السياسية:

تؤثر أزمة أسعار النفط والغاز المرتفعة على جميع دول العالم، وليس أوروبا والولايات المتحدة فقط، لكن لماذا يحذر الخبراء من أن ما نعانيه اليوم ليس الأسوأ في هذه الأزمة؟

وكانت أسعار النفط قد بدأت في الارتفاع قبل حتى أن تندلع الحرب في أوكرانيا، على خلفية بداية مرحلة التعافي من جائحة كورونا وزيادة الطلب على النفط بعد رفع الإغلاقات واستعادة النشاط الاقتصادي بعضاً من عافيته. لكن تأثير الهجوم الروسي على أوكرانيا، بعد أكثر من 5 أشهر على بدايته، يبدو أنه أكثر سوءاً مما توقعه أغلب المسؤولين والمحللين.

وتناول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية عنوانه “أزمة الطاقة عالمية”، أبعاد الأزمة في الوقت الحاضر واحتمالات انفراجها أو ازدياد تداعياتها السلبية في المستقبل القريب والمتوسط.

دول تواجه أخطاراً كارثية
وفي الوقت الذي تتصرَّف فيه روسيا بصرامة وعدوانية بخصوص إمدادات الغاز لأوروبا، ينتظر القارة العجوز مستقبل مقلق فيما يتعلق بالطاقة؛ إذ يرجع تاريخ اعتماد القارة الأوروبية على مصادر الطاقة الروسية إلى أكثر من ستة عقود مضت.

وكانت البداية مع اكتشاف النفط والغاز في سيبيريا أواخر خمسينيات القرن الماضي، ورغم الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، والغرب بقيادة الولايات المتحدة، فإن اعتماد القارة الأوروبية على موارد الطاقة الروسية بدأ فعلياً منذ مطلع ستينيات القرن الماضي.

وفي البداية جاء النفط، وبالتحديد من خط أنابيب دروزبا Drozhba، الذي ينقل النفط الروسي من حقوله في سيبيريا إلى أنحاء القارة الأوروبية. وبدأ العمل في تشييد خط الأنابيب الأطول في العالم منذ أواخر عام 1958، وكان يطلق عليه اسم “خط أنابيب الصداقة”، وبدأ ضخ النفط الروسي عبره لأول مرة عام 1962، ووصل وقتها إلى تشيكوسلوفاكيا، ثم في سبتمبر/أيلول 1963 وصل النفط عبر خط الأنابيب إلى المجر، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1963 وصل إلى بولندا، ثم إلى ألمانيا الديمقراطية، في ديسمبر/كانون الأول 1963.

لكن القارة الأوروبية ليست وحدها التي تعاني حالياً من أزمة الطاقة، إذ عاثت أسعار الغاز الطبيعي والنفط المرتفعة جداً فساداً حول العالم طيلة أشهر، ويحذِّر الخبراء من أنَّه لا نهاية تلوح في الأفق طالما استمرت الحرب في أوكرانيا. وتعتبر دول الاتحاد الأوروبي أكبر مستورد للطاقة، نفط وغاز وفحم وغيرها.

وأدَّى نقص الوقود وانقطاعات الكهرباء إلى إغراق البلدان المعتمدة على الاستيراد من الإكوادور حتى جنوب إفريقيا في اضطرابات اقتصادية، وهو ما دفع الحكومات اليائسة إلى الإسراع من أجل الإتيان بحلول بديلة.

ففي سريلانكا، التي كانت متعثرة بالفعل في ظل الأزمات المتصاعدة، أجبر النقص الحاد والطوابير الممتدة لأيام السلطات على إصدار أوامر عمل من المنزل لتخفيف الضغط الناجم عن انقطاعات الطاقة، في حين ضربت التظاهرات بنما بسبب ارتفاع الأسعار.

جمعهما الانهيار الاقتصادي.. كيف تتشابه قصتا لبنان وسريلانكا، وما الدول المرشحة للحاق بهما؟/ Getty
قال جيسون بوردوف، خبير الطاقة بجامعة كولومبيا الأمريكية لفورين بوليسي: “إنَّنا نشهد أول أزمة طاقة عالمية”، مشيراً إلى أنَّ الأزمة أصابت كل مناطق العالم وكل مصادر الطاقة تقريباً. وأضاف: “نرى التأثيرات المتتالية عالمياً، ولا أعتقد أنَّنا رأينا أسوأها بعد”.

كانت الأسواق تعاني الصعوبات بالفعل قبل الهجوم الروسي على أوكرانيا، نتيجة مزيج من الجائحة وتباطؤ سلاسل التوريد والصدمات المناخية. وتضاعف ذلك بفعل تقلُّص صادرات الغاز الروسية، التي أجبرت أوروبا على اللجوء إلى أماكن أخرى لتوفير إمداداتها ورفع الأسعار أكثر في السوق العالمية. والآن، فيما تصب الحرارة الشديدة الناجمة عن التغيُّر المناخي مزيداً من الزيت على النار، لا تزداد هذه التحديات إلا تعمُّقاً.

قال بوردوف: “إنَّه نظام عالمي مترابط. حين تسلِّط ضغطاً في مكان، تشعر به في مكان آخر”.

كانت آخر مرة شهد فيها العالم أزمة طاقة في السبعينات –ولو أنَّها كانت محصورة في النفط فقط- وقد فرضت منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” حظراً نفطياً تسبَّب بموجات صدمة في مختلف أركان صناعة النفط.

الاعتماد العالمي على الطاقة
أنطوان هالف، الخبير بمركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا، يرى أن الأزمة أدَّت إلى ميلاد “الوكالة الدولية للطاقة”، ودفعت الدول الصناعية لبناء مخزونات استراتيجية استعداداً لتعطل الإمدادات في المستقبل. لكنَّ الكثير من اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان المُثقَلة بالديون لا تملك نفس الملاءة، الأمر الذي يتركها مكشوفة بشكل خاص أمام أي اضطرابات.

قال هالف لفورين بوليسي: “لدينا اليوم مجموعة كاملة من البلدان الجديدة، بلدان أصغر كانت تتطور بسرعة وكانت تستخدم المزيد والمزيد من الطاقة، وهذه إشارة رائعة تعكس تطورها الاقتصادي. لكنَّ ذلك جعلها أكثر انكشافاً بكثير على مخاطر التعطلات، وهي ليست جزءاً من شبكة أمان الوكالة الدولية للطاقة”.

ولنأخذ باكستان مثالاً، وهي التي تعاني من أجل التعامل مع انقطاعات الطاقة، أو الإكوادور، حيث أدَّت الاحتجاجات الدامية بسب بارتفاع أسعار الوقود والتكاليف إلى توقف البلاد تقريباً في يونيو/حزيران الماضي.

وفي الأسابيع الأخيرة، شهدت غانا والكاميرون احتجاجات بسبب أسعار ونقص الوقود. وكذلك حدث مع الأرجنتين وبيرو، حيث أشعل ارتفاع أسعار الطاقة إضرابات وتظاهرات.

قال بوردوف: “تعاني أفقر البلدان في العالم اقتصادياً بالفعل، وهي في مواقف مالية ضعيفة وتكافح من أجل تحمُّل تكاليف الطاقة فقط. وأعتقد أنَّنا سنرى مخاطر أسوأ”.

وتقبع بعض البلدان في ظلام بالفعل؛ إذ أُصيبَت جنوب إفريقيا، التي ليست بكل تأكيد غريبة عن تخفيف الأحمال، بانقطاعات متواصلة للكهرباء في ظل معاناتها من واحدة من أسوأ أزمات الطاقة على الإطلاق. وكذلك الحال بالنسبة لكوبا، التي كانت تعاني بالفعل من انقطاعات واسعة النطاق للطاقة.

وعادت دول أخرى إلى استخدام الفحم لتوليد الكهرباء كي تتجنَّب مواجهة نفس المصير. فمع تعمُّق أزمة الطاقة في مايو/أيار الماضي، تعهَّدت الهند باللجوء إلى مناجم الفحم وزيادة الإنتاج، وبلغت واردات الهند من الفحم في يونيو/حزيران الماضي مستويات قياسية. وقد حذَّر وزير الطاقة الهندي من أنَّ البلاد قد تستمر في ذلك على المدى الطويل.

وفي أوروبا، أعادت دول مثل ألمانيا تشغيل محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم، بعد عقود على إغلاق تلك المحطات والتوقف تماماً عن استخدام الفحم بسبب نسبة التلوث العالية التي تسببها الانبعاثات الكربونية الناتجة عن استخدامه. وسبب القرار الألماني هو ارتباك إمدادات الغاز الروسي بطبيعة الحال.

الحرب في أوكرانيا تعمق الأزمات
قالت هيليما كروفت، خبيرة الطاقة بشركة RBC Capital Markets، إنَّ هذه التعطلات تُعَد جزءاً من صورة أكبر تتمثَّل في الطريقة التي أدى بها الهجوم الروسي على أوكرانيا إلى تكدير أسواق السلع وقلب الاقتصاد العالمي رأساً على عقب. فإلى جانب الطاقة، يُعَد البلدان مسؤولين أيضاً عن نسبة كبيرة من صادرات القمح العالمية والمدخلات الرئيسية لإنتاج الأسمدة، وقد شهدت كلتا السلعتين اختناقاتٍ خلال الحرب.

قالت كروفت: “هذه ليست قصة نفط أو قصة غاز وحسب. هذه قصة منتجات زراعية رئيسية، قصة أزمة غذائية عالمية محتملة. وهذا أمر محفوف جداً بالمخاطر سياسياً؛ لأنَّه يتسبب فعلاً بالكثير من المعاناة للكثير جداً من المواطنين”.

وفي الوقت الذي نبذت فيه البلدان الأوروبية إمدادات النفط الروسية، تحرَّكت الهند والصين لابتلاع مخزونها الأرخص، فأصبحت موسكو الآن أكبر مورد لبكين. لكنَّ استهلاكهما العالي لا يعني أنَّ الصين والهند نفسيهما لا تواجهان خسائر اقتصادية نتيجة للأزمة، فحتى مع التخفيضات الروسية، تدفع كلتاهما أسعاراً باهظة لوارداتهما الأخرى من الطاقة.

النفط الروسي

فرناندو فيريرا، مدير خدمة المخاطر الجيوسياسية بمجموعة Rapidan Energy Group للطاقة، قال للمجلة الأمريكية: “هنالك تأثير مالي هنا لا تُعوِّضه واردات النفط الروسية بشكل كامل، حتى وهي بخصم كبير”.

وقد تواجه تلك الأسواق صدمة أخرى الشتاء المقبل، حين تبدأ مجموعة كاملة من الإجراءات الأوروبية التي تستهدف روسيا. ومن أجل تخفيض الارتفاع المحتمل في الأسعار، سارعت إدارة بايدن إلى إعداد خطة لوضع سقف لسعر النفط الروسي، لكن هنالك الكثير من العقبات في الطريق.

فقالت كروفت: “يمكن أن نتوقع المزيد من الاضطراب في سوق الطاقة وارتفاع أسعار النفط في ديسمبر/كانون الأول المقبل، وهو ما يتوقَّف على كيفية فرض هذه العقوبات”.

ويقول الخبراء إنَّ مستقبل الأزمة متشابك بشدة مع مدة الحرب الروسية – الأوكرانية، والتي لا تُظهِر أي إشارات على التوقف. فقال فيريرا: “ستستمر (الأزمة) طالما استمرت هذه الحرب. لا نرى أي مؤشرات على أنَّنا نقترب من مخرج هنا في الصراع”.

المادة الصحفية ترجمت ونقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولا تعبر عن راي الموقع