جذاباً، ولا يمكنه أن يقدّم للعالم نموذجاً للمستقبل”. فما المقابل؟
فانتازيا تدور على مقولة إن “تاريخ البشرية ينتقل إلى مرحلة جديدة، حيث يمكن الدول ذوات السيادة الحقيقية فقط إظهار دينامية نمو عالية”. وهكذا “يتم تطوير أسس ومبادئ متناغمة وأكثر إنصافاً في نظام عالمي”. قمة الفانتازيا المدعومة بالصواريخ والعودة، لا فقط إلى سياسات الإمبريالية في القرن التاسع عشر، بل إلى “مبدأ أثينا” في الحروب أيام الإغريق: “القوي يفعل ما يريد، والضعيف يعاني ما يجب عليه”.
والترجمة العملية لذلك هي انتقال موسكو من بديل إلى بديل آخر من النموذج الغربي. البديل الذي قدّمه الاتحاد السوفياتي من الرأسمالية هو الاشتراكية على طريق التطور نحو الشيوعية حسب النظرية الماركسية. وكان خروشوف يقول دائماً إننا على الطريق إلى “دفن الرأسمالية”، لكن أرماند هامر رجل الأعمال الأميركي صديق لينين يقول في مذكراته “شاهد التاريخ”: “لينين أدرك عام 1920 أن الشيوعية لن تنجح”، وهذا ما أكده سقوط الاتحاد السوفياتي من الداخل.
والبديل الذي يقدمه بوتين من النموذج الديمقراطي الغربي هو النموذج السلطوي الذي يبدو جذاباً في هذه الأيام من زاوية كون الأنظمة السلطوية أسرع في التنمية ومكافحة كورونا واتخاذ القرارات. وهو تصوّر تبسيطي من جانب واحد، فالأخطاء في الأنظمة الديمقراطية يمكن تصحيحها في إطار الديمقراطية مهما تكن رخوة وناقصة، أما الأخطاء في الأنظمة السلطوية فمن الصعب تصحيحها، لأن من المستحيل أن يقر الديكتاتور بأي خطأ، وأن يجرؤ مساعد له على لفت نظره إلى الخطأ.
لكن الامتحان يبقى في حرب أوكرانيا، مهما تكن الطموحات واسعة الأدوار في قيادة العالم. فالشيء الوحيد المعروف هو ما لن يحصل: حرب شاملة بين الغرب وروسيا، نووية أو غير نووية. والمجهول هو ما تتطور إليه الأمور في حرب بلا وسيط جدي ولا قوة ضابطة. حرب لا يستطيع بوتين الانتصار الكامل فيها، ولا يتقبل الهزيمة بالطبع.
ومن الصعب على الغرب تحقيق نصر أو إلحاق هزيمة كاملة بموسكو، حرب تبدو طويلة. بوتين يراهن، كما راهن أسلافه في غزو نابوليون بونابرت لروسيا على “الجنرال ثلج”، حيث يشتد صقيع الشتاء في أوروبا بلا غاز ونفط مع الارتفاع في الأسعار، ويتعب الأوروبيون من تمويل أوكرانيا وتسليحها، وتلعب المصالح الوطنية دورها، لكن السؤال: إلى أي حد يستطيع بوتين تحمل الخسائر البشرية والمادية حتى الشتاء وما بعده؟
يقول فرانسيس فوكوباما في مقال جديد عن الليبرالية: “إذا نجح بوتين في تدمير الاستقلال والديمقراطية في أوكرانيا، فإن العالم سيعود إلى حقبة الأعداء والوطنية اللا متسامحة كما في أوائل القرن العشرين. وإذا قاد روسيا إلى فشل عسكري واقتصادي فإن هناك فرصة لتعلم الدرس الليبرالي، حيث السلطة غير المنضبطة بقانون تقود إلى كارثة وطنية، وإعادة إحياء مثل عالم حر وديمقراطي”.
بقلم: رفيق خوري كاتب مقالات رأي
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية ويعبر عن راي الكاتب