السياسية:

قبل انعقاد قمة جدة، وخلالها، انهارت الأسئلة بكثافة حول أسباب هذه القمة غير المنتظرة، وحول من أرادها ولماذا، وتحت أية أجندة، أو أجندات، وما القصد من تركيبتها، وما قصد الزعماء المشاركين بها عندما ألقوا خطاباتهم، بما قالوه وبما كتموه. هل توصلت القمة إلى شيء؟ هل حققت الأطراف ما تريد؟ هل حققت حداً أدنى لما تبغيه؟ والسؤال الكبير الآن، هل قررت الإدارة أن تتحرك جدياً بعد قمة جدة، لتطلق مساراً آخر في المنطقة؟ مساراً بعيداً من الاتفاق النووي الإيراني، وأقرب إلى التحالف العربي، ومعاهدة إبراهيم؟

هدف إدارة بايدن في جدة

كما أشرنا في السابق، فإن إدارة الرئيس بايدن اعتمدت منذ انطلاقتها في أوائل 2021، ملفات إدارة الرئيس أوباما حيال المنطقة، لا سيما حيال الاتفاق النووي الإيراني، إضافة إلى تنفيذ صفقة مع “طالبان” في أفغانستان. مما يفسر عدم حماسة الإدارة الحالية لإيفاد الرئيس لعقد قمم مع التحالف العربي أو حتى مع كيان إسرائيل، لمناقشة الأوضاع في الشرق الأوسط، قبل هذا الشهر.

فقد نُصح البيت الأبيض ألا يقوم الرئيس بإعلانات كبرى أو حتى أن يظهر مع قيادات المنطقة، قبل توقيع الاتفاق مع إيران أولاً “لأن ذلك سيغضب إيران، ويبعدها عن التوقيع”. وكانت إيران على علم بذلك، واستفادت من التهويل لتصعيد مطالبها، فتأخر الاتفاق لسنة كاملة على الأقل. وكان الوضع ليستمر على حاله حتى نهاية 2022.

لو لم تنفجر حرب أوكرانيا، والاجتياح الروسي، والعقوبات الغربية على موسكو، واستطالة الحرب، وانفجار أزمة اقتصادية عالمية، وارتفاع سعر النفط، ووصول الأزمة إلى محطات الوقود في الداخل الأميركي، لا أدري إذا كانت قمة جدة لتنعقد. إلا أن التطورات دفعت بالرئيس إلى اتخاذ قرار كبير لتنفيذ “عملية إنقاذية” للعلاقات الأميركية- العربية بعد سنة ونصف من برودتها.

والسبب واضح وضوح الشمس. الإدارة تواجه أزمة اقتصادية حادة، وأسعار النفط تعلو، وانتخابات الكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) تنذر بعودة الجمهوريين لاستلام مجلس النواب واحتمال فوزهم في مجلس الشيوخ أيضاً.
مما يدفعه للانحراف قليلاً عن خط فريق أوباما الذي تباعد عن السعودية والتحالف العربي، وإلى حد ما، عن كيان إسرائيل، والعودة إلى هؤلاء الشركاء وبخاصة المملكة، لطلب المساعدة منهم للتأثير في أسعار الطاقة العالمية، بالتالي تخفيض الضغط المالي عن كاهل المواطن الأميركي. هذا اقتصادياً، وهو مفهوم سياسياً.
ولكن هنالك سبب آخر لطلب انعقاد قمة مع التحالف في جدة، فهنالك إعادة خلط أوراق في التحالفات الدولية والإقليمية.
ففي الماضي كانت دول المنطقة تصطف فوراً مع واشنطن عندما تتصادم هذه الأخيرة مع أطراف عالمية أو محلية، ولكن ذلك لم يحدث خلال الصدام السياسي والقانوني بين روسيا والناتو حول أوكرانيا.
فمعظم العرب لم ينفذوا العقوبات الغربية على روسيا، وكيان إسرائيل لم تنفذ أغلبها.
بل استمر زعماء المنطقة في زياراتهم لموسكو وبيجينغ. لماذا ؟ لأن العواصم الإقليمية عندها مشكلة وجودية مع النظام الإيراني ولا تفهم لماذا تريد الإدارة أن توقع اتفاقاً مع من يعمل على إسقاط حكوماتهم.

فباتت تتحرك بحسب مصالحها القومية بدلاً من أن تدعم سياسة إدارة ستمكن طهران من الحصول على تمويل لتشتري به سلاحاً تستعمله ضد دول التحالف.
فوعت حلقات ضمن الإدارة على “خطورة” اتجاه الدول العربية لتتحول إلى “محايدة” تجاه واشنطن، وكثفت المصالح الأميركية في الخليج ضغوطاتها على البيت الأبيض لإطلاق “استعادة صداقة العرب” كي لا تخسرهم أميركا لصالح المجهول مع إيران.
فأصبحت سياسة “استرجاع الأصدقاء” بأهمية “أسعار النفط”. لذا فمحاولات بايدن لرأب الصدع مع التحالف العربي هي جدية، ولكن السؤال هو، هل ستسمح إيران بذلك؟

أجندة التحالف في جدة

بالطبع لكل دولة مصالحها الوطنية والقومية وتنظم سياساتها على هذا الأساس، أكانت الدول العربية، أو كيان إسرائيل، أم تركيا أو غيرها في الشرق الأوسط. إلا أنه كما في الغرب مع الاتحاد الأوروبي أو الحلف الأطلسي، هنالك مصالح مشتركة أمنية ودفاعية واقتصادية، تجمع الدول في تكتلات، منها “التحالف العربي”.
وأركان هذا التحالف، السعودية ومصر والإمارات، قد رسموا هذه الترابطات المشتركة في 2013 خلال الثورة على حكم الإخوان في مصر، وقد توثقت بخاصة منذ حرب اليمن.
الأولوية الأساسية لدى التحالف هي الأمن والاستقرار، لإحقاق الهدف الثاني وهو التقدم الاقتصادي والازدهار، لتحقيق الهدف الثالث وهو الإصلاح.
عانت الدول العربية المعتدلة وشعوبها من الإرهابيين، والميليشيات، منذ ما سمي “بالربيع العربي”، وانصدمت لوقوف إدارة أوباما لأقل من عقد مع “الإسلامويين” بدلاً من دعم مجتمعاتها المدنية.
إلا أنها استمرت بالعلاقات التاريخية الثنائية بينها وبين واشنطن.
وفي فترة ترمب، انتعشت العلاقات بين أميركا وجبهة الاعتدال في المنطقة، على الرغم من عدم رضى معظم العرب من عدم حسم الملف الفلسطيني بطريقة أسرع. إلا أن عواصم التحالف فتحت أبوابها للإدارة بشكل غير مسبوق لكون البيت الأبيض انسحب من الاتفاق وهزم “داعش” بقوة.
أما على صعيد العلاقات الثنائية فلكل دولة حاجاتها من “العم سام”، والعكس صحيح. أما في السنة الأولى والنصف لفترة بايدن، فشعر عرب التحالف وبخاصة المملكة بأن عودة واشنطن إلى الاتفاق ستكون على حساب الخليج والهلال الخصيب. وأسهمت الصحافة الأميركية المؤيدة للاتفاق في تشويه صورة القوى المقاومة لإيران في المنطقة. إلا أن حرب أوكرانيا، قلبت الأوضاع من جديد. فالغرب بحاجة للنفط، والولايات المتحدة تحتاج إلى تخفيض الأسعار. فنشأت رغبة لدى الإدارة “لفتح صفحة جديدة” مع المنطقة. قبلت القيادة السعودية، ومعها التحالف، بأن تعقد قمة مع الرئيس بايدن، لبحث ما بإمكان الطرفين أن يلتقوا عليه. “الصفحة الجديدة” مقبولة، ولكن السؤال هو: ماذا داخل الصفحة”؟

بتلخيص شديد عرضت الإدارة اتفاقات عدة، جيدة، على صعيد الدفاع الثنائي مع دول المنطقة، ومعاهدات تكنولوجية، وتجارية، والأهم، “التزام بحماية المنطقة من إيران”. ولكن الوفد الأميركي لم يوضح كيف ستتم “الحماية”، ومتى، والأهم ما سوف تفعل بالنسبة للاتفاق النووي.
الرئيس التزم أيضاً بأن “لا تحصل إيران على القنبلة الذرية” ولكنه لم يدعو التحالف العربي للمشاركة بالتفاوض.
أما التحالف فعرض توثيق العلاقات مع واشنطن، فردياً وجماعياً، وتسريع التطور التكنولوجي، وتحسين الوضع البيئوي، والتشاور في الشؤون الأمنية، من ناحية. ولكنه وعد “بدراسة الأزمة النفطية وما يمكن فعله بهذا الاتجاه من ناحية أخرى. وكأن المعادلة باتت كما يلي: بايدن طالب بتكثيف الإنتاج النفطي، ولكنه لم يلتزم بموضوع إيران. بينما التحالف طالب بحسم مسألة الاتفاق الإيراني ووعد بدراسة ملف النفط. لذا فقمة جدة كانت ضرورية للطرفين لكي يلتقيا من جديد، ولكن اتفاقهما الكامل لا يزال في بداية الطريق وليس في نهايتها.

على كل فالأسابيع والأشهر الآتية ستكون حافلة بالمشاهد والتطورات: بوتين في طهران، بايدن يواجه حزبه في واشنطن. وفي الأفق، في أول أسبوع من نوفمبر، الانتخابات النصفية آتية.

لنرى.

بقلم: وليد فارس الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبدنت عربية وتعبر عن راي الكاتب