الطريق الوعرة التي تنتظر الـ “ناتو”
السياسية:
بفضل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انعقدت في مدريد قمة لحلف الـ “ناتو” على ضوء انبعاث التحالف العسكري بين الدول الغربية، إذ إن اجتياح بوتين لأوكرانيا يجعل الـ “ناتو” مضطراً إلى العودة إلى مهماته التأسيسية المتمثلة بتوفير دفاع مشترك ضد روسيا. ويبدي أعضاء الحلف تصميماً وتكافلاً لافتين بالتزامن مع ضخهم السلاح إلى أوكرانيا ورفعهم الإنفاق الدفاعي وتعزيزهم خاصرة الحلف الشرقية وفرضهم عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا.
لقد استدعى اجتياح أوكرانيا عودة قوية لحلف الـ “ناتو”، بيد أن هذا الحلف في الحقيقية لم يختف يوماً، فهو كان في حال جيدة حتى قبل إطلاق بوتين حربه الطائشة، وذاك مثل أحد الأسباب التي جعلت الحلف المذكور قادراً على مواجهة التطورات في أوكرانيا برد فعل سريع ومتكافل.
ومنذ نهاية الحرب الباردة أظهر الـ “ناتو” قدرة لافتة في التكيف مع الحقبات مضطلعاً بعمليات في جبهات بعيدة من أفغانستان إلى البلقان، ومشرعاً أبوابه للديموقراطيات الجديدة في أوروبا، والآن نتيجة للحرب في أوكرانيا غدا حلف الـ “ناتو” القوي سلفاً أكثر قوة.
لكن على الرغم من حاله الجيدة والتكافل الجلي بين أعضائه، يواجه الحلف راهناً رزمة من القضايا الشائكة، والنقاشات في مدريد لن تقوم إلا بالشروع في التعامل مع هذه القضايا.
الحرب في أوكرانيا ستتصدر مواضيع القمة بالتأكيد، وفي السياق تتهيأ النقاشات للتركيز على الجانب السهل من المسائل، إيصال مزيد من الأسلحة إلى خطوط القتال، لكن الـ “ناتو” يحتاج أيضاً إلى تناول المسائل الأصعب، متى وكيف يمكن مزاوجة تدفق الأسلحة مع استراتيجية دبلوماسية تهدف إلى تحقيق وقف إطلاق نار تتبعه مفاوضات في شأن الأراضي المتنازع عليها؟ والحقيقة فإن إلحاح تحقيق ذاك الأمر الجوهري لا ينبع فقط من الحاجة إلى وقف لعبة الموت والدمار، بل ينبع أيضاً من ضرورة وضع حد لتداعيات الحرب من الناحية الاقتصادية، تلك التداعيات التي من شأنها تهديد حلف الأطلسي من داخله عبر تقويض حال التضامن بين أطرافه وإضعاف ركائز الغرب الديموقراطية. كذلك فإن النزاع في أوكرانيا يطرح على أجندة الـ “ناتو” مجموعة من التحديات الإضافية ومنها التعامل مع التوسع المستقبلي للحلف ومواكبة الطموحات الجيو-سياسية الأوروبية المتزايدة وبناء منظومة عبر أطلسية قادرة على استيعاب القضايا المختلفة التي يواجهها الغرب ولا تنأى تتعقد.
التسوية الدبلوماسية
ركزت جهود الـ “ناتو” لدعم أوكرانيا على مسألة تزويد هذا البلد بالأسلحة التي يحتاجها للدفاع عن نفسه، وذاك ما ينبغي أن يكون عليه الأمر، فكييف تحتاج إلى مزيد من القوى النارية كي تقاوم، بل حتى كي تقلب التقدم العسكري الروسي في شرق وجنوب أوكرانيا، والهدف وفق الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يتمثل في “الدفاع عن كل شبر من أراضينا”، ولم تبد واشنطن حتى الآن أي تحذيرات لكييف ضد سعيها إلى طرد القوات الروسية كلياً من الأراضي الأوكرانية.
