“بولتيكا” النظارة وأحداث العنف في ولاية النيل الأزرق في السودان
السياسية:
ربما كان الصدام الدموي المؤسف الذي وقع، الأسبوع الماضي، بين جماعة “البرتا” وحلفائهم، ضد جماعة “الهوسا” في ولاية النيل الأزرق، جنوب شرقي السودان، هي المرة الأولى التي تأتي فيها الحكومة بـ “عظمة النزاع” في الواقعة المضرجة، فقال بيان حكومة الولاية إن الخلاف شبّ لدي مطالبة “الهوسا” بـ “نظارة”، وهي أعلى الرتب قاطبة في نظام الإدارة الأهلية في السودان كما سيأتي. وزاد البيان أنه تعذرت الاستجابة للمطلب لأن النظارة غير مأذونة شرعاً لمثل “الهوسا” التي تقيم في دار آخرين هم شعب “البرتا” و”الهمج”، وأضاف أنه صدر أمر من وزارة الحكم الاتحادي من قريب يسد الباب في وجه كل مطالب به. وبالطبع أزعج مطلب “الهوسا” في حد ذاته شعب “البرتا” وحلفاءه، فاحتجوا عليه، وصعدوا استنكارهم له إلى حدّ المواجهة الدموية بنطاقها الواسع إقليماً بعد إقليم في البلد.
نتوقف هنا لنعطي خلفية لـ “بولتيكا” النظارة في نظام الإدارة الأهلية لنحسن فهمنا لماذا قدح مطلب “الهوسا” بالنظارة شرارة نار سياسية موقدة في النيل الأزرق. فالإدارة الأهلية هي المسمى عندنا لـ “الحكم غير المباشر” الذي أدار به الاستعمار الإنجليزي “الأهالي” في أرياف مستعمراته في أفريقيا بتكلفة زهيدة، ففيه يعهد الاستعمار لزعماء العشائر مهمة إدارة أهلهم بما اتفق لهم من أعراف، فينظر في قضاياهم ويفصل فيها بسقف معلوم، ويقوم بتقدير الطلبة وجمعها، وغيرها من المهام تحت إشراف مباشر لمفتش المركز لإنجليزي في الجهة، ولم يقع الإنجليز في السودان على الحكم غير المباشر، الإدارة الأهلية، إلا بعد نحو ثلاثة عقود من حكمهم في أعقاب ثورة للمتعلمين من خريجي مدارسهم في 1924. وهم الذين ادّخرهم الإنجليز ساعداً لهم في إدارة المستعمرة بصورة مباشرة، وانتقلوا منذ آخر عشرينات القرن الماضي للتحالف مع الزعامات القبلية.
وأدى قيام الإدارة الأهلية إلى نشوء ثلاث صور للمواطنة في السودان، الصورة الأولى هي أهل المدينة الذين يتحاكمون إلى قانون يرعى الحقوق المدنية والسياسية العالمية، وهم بذلك خلاف “الأهالي” في الأرياف الذين يحتكمون إلى أعراف إثنية تقوم عليها إدارة أهلية، ونشأت بسبب نظام الإدارة الأهلية، من الجهة الأخرى، مواطنتان في الريف نفسه بسبب تشريع الإنجليز لعرف تقليدي تاريخي يفرق بين “الأهالي” أنفسهم، فالمواطنة الأولى هي مواطنة الجماعة صاحبة الدار (أو الحاكورة في مصطلح إقليم دارفور) التي تقطنها، أما المواطنة الثانية فهي مواطنة الضيف على أهل تلك الدار، وتخضع الجماعة الضيف للجماعة صاحبة الدار في علاقة معروفة بـ “التبع”(client tribe) ، وورد أفضل تقنين لعلاقة “التبع” في العهد الاستعماري في حكم أصدره القاضي كفن دي سي هيز حول خلاف نشب بين صاحب دار وضيف عليها عام 1953، فرد القاضي الجماعة الضيف عن مطلبها بالنظارة فوق أرض تقتطعها من دار مضيفها، وألزمها بأعراف “التبع”، ومن أعرافه دفع مكوس معلومة للقبيلة سيدة الدار للزراعة في أرضها والسقيا من مائها مقابل انتفاع “التابع” من أرض لا حق أصالة له فيها.
ومربط الفرس هنا في النظارة، وهي الوظيفة التي تقصرها الأعراف وقانون الإدارة الأهلية تاريخياً على الجماعة صاحبة الدار لا يطمع فيها طامع من غيرها، فالنظارة جاه سياسي يدير به شاغله “دولته” الصغيرة من المواطنين والرعايا، وتكتفي الرعايا من الإدارة الذاتية في غير دارها بـ “شياخة” أو “عمودية” مرجعيتها الناظرة في ضرائبها للحكومة، وقضائها، وكل تصريف لشأنها.
وفي أعراف “التبع” ما يشي بأن الدار دولة لأهلها، فمحرم على “التبع” مثلاً أن يضرب نحاسه القبلي في عرض الدار مثلما لا تأذن دولة بعلم آخر يرتفع فوق ساريتها، وصح القول إن الجماعة “التبع” مما يخضع لعلاقة استعمار داخلي، لو شئت، تُفرض عليها الضرائب بينما تتجرد من الصوت السياسي حتى في نطاق عيشها اليومي، ولذا كان مطلب القبيلة “التبع” للنظارة، بدار أو من دونها، بمثابة “حركة وطنية” للخلاص من استعمار مالكي الدار، وكان منح بعضهم النظارة منذ ثلاثة أعوام بعد قرن من المطالبة الحثيثة بها، في قول زعيمها، بمثابة تحرر وطني وعيد للاستقلال.
وكانت النظارة من وراء أكثر نزاعات الريف تكراراً بين أهله ودموية، ولكن تواضعت البيروقراطية والصحافة في السودان على دمغ النزاع حولها بأنه “نزاع قبلي” بغير تعيين لبواعثه، كما فعل بيان ولاية النيل الأزرق هذه المرة، ونقول بالدمغ بدلاً عن الوصف لأننا بالدمغ نبتعد عن العلم بحقائق “بولتيكا” النظارة، ونمتثل لنزاعاتها كأمر واقع لا عاصم منه. فنجعل من حقيقة اجتماعية وتاريخية كالنظارة حقيقة طبيعية شعواء لا نملك معها صرفاً ولا عدلاً، وظللنا نلاقيها، طالما بقيت حقيقة طبيعية فينا، بالطقوس، فتدعو الحكومة إلى مؤتمر للصلح بين الطرفين يلعن الجميع فيه “مثيري الفتن”، ويتعهد الأطراف بسد الفرج دونهم، إلى حين، وتلقاه صحافتنا تنعى وتعاقب دوراته علينا بما تستعيد به مجازر “داحس والغبراء” بينما أهل الحكم في شغل عنه.
لم ينجح تعيين ولاية النيل الأزرق للنظارة كـ “عظمة النزاع” في الصدام الذي وقع فيها في أخذ فكرنا إلى بنية العنف هذه في نظام الإدارة الأهلية. فسرعان ما تجاوزها الكاتبون بمد أصبع الاتهام إلى من استغلها لمآربه الخاص، ولن تعدم بالطبع مستغلاً لمثل هذه البنية ما وجدت، فأخذت جماعة من المعلقين النخب السياسية بالشدة لاستغلالها موضوع النظارة تسترضي بها من طلبها لتكبير كومها، وخص آخرون بالذكر من كان من هذه النخب من وراء هذه الفتنة الأخيرة، فحملوا وزرها للسيد مالك عقار زعيم جناح في الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال)، وهو الجناح الذي تسود جماعته في حكومة الولاية لتوقيعها اتفاق سلام جوبا بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة في 2020، وهذا الجناح مع ذلك قليل النفر في الولاية. فقد جرده خصمه السيد عبد العزيز الحلو من تابعيته بين جماعات “البرتا” وحلفائها، وقيل إن عقار أراد تعزيز صفه المتآكل بـ “الهوسا” يغريهم بمطلب النظارة.
بدا مما نقرأ للمعلقين على صدام النيل الأزرق، مهما قلنا عن انتهاز النخبة السياسية لسانحته، انصرافهم عن موضوع الصدام الذي في بنية الإدارة الأهلية إلى من انتهزه لغرضه، ولا جديد في انتهاز الصفوة إغراء النظارة للكسب السياسي، فهذا الانتهاز خصيصة جوهرية في سياسات الدولة خلال حكم الرئيس المخلوع حسن أحمد البشير، فكان منح نظامه النظارات لـ “التبع” مقابل البيعة السياسية له، وعلى الرغم من أنف أصحاب الدار، بعض شرار حربه في دارفور، ولم تخل حتى الفترات الديمقراطية من مناورات بالنظارة بين الجماعة الريفية وحزبها الحاكم.
ما يغيب عنا ونحن لا نرى من “بولتيكا” النظارة إلا استغلالها بواسطة سياسي مغرض أن المطلب بها حق قبل أن يكون مادة تغري صفوة الحكم طالب هذا الحق به، فخلو الطرف من النظارة واقع تعيشه جماعات ريفية كثيرة، وهو واقع مهين كما تقدم حتى عدّه من خرج منه “تحريراً”، وهو واقع تريد هذه الجماعات الخروج منه إلى رحاب عزّ، وبعبارة أخرى، فهذه الجماعات ليست غشيمة يستدرجها صفوي ماكر لحق أضربت هي عن طلبه، فيكفي أن قبيلة مثل “اللحويين” في شرق السودان لم تكل من المطالبة بالنظارة، أو تملّ، منذ أوائل القرن العشرين لتنالها في 2019. وعلى الرغم من التعتيم على “عظم النزاع” في صدامات الريف إلا أنه من المؤكد أن الجماعات “التبع” هي نفسها من تنتهز سانحات السياسة الوطنية والإقليمية لتدفع بمطلبها بالنظارة في السوق السياسية لمشتر مغرض من النخبة. فالحركة في شارع “بولتيكا” النظارة ذات اتجاهين، فانتهزت جماعة “الكواهلة” في منطقة أبو دليق بولاية الخرطوم، سانحة التعبئة “القبلية” التي قام بها المجلس العسكري لتعزيز موقفه في وجه قوى الحرية والتغيير خلال مفاوضاتهما في 2019 لتعرض على قادته صفقة الوقوف بجانبهم لقاء منحها النظارة، وكانت للصفقة تداعيات أمنية في ولاية الخرطوم عاصمة البلاد نفسها.
لا نريد بالتشديد على التوقف عند النظارة كبنية عنف في الثقافة السودانية إعفاء النخب الحاكمة من وزر مقاتل استغلالها وجراحه كما في النيل الأزرق وغيرها، لكن التركيز الصرف على انتهازية هذه النخب يحجب عنا فهم أميز للإدارة الأهلية كبؤرة عنف. فلا يُخضع من ركزوا على انتهازية النخبة الإدارة الأهلية لمساءلة عن العنف المؤسسي في تشريعها. ولن تجدي إدانة هذه النخب لانتهازيتها فتيلاً طالما بقيت الإدارة الأهلية بمواطنيتيها في بلد واحد: مواطنة أولى لصاحب الدار ومواطنة ثانية للضيف عليهم. ومتى استصحبنا سياسات النظارة كبنية عنف مؤسسي لا مجرد “جزرة” سياسية لإغراء أطراف “التبع”، انتقلنا من ذهن المعارض إلى ذهن الحوكمة، أي الإصلاح لنظمنا مستعاناً عليه بالتشريع. والأناة فيه.
بقلم:عبد الله علي إبراهيم أكاديمي وصحافي
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية وتعبر عن راي الكاتب