القطبية المتوحشة تلفظ أنفاسها الأخيرة
السفير نايف القانص*
يحتاج التغيير في العلاقات الدولية ( النظام الدولي ) إلى أحد الخيارات الثلاثة التالية ، إما إلى (الإقناع) أو (الاتفاق) أو (القوة) ، فبعد أكثر من ثلاثة عقود على تسيد القطبية الواحدة والتحكم في العالم لفرض الهيمنة الأمريكية والعبث بأمن واستقرار العالم وخاصة الثالث حسب ما تقتضي المصلحة الأمريكية والصهيونية، وما نتج عن تلك السياسات من أزمة اقتصادية عالمية عمقتها الحرب الأوكرانية الحالية وسرعت وتيرتها ، أصبحت هذه القطبية على المحك وخصوصاً بعد أن اختل توازنها في سورية التي لعبت الدور المحوري باتجاه تغيير النظام الدولي من خلال الحرب العالمية الإرهابية التي دارت على أراضيها واستطاعت بحنكة قيادتها وصمود شعبها ووقوف الحلفاء معها أن تضع اللبنات الأساسية الأولى في تغيير النظام الدولي أحادي القطبية، لتجد روسيا القيصرية فرصتها التاريخية لاستعادة مجدها وموقعها الطبيعي في النظام الدولي، بل أقدمت على خوض المواجهات في سورية كضربة استباقية لحماية أمنها القومي وإحداث التوازن الإقليمي والدولي في المنطقة التي تولّد فيها محور قوي يهدد أمن واستقرار الكيان الصهيوني والمصالح الأمريكية والغربية، الأمر الذي دفع بأمريكا وحلفائها لإيجاد تحالفات إقليمية من أولى مهامها حماية المصالح الأمريكية وتحقيق أمن الكيان الصهيوني ومن ثم تأمين النفط للغرب ورفد الاقتصاد الغربي المهدد بالإنهيار.
ومع استحالة وصول أي دولة إلى إقناع العالم برؤية محددة أو الوصول إلى اتفاق في الهيئة العمومية للأمم المتحدة حول طبيعة النظام الجديد لحاجته إلى تعديلات وإصلاحات في ميثاق الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والتحرر من الفيتو، كل هذا يتطلب تقديم تنازلات من الدول الخمس العظمى.
إذن، أصبحت القوة خياراً أقرب لكنها مرهونة بتحالفات دولية لحسم الموقف وفرض النظام الدولي الجديد، والقوة هنا ذات شقين، اقتصادي وعسكري، واحتدام المعركة الاقتصادية التي تعتبر الصين من كبار اللاعبين فيها وتملك زمام مقومات هذه اللعبة، التي صاحبها تقديم رؤى لتغيير النظام الدولي على النحو التالي:
الرؤية الصينية: تتوافق مع وضعها الاقتصادي وتقدمها الصين للعالم على أساس (نظام دولي متعدد الأطراف – عالم متناغم العولمة البديلة) وتعتمد لتنفيذها على الاقتصاد من خلال ( “قطاع الاتصالات.. حيث تقود الصين ثورة جديدة في تكنولوجيا الاتصالات الكمومية QSDC مستخدمة ذاكرة كمومية ” إضافة إلى تقنيات الجيل الخامس من الإنترنت وتطبيقات الذكاء الاصطناعي).**
الرؤية الفرنسية: “الجمهورية الرقمية والحوكمة العالمية” وتعتمد على منتدى باريس للسلام -الأداة التنفيذية لذلك- الذي تسعى من خلاله إلى الترويج لقيم الحوكمة العالمية، انطلاقاً من تأسيس أرضية عالمية تتبنى مواجهة المتغيرات الدولية المتمثلة بـ( النزاعات المسلحة، والاحتباس المناخي، وانعدام الاستقرار الناتج عن الانترنت). *
الرؤية الروسية لعالم متعدد الاقطاب (الأوراسيانية)**
شكل عام 2014 تتويجاً للمشروع الروسي في محيط روسيا الحيوي وانتقال الأور آسية من مشروعها النظري إلى تطبيق اوراسياني بإعلان قيام الإتحاد الأوراسي 29/5/2014 بين روسيا وبلاروسيا وكازاخستان وانضمت لاحقاً قيرغيزستان وأرمينيا، تبع ذلك في عام 2015 دخول روسيا بشكل مباشر في الأزمة السورية وما سبق هذا الإجراء من إجراءات سابقة في استخدام حق الفيتو بشكل مزدوج مع الصين بما يخص الأزمة السورية، الأمر الذي أعاد روسيا إلى قلب المعادلة الدولية ومكنها في أن تقوم بالضربة الاستباقية والحتمية التي لم تجد خيارا آخر لحماية أمنها القومي المهدد من قبل حلف الناتو عن طريق اوكرانيا، فكان الذكاء والدهاء الروسي اسرع من الخبث الأمريكي والمخطط الغربي الذي كان يهدف إلى ضرب الرؤية الروسية من قلب الجيوبوليتيك الروسي (قلب العالم القديم) ومع ذلك وقعت الدول الأوروبية في شرك الولايات المتحدة الأمريكية وتورطت في خطيئة استراتيجية كبيرة وخضوع حكام أوروبا للإملاءات الأمريكية في مواجهة روسيا، لتكتشف اليوم حجم المتغيرات في موازين القوى وانعكاس الأزمة الاقتصادية على أوروبا بشكل خاص وكأنها حاصرت نفسها ولم تحاصر روسيا، كون أوروبا هي من تحتاج الغاز الروسي والقمح وغيره، وها نحن نشاهد الانهيار الكبير لليورو امام الدولار والأزمات السياسية داخل اوروبا مما انعكس على بريطانيا بتقديم رئيس وزرائها استقالته مجبرا بعد فضحه من قبل روسيا وأيضاً رئيس وزراء إيطاليا والحبل على الجرار في قادم الأيام.
الرؤية البريطانية عودة الجيوبوليتيك إلى الخليج العربي***: يرى الغرب في منطقة الخليج العربي (عصا موسى) لإنقاذ الاقتصاد الغربي وتغطية العجز في المشتقات النفطية وبديلا آمنا عن النفط والغاز الروسي ومنطقة حيوية للدفاع عن المصالح الغربية في الشرق الأوسط والرئة التي يتنفس من خلالها في خوض الصراعات الدولية والمحافظة على النظام الدولي الأحادي القطبية، ولكن هذا الأمر لم يعد كما كان سابقاً مع تغير المعادلة في المنطقة بوجود محور قوي يهدد المصالح الأمريكية والغربية (محور المقاومة) الذي تقوده إيران وهو الأقرب إلى روسيا ودخول دول الخليج في مستنقع الحرب على اليمن التي أصبحت عاملا مهددا للمصالح الغربية ووجهت ضربات موجعة كانت سببا رئيسا في ارتفاع المشتقات النفطية عالمياً، الأمر الذي حتم على الغرب دعم الهدنة بين التحالف والجيش واللجان الشعبية وفتح مطار صنعاء احد أهم مطالب صنعاء في قبول الهدنة، وسبق ذلك تحركات أمريكية وغربية لتطبيع دول الخليج مع الكيان الصهيوني والتبادل الدبلوماسي مع بعضها والتمهيد لإقامة تحالف عسكري شرق أوسطي شبيه بالناتو يضمن أمن الكيان الصهيوني في الأساس بينما المروَّج له حفظ أمن المنطقة.
ولعل زيارة بايدن للمنطقة التي ابتدأها من فلسطين ثم السعودية ورعايته للاتفاق بين الكيان الصهيوني والسعودية بما يخص جزيرتي تيران وصنافير مقابل صفقة يمهد لتطبيع السعودية مع الكيان الصهيوني على النحو التالي:
-نقل قوة المراقبين المتعددة الجنسيات المسؤولة عن تسيير دوريات في الجزيرتين إلى مواقع جديدة في شبه جزيرة سيناء المصرية، وكاميرات لمراقبة النشاط في الجزيرتين وفي مضيق تيران، بحسب المسؤولين الإسرائيليين.
-تلتزم المملكة العربية السعودية للولايات المتحدة بالالتزامات الواردة في اتفاقية السلام الموقعة بين إسرائيل ومصر عام 1979، وخاصة تلك المتعلقة بالحفاظ على حرية الملاحة في مضيق تيران للسفن الإسرائيلية، وفقا لـ”أكسيوس”.
-وستتيح الاتفاقية أيضا إبرام اتفاقية منفصلة مع المملكة العربية السعودية تسمح لشركات الطيران الإسرائيلية باستخدام المجال الجوي السعودي للرحلات الجوية المتجهة شرقا إلى الهند والصين.
-بالمقابل ستمنح الولايات المتحدة إسرائيل ضمانات أمنية بشأن حرية الملاحة بناء على الالتزامات السعودية، بحسب الموقع “أكسيوس”.
لعل عام 2022 هو عام التحولات الكبرى من كل الجوانب، والحاسم هو الجانب الاقتصادي أولاً ومن ثم الجانب العسكري، ولكون الصين تمتلك القدرات القوية في الاقتصاد وروسيا استعادت قوتها العسكرية وعلى وشك حسم الخطر الذي كان يهددها عبر الأراضي الأوكرانية ومع التقاء المصالح والتهديدات التي تتعرض لها الصين من أمريكا عبر تايوان فقد نرى في القريب العاجل تحالفا روسياً صينياً يقلب الموازين الدولية، وقد تنضم إليه دول الـ “بريكس” والعديد من الدول المتضررة من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وتشتعل حرب عالمية ثالثة.
التغيير في النظام الدولي حتمي ولا محالة منه، فهل يستبق العالم إنقاذ البشرية من حرب مدمرة والتوصل إلى اتفاق يرسم ملامح النظام الدولي الجديد، على ضوء الرؤى الدولية الأربع ويكون الاتفاق بديل الحرب ومعاكساً لما حدث سابقا بتوقيع اتفاقات بعد حربين عالميتين، الأولى خرجت بعصبة الأمم، والثانية بالأمم المتحدة، ليكون تغيير النظام الدولي وإصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن بديل حرب عالمية ثالثة؟
** المرجع .. التعددية القطبية من منظور القوى الكبرى في عصر الذكاء الاصطناعي – سومر منير صالح وعلي احمد عباس – منشورات الهيئة العامة للكتاب – وزارة الثقافة – دمشق 2021.
** المرجع ( نفس المصدر)
* المصدر :رأي اليوم