“لن نقوم بتلقين الأوكرانيين كيفية التفاوض، ولا من ناحية موضوعه وموعده. هم أنفسهم سيقررون تلك الأمور”، وفق ما أعلن كولين كال وكيل وزارة الدفاع الأميركية للسياسة العامة.
لكن الوقت حان كي يركز الـ “ناتو” على مسألة فرض التسوية الدبلوماسية واستثمار الجهود الناجحة التي بذلها لتقوية أوكرانيا من خلال تيسير وقف إطلاق النار ومتابعة التفاوض، ومنذ النجاحات العسكرية الأولى التي حققتها أوكرانيا في ميادين القتال انتقل الزخم في أرض المعركة لمصلحة روسيا، وهذا يمثل أحد الأسباب التي تدعو كلاً من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرهم من حلفاء الولايات المتحدة إلى الضغط بغية التحول إلى الدبلوماسية، بيد أن واشنطن حتى الآن ترفض ذلك، إذ كما ذكر الرئيس جو بايدن في مطلع يونيو (حزيران) “لن أمارس الضغط على الحكومة الأوكرانية لا في السر ولا في العلن للتنازل عن أي منطقة من أوكرانيا”.
لكن واشنطن لن يسعها التمسك بهذا الموقف لفترة طويلة، إذ إن المسألة لا تقتصر فقط على صون التكافل عبر الأطلسي من طريق تلقف الدعوة لاعتماد استراتيجية تتضمن مساراً لتسوية دبلوماسية، فأوكرانيا حتى مع تدفق مزيد من الأسلحة إليها ستبقى على الأرجح مفتقرة إلى القوة القتالية اللازمة لطرد القوات الروسية من جميع الأراضي الأوكرانية أو حتى استعادة الوضع الذي كان قائماً في فبراير (شباط) الماضي. الاستمرار في الحرب بالنسبة إلى كييف يعني من دون شك مزيداً من الخسائر في الأرواح والأراضي، ولا يعني مكاسب ميدانية، وكلما طال أمد الحرب كلما ازدادت أخطار احتدامها، سواء خطط لذلك أم لا، وستزداد أيضاً الآثار القاسية للحرب على الاقتصاد العالمي وامدادات الطعام.
ومن المخاوف المحددة في هذا الإطار الآثار الاقتصادية المباشرة للحرب بالنسبة إلى الدول الأعضاء في حلف الـ “ناتو”، ومنها التأثير المحتمل للتضخم المتفشي في السياسة الأميركية، إذ إن الركائز الداخلية للسياسة الخارجية الأميركية اليوم باتت أكثر هشاشة مما كانت عليه في الماضي، والوسطية بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي التي سادت خلال الحرب الباردة اختفت منذ زمن بعيد، وهي لم تفسح الطريق لحال استقطاب حادة وحسب، بل أيضاً لنمط سياسة انعزالية جديدة متشددة وفعالة.
لقد مثّل شعار الرئيس السابق دونالد ترمب “أميركا أولاً” في السياسة الخارجية عارضاً من أعراض ذاك الانكفاء إلى الداخل أكثر من كونه سبباً من أسبابه، أما ما يطرحه بايدن من “سياسة خارجية للطبقة الوسطى” فيشير إلى أن الديمقراطيين بدورهم حذرون تجاه رغبة جمهور الناخبين في قيام واشنطن بتخصيص مزيد من الوقت والموارد لحل المشكلات الداخلية الأميركية بدل الاهتمام بالخارج، وقد تماشى انسحاب بايدن من أفغانستان مع تلك الرغبة إذ جاء ضمن هذا السياق. كذلك فإن أجندة بايدن الطموحة للاستثمار وتجديد البنى التحتية داخل الولايات المتحدة تهدف أيضاً إلى تحسين حياة الأميركيين ومساعدة الطبقة الوسطى للوقوف على قدميها، وإعادة بناء المركز السياسي للأمة الأميركية.
نتيجة للحرب في أوكرانيا بات حلف الـ “ناتو” القوي سلفاً أكثر قوة
بموازاة الجمود المستمر في الكونغرس (الأميركي) أدت الحرب في أوكرانيا إلى تهميش تلك الأجندة [أجندة إدارة بايدن] المهمة للإصلاح الداخلي الأميركي، وللتأكيد هنا فإن مسألة توفير المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا تحظى بمستوى دعم غير اعتيادي من قبل الحزبين الديموقراطي والجمهوري، بيد أن الوقت ليس إلى جانب هذا التوافق الحزبي الذي يتأهب للانفراط مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فالحرب التي جاءت لتتوج اضطراب سلاسل الإمدادات بفعل جائحة كورونا، تطرح اليوم ظروفاً اقتصادية تندرج في مصلحة شعار “أميركا أولاً” الذي يرفعه الجمهوريون، إذ إن التضخم في أعلى مستوى له منذ 40 سنة، وأسعار الغاز والغذاء وباقي السلع الأساس لا تنفك ترتفع، وسوق الأسهم يترنح وسط حديث عن ركود وشيك.
الحرب في أوكرانيا ليست أبداً السبب الوحيد لهذه الاضطرابات الاقتصادية، لكنها حتماً تلعب دوراً مهماً فيها، كما أنها تستهلك الوقت النفيس ورأس المال السياسي لإدارة الرئيس بايدن، لذا فأمام هذه الظروف الاقتصادية من المتوقع والمرجح أن يسيطر الجمهوريون على مجلسي النواب والشيوخ إثر انتخابات التجديد النصفي خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، على أنه سيبقى مستحيلاً أن نستقرئ من الآن طبيعة الحال الجمهورية التي ستسيطر على الكونغرس، لكن من المرجح أن يميل الحزب الجمهوري أكثر في اتجاه (شعار) “أميركا أولاً”، إذ إن السيد جي دي فانس كان حظي بدعم من ترمب وفاز أخيراً بسباق تمهيدي حامي الوطيس في أوهايو، وقد تشكل آراء فانس من الحرب في أوكرانيا مؤشراً إلى ما سيأتي، فهو قال في هذا الصدد “أعتقد أنه من السخف أن يكون تركيزنا منصباً على تلك الحدود في أوكرانيا. ينبغي أن أكون صريحاً معكم فأنا في الحقيقة غير مهتم بأي شكل من الأشكال بما يحصل لأوكرانيا”.
ومن المهم أن نذكر هنا أن ترمب كان حجب المساعدات العسكرية عن أوكرانيا لإجبارها على كشف فضائح سياسية ضد بايدن، كما ثابر بانتظام على شتم الحلفاء في الـ “ناتو”، وعبر عن رغبة الولايات المتحدة في الانسحاب من الحلف، وفي حال الوصول إلى الرئاسة فإن ترمب هذا أو غيره من أنصار “أميركا أولاً” الجمهوريين قد يعاود انتهاج تلك السياسات المشاكسة، وثمة احتمال وقوع أزمة سياسية أو دستورية ما أيضاً (في الولايات المتحدة)، إذ قبل فترة قصيرة من قيام بوتين باجتياح أوكرانيا أظهر استطلاع أن 64 في المئة من الأميركيين يتخوفون من وقوع الديموقراطية الأميركية في “أزمة ومواجهتها خطر السقوط”، وهذا كله كي نقول إن تأثير نتائج الانتخابات التمهيدية في أوهايو على الأمن الأوروبي ومستقبل الديموقراطية الليبرالية قد لا يقل أبداً عن تأثير نتائج المعارك في منطقة الدونباس.
أوروبا أيضاً من جهتها بحاجة إلى الانتباه والتيقظ على صعيد الجبهة الداخلية، ولقد أظهر الأوروبيون كرماً لافتاً باستضافتهم ملايين اللاجئين الأوكرانيين، إلا أن هذا الاستقبال الحار قد يتراجع ويمكنه أن يؤدي إلى تداعيات سياسية سلبية، إذ سبق لموجات هجرة حصلت من قبل أن أدت إلى تقوية سياسيين شعبويين غير ليبراليين.
وفي الأثناء يمكن لظاهرة نقص الطعام المتفاقمة في أفريقيا بفعل الحرب في أوكرانيا، أن تؤدي إلى أزمة إنسانية تضع الأوروبيين أمام موجة أخرى من المهاجرين اليائسين، ويمكن للتضخم المستمر واحتمال نقص الطاقة خلال الشتاء المقبل أن يؤديا أيضاً إلى إضعاف العزيمة الأوروبية المذهلة في التصدي لروسيا، إذ إن وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك كان في وقت سابق من هذا الشهر أطلق تحذيراً قال فيه “نحن في خضم أزمة غاز. الغاز بات من الآن وصاعداً سلعة نادرة وهذا سيؤثر في النتاج الصناعي وسيغدو عبئاً كبيراً بالنسبة إلى مستهلكين كثر”.
الركائز الداخلية للسياسة الخارجية الأميركية باتت أضعف مما كانت عليه في الماضي
الحكومة الإيطالية من جهتها باتت سلفاً تترنح بفعل السجالات الداخلية المتعلقة بتقديم الأسلحة لأوكرانيا، كما يستمر المسؤولون الألمان في الخلاف حول مسألة إرسال الأسلحة الثقيلة لذاك البلد، وصحيح أن إيمانويل ماكرون فاز في الانتخابات وأعيد انتخابه رئيساً لفرنسا خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي، إلا أن قرابة 40 في المئة من الناخبين صوتوا لمارين لوبن، المرشحة اليمينية المتطرفة المعجبة ببوتين، والتي وعدت بأنها ستسحب عضوية فرنسا من القيادة العسكرية لحلف الـ “ناتو”.
خسارة ماكرون للأغلبية الساحقة ضمن مجلس النواب في البرلمان الفرنسي تمثل إشارة إضافية للاستياء الشعبي العام، فـ “الجبهة الوطنية”، حزب لوبن، تقدمت من ثماني مقاعد (في البرلمان) إلى 89 مقعداً.
وفي جانب آخر فإن العقوبات الغربية ضد موسكو، وعلى الرغم من إلحاقها الضرر بالاقتصاد العالمي، إلا أنها فشلت حتى الآن من ناحية إلحاق التأثير المطلوب في روسيا، إذ بسبب الارتفاع الحاد في أسعار المواد الخام تستمر روسيا في تحقيق عائدات نفط كبيرة، حتى إن الروبل الذي تهاوت قيمته حين أطلقت روسيا اجتياحها لأوكرانيا في فبراير الماضي، عاد وانتعش وحقق في الآونة الأخيرة أكبر ارتفاع في قيمته أمام الدولار منذ سبع سنوات.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع وافقت الولايات المتحدة وشركاؤها في قمة السبع على اعتماد مزيد من التدابير لتقييد التجارة مع روسيا، كما ناقشت الولايات المتحدة مع الحلفاء إمكان فرض سقف لأسعار مشتريات النفط الروسي بغية التخفيف من الضغوط التضخمية وتقليص العائدات الروسية، بيد أن التأثيرات المتوقعة لتلك الخطوات تبقى غير مؤكدة.
أجل، على الغرب أن يقف مع أوكرانيا ويعاقب النزعة التوسعية التي تظهرها روسيا ويتصدى للأفعال العدائية الأخرى، لكنه يحتاج أيضاً إلى أن يزن هذه الأولويات في مقابل ضرورة منع الشعبويين غير الليبراليين في كلا ضفتي الأطلسي من الاستيلاء على السلطة. أسعار الغاز في أوهايو كما في بافاريا تبدو نافلة الأهمية أمام قتال أوكرانيا البطولي من أجل حريتها، إلا أن التمكن من التعامل مع الحرب في أوكرانيا يعني أيضاً الخوض في المياه الضحلة والخطرة للسياسات الأميركية والأوروبية، فأوكرانيا لن تكون مستفيدة أبداً لو وصل الجمهوريون أنصار شعار “أميركا أولاً” إلى السلطة في الولايات المتحدة، أو لو فاز الشعبويون أنصار موسكو في انتخابات الدول الأوروبية، فعندها ستكون بالفعل مفارقة قاسية لو نجح الـ “ناتو” في مساعدة كييف على إحباط طموحات بوتين الافتراسية، فيما تهوي في المقابل ديمقراطيات الأطلسي وتقع فريسة أخطار داخلية.
وحتى لو أرسل قادة الـ “ناتو” مزيداً من مدافع الـ “هاوتزر” والمسيّرات إلى أوكرانيا، فإن ما يحتاجونه يتمثل في الانتباه جيداً لآثار الحرب السلبية من الناحيتين الاقتصادية والسياسية في مجتمعاتهم، وعندما يفعلون ذلك فسوف يقدّرون على نحو أفضل أهمية الحاجة إلى تسهيل وقف إطلاق النار ودعم قضية أوكرانيا وموقفها على طاولة المفاوضات.
الانتقال من الحرب إلى المفاوضات لن يؤدي طبعاً إلى إصلاح سريع للاختلالات الاقتصادية التي سببها النزاع، إذ إن العقوبات ضد روسيا يمكن أن تبقى بعض الوقت، لكن الدبلوماسية هي بالتأكيد السبيل الوحيد لخفض التوترات الجيو-سياسية التي تستمر في الإخلال بإمدادات الطاقة والطعام وتتسبب في الضغوطات التضخمية.
المنطقة الرمادية لأوروبا
ستكون الدول الأعضاء في حلف الـ “ناتو” منهمكة في التعامل مع الحرب القائمة في أوكرانيا وتنظيم العلاقات المضطربة مع روسيا وتدعيم خاصرة حلف الـ “ناتو” شرقاً والانخراط في عمليات إعادة الإعمار حين ينتهي القتال، لكن على هذه الدول أيضاً الشروع في النظر إلى ما يتخطى الحرب ونتائجها المباشرة لاستخلاص دروس أعم، فالنزاع في أوكرانيا طرح الحاجة إلى تبني أسلوب تفكير جديد في مسألة تطوير الأمن داخل “المنطقة الرمادية” لأوروبا، أي المنطقة الفاصلة بين الـ “ناتو” وروسيا، وحتى في ظل استعار الحرب فثمة نقاش بنّاء يتبلور ويتقدم، وهو متعلق بالوضعية الجيو-سياسية المرتقبة لأوكرانيا، وطريقة تطور هذا النقاش قد تبلور صيغة لوضعية كل من جورجيا ومولدوفا وغيرهما من الدول التي تتطلع إلى الغرب من غير أن تكون متجهة للانضمام إلى حلف الـ “ناتو” ربما، وذلك بعد أن رفعت روسيا مستوى التحدي في أوكرانيا.
ثمة هنا ثلاث مقاربات متداخلة تتبلور بغية تطوير الحاجات الأمنية للدول الواقعة في المنطقة الرمادية لأوروبا. المقاربة الأولى تتمثل في تأمين الحيادية الدائمة لهذه الدول كطريقة لتعزيز سيادتها واستقلالها بموازاة مراعاة الاعتراض الروسي على المضي قدماً في توسيع حلف الـ “ناتو” شرقاً، وكانت أوكرانيا تبنت الحياد بعد انفصالها عن الاتحاد السوفياتي سنة 1991، وقد انتظرت أوكرانيا حتى العام 2019 كي تكرس في الدستور رغبتها في الانضمام إلى الـ “ناتو” كرد فعل على قيام روسيا بقضم منطقتي القرم والدونباس، وبحسب وجهة نظر بوتين فإن احتمال انضمام أوكرانيا إلى الـ “ناتو” لعب دوراً في قراره اجتياحها من جديد، إذ في خطابه إلى الأمة يوم الـ 24 من فبراير (شباط) الذي برر فيه “العملية العسكرية الخاصة”، أشار بوتين إلى “التهديدات الأساس التي شكلها السياسيون الغربيون غير المسؤولين تجاه روسيا”، وذكر “إنني أتحدث هنا عن توسع الـ (ناتو) نحو الشرق، حيث نقلوا بنيتهم التحتية العسكرية كي تكون أقرب من الحدود الروسية أكثر من أي وقت مضى”. وخلال الأسابيع الأولى للحرب بدت كييف مستعدة لتبني العودة للحياد لو تم ذلك واعتمد كجزء من تسوية للحرب جرى التفاوض عليها، لكان حياد أوكرانيا ذاك مثّل ربما نموذجاً للمنطقة بأسرها.
مزيد من الوضوح تجاه مستقبل الـ “ناتو” قد يساعد في تخفيف حدة التنافس بين روسيا والغرب
ثانياً، في السياق ذاته، فإن الحياد قد يقرن بضمانات أمنية يقدمها ائتلاف دول مستعدة لتأمين تلك الضمانات، وهذه الأخيرة قد لا تشمل الضمانات الدفاعية الرسمية التي ترافق عادة الانضمام إلى حلف الـ “ناتو”، بيد أنها ستلزم الموقعين والمنخرطين بالائتلاف في المساعدة على صون سلامة وحياد الدول الواقعة في المنطقة الرمادية لأوروبا، وقد تتخطى تلك التوافقات مستويات الدعم الغربي السابقة، كما يرجح أن تتضمن تدريبات عسكرية إضافية ودعماً بالأسلحة خلال فترات السلم، ودعماً عسكرياً رادعاً في حال واجهت الدول المشمولة بالضمانات أي هجوم، وهنا مرة أخرى تمثل أوكرانيا في السياق نموذجاً جيداً، فالدول أعضاء الـ “ناتو” لا تقوم اليوم بإرسال الجنود إلى أوكرانيا للمشاركة في القتال، بيد أنها تزود أوكرانيا بالمقومات اللازمة للدفاع عن نفسها، وعندما تنتهي الحرب قد تجد أوكرانيا نفسها بالفعل في حال حياد مسلح مقرون بدعم اقتصادي وعسكري مستمر من الدول الأعضاء في حلف الـ “ناتو”، وذاك يقوي موقفها في المفاوضات على الأراضي التي ستعقد بعد وقف إطلاق النار.
أما الجانب الثالث من المقاربة الأمنية في تلك المنطقة الرمادية من أوروبا فيتمثل في الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي، فلقد قامت بروكسل سلفاً بمنح أوكرانيا ومولدوفا صفة المرشح للانضمام، فيما تنتظر جورجيا دورها للحصول على هذه الوضعية، وعلى الرغم من أن مفاوضات الانضمام [إلى الاتحاد الأوروبي] قد تتطلب عقداً من السنوات أو ربما أكثر، إلا أن صفة “المرشح” تمنح الدول التي تحملها دفعاً سياسياً مكتسباً وتعطي حكوماتها النفوذ الذي تحتاجه لمعالجة الفساد وتطبيق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الصعبة التي تمثل خطوة أساساً تحتاجها أوكرانيا لتحرير نفسها من إرث ماضيها الأوليغارشي، إذ إن عضوية الاتحاد الأوروبي ستمثل في النهاية اندماجاً مؤسساتياً رسمياً في نادي الديمقراطيات الأطلسية، فيما يجري في المقابل تلافي استثارة روسيا من خلال عضوية الـ “ناتو”، إذ كما ذكر بوتين أخيراً عندما واجه احتمال انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، “ليس لدينا شيء ضد هذا الأمر، فقرار الانضمام إلى اتحادات اقتصادية أو ما شابه من عدمه هو قرار سيادي يخصهم ويخص الشعب الأوكراني”.
في المقابل، وفي سياق هذا السيناