مؤتمر جدة بين حلمين..
جاء الرئيس الأميركي جو بايدن إلى "مؤتمر جدة للأمن والتنمية" مُمثلاً للحلم الغربي بوجهيه: الأميركي والصهيوني، وليس في برنامجه الأمن القومي العربي، ولا تنمية الاقتصاد العربي.
وليد القططي*
كتب المؤرخ الأميركي جيمس آدمز مُعرّفاً الحلم الأميركي في كتابه “الملحمة الأميركية” عام 1931: “الحلم الأميركي هو الحلم الخاص بالأرض التي يجب أن تكون بها الحياة أفضل وأكثر ثراء لكل الناس، حيث تُتاح لكل فرد الفرصة طبقاً لقدراته وإنجازاته”، وأكد أنَّ هذه الفرصة لتطوّر الفرد مُحرّرة من أي قيود لا شأن للفرد بها، كالتي فرضتها عليه ظروف ولادته أو طبقته الاجتماعية.
“كل الناس”، وفق تعبير جيمس آدمز، كانوا هم الأوروبيين من العرق الأبيض؛ خصوصاً الأنجلوساكسون البروتستانت، “والفرصة المُتاحة” خاصة بهم، فكانت تلك الفرصة حُلماً للشعوب الأوروبية، وكابوساً على غيرهم من الشعوب، وأولهم شعب الأرض (الجديدة) التي غزوها واستوطنوها، وسمّوها زوراً (أميركا)، وسمّوا شعبها بُهتاناً (الهنود الحُمر)، فدمّر (الحلم الأميركي) أحلامهم بتدمير حضاراتهم وحياتهم.
الحلم الأميركي (الأبيض) دمّر أحلام الشعوب الأفريقية من ذوي اللون الأسود، وحوّلها إلى كابوس رعبٍ يبدأُ في غابات أفريقيا بانتزاع الأفارقة عنوةً من وطنهم وشعبهم، وينتهي باستعبادهم في (الأرض الجديدة)، مروراً بظروف نقلهم القاسية في سفن التجار المتوّحشين، وحتى بعد إلغاء العبودية واستبدالها بالتمييز العنصري، ظّل لونهم عائقاً أمام حصولهم على تكافؤ الفرص في (الحلم الأميركي)، كما كتب عنه آدمز وقبله الدستور الأميركي، فأصبح لهم حلمهم الخاص بالمساواة والعدالة، عبّر عنه زعيمهم مارتن لوثر كينغ في خُطبته المُسماة “لديَّ حلم” عام 1963، قائلاً “لديَّ حلم يوماً ما أنَّ أبناء العبيد السابقين، وأبناء مُلاّك العبيد السابقين، سيقدرون على الجلوس معاً إلى مائدة الإخوّة”.
ظل الحكم الأميركي (الأبيض) كابوساً على شعوب أميركا الأصليين (الهنود الحُمر)، وكابوساً على شعوب أفريقيا المختطفين من بلادهم، حتى تحوّل إلى كابوسٍ على كل العالم، بعدما خرجت الولايات المتحدة الأميركية من عزلتها عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، واختصر ذلك الرئيس الأميركي ثيودير روزفلت مزهواً بالنصر في الحرب العالمية الثانية قائلاً: ” قدرنا هو أمركة العالم، بعد أنْ تسلّمت الولايات المتحدة زعامة العالم الغربي على ضفتي الأطلسي، وباتت قائداً لمشروع الغرب الاستعماري في العالم”، وكان نصيبنا كعرب من الحلم الأميركي بأمركة العالم أو استعماره وإخضاعه للسيطرة الأميركية هو زرع الكيان الصهيوني كرأس حربة للمشروع الاستعماري الغربي في قلب الوطن العربي فلسطين، كمشروع لحلم آخر وُلد من رحم المشروع الغربي ضد الأمة العربية والإسلامية، فكانت بذلك “دولة إسرائيل”، وكان ضمان وجودها وأمنها واستقرارها، هو محور سياسة الغرب بزعامة بريطانيا ثم أميركا في العالم العربي.
جاء الرئيس الأميركي جو بايدن إلى “مؤتمر جدة للأمن والتنمية” مُمثلاً للحلم الغربي بوجهيه: الأميركي والصهيوني، وليس في برنامجه الأمن القومي العربي، ولا تنمية الاقتصاد العربي –عنوان المؤتمر- بل “أمن دولة إسرائيل” وتنمية وجودها في المنطقة العربية، إضافة إلى استمرار نهب أميركا والغرب لثروات العرب ونفطهم، فهل جاء المؤتمرون العرب ليمثّلوا (الحلم العربي)؟ أم كانوا مجرد أدوات بين أميركا لاستكمال إنجاز الحلم الأميركي الصهيوني. والسؤال الأهم هل من حلم عربي يمثلونه في المؤتمر ويعملون لإنجازه؟ وللإجابة عن هذا السؤال من المفيد العودة إلى القرن العشرين الذي تبلوّر في منتصفه الحلم العربي.
بعد انفراط عقد الخلافة العثمانية على يد الاستعمار الغربي والقوميين الأتراك والعرب؛ تراجع مشروع الجامعة الإسلامية لمصلحة مشروع الجامعة العربية، وفي سياق الصراع ضد الاستعمار الغربي الأوروبي والنخب العربية الحاكمة المرتبطة به تبلور “الحلم العربي”، وجوهره إنشاء دولة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج على أساس الرابطة القومية، وكان لنظام حكم الزعيم جمال عبد الناصر القومي في مصر وتياره العروبي الناصري، دور مركزي في تشكّل هذا الحلم، إضافة إلى أدوار مهمة للحركات القومية العربية، لاسيما حزب البعث العربي الاشتراكي، بشعاره المشهور “أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة”.
وكان لفشل العدوان الثلاثي على مصر 1956، وقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا عام 1958 دورٌ مهم في تأجيج الحماسة لتجسيد “الحلم العربي”، التي عبّر عنها الفن في كثير من الأعمال مثل: أنشودة (لبيك يا علم العروبة)، وأوبريت (الوطن الأكبر).
تراجع “الحلم العربي” بعد فشل الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961، وانتهاء تجربة الجمهورية العربية المتحدة، كنواة للدولة العربية الواحدة، وبعد هزيمة حزيران/يونيو عام 1967، وخبوّ بريق النظام الناصري ثم زواله بوفاة رأسه جمال عبد الناصر عام 1970 وتفكك حركة القوميين العرب، ليتوارى الحلم العربي وراء غيوم دول التجزئة القُطرية، وأدخل ضباب الاستقلال الوطني المُضلل؛ ليختفي الحلم العربي دهراً من الزمن قبل أن يعود مع انتفاضة الأقصى الفلسطينية عام 2000، على صورة أوبريت فني غنائي عنوانه: “الحلم العربي”، ليُعيد إحياء الحلم في الذاكرة الجمعية العربية “أجيال ورا أجيال.. هنعيش على حلمنا.. ده حلمنا طول عمرنا.. حضن يضمنا كلنا”.
لكن الحلم ازداد ابتعاداً مع ثورات ما يُسمّى “الربيع العربي”.. وحل مكانه “حلم الخلاص الفردي” لكل مواطن عربي، بين فرصة عمل داخل الوطن سقطت سهواً من يد أبناء النخبة الحاكمة ومقربيهم، وفرصة للهجرة إلى خارجه سقطت سهواً من يد الموت غرقاً في ظُلمات البحر.
الحلم العربي.. بجانبيه: القومي (الوحدة العربية)، والشخصيّ (فرصة الحياة)، لا يمثّله المؤتمرون العرب في جدة، وبالتأكيد لا يمثّله الرئيس الأميركي المشارك في المؤتمر ممثلاً عن الحلم الأميركي والصهيوني. وإنما تمثّله الأمة العربية بشعوبها الحية التي تحلم بالوحدة والحرية والكرامة، كما تحلم بفرصة الحياة والتطور والإنجاز… وهي تدرك أنَّ ذلك الحلم لا يتحقق من دون حلم عربي، لديه مشروع قومي، ركائزه الأساسية: الإسلام، وفلسطين، والمقاومة.
الإسلام الوسطي المعتدل، بمضامينه الإنسانية والحضارية والثورية والتجديدية، البعيد عن الإسلام الأميركاني المُهادن، الذي يحوّل أتباعه إلى عبيد للاستعمار، والبعيد عن الإسلام الداعشي المتوّحش الذي يحوّل اتباعه إلى معاول للتكفير والتقتيل.. الإسلام كدين وثقافة وحضارة هو رسالة العرب إلى البشرية، ومضمون العروبة الحي الثوري، ونظرية الثورة ضد الاستكبار بمختلف أشكاله وصوره.
فلسطين القضية والمشروع، فإذا كانت “إسرائيل” هي قضية الغرب الأولى في الوطن العربي، ومركز المشروع الغربي الاستعماري فيه، وأساس “الحلم الأميركي” في السيطرة الاستعمارية، فلا نجاح لأي حلم عربي بالوحدة والنهضة والاستقلال من دون تبنّي فلسطين قضيةً مركزية للعرب، ومن دون أن يكون مشروع تحرير فلسطين في قلب أي مشروع عربي للوحدة والنهضة والاستقلال، ولا ضمان للأمن القومي العربي والتنمية الاقتصادية العربية بوجود “إسرائيل”.
المقاومة ثقافة وممارسة، المقاومة كوسيلة لتحقيق الحلم العربي القومي والشخصي، فهي التي تمنح الفرد والأمة: الروح الدافعة إلى الثورة، وإرادة الحياة لمواصلة الكدح نحو الحلم، والبوصلة التي تحافظ على صوابية الطريق، والحاجز الذي يمنع تسلل الهزيمة إلى الروح والنفس. والمقاومة هي الحلم أو عزم الحياة عند الشاعر التونسي الثائر أبي القاسم الشابي الدافع إلى الثورة والنهضة. “لا ينهض الشعب إلاّ حين يدفعه *** عزم الحياة إذا ما استيقظت فيه”.
والحلم العربي المستند إلى محاور الإسلام وفلسطين والمقاومة سيتقدّم حتماً ليسقط الحلم الأميركي الصهيوني في الوطن العربي، وستسحقه أقدام الجماهير العربية المُسلّحة بالإيمان والوعي والثورة مع أول بشائر وعد الآخرة وانتصار المستضعفين على المستكبرين.
* المصدر :الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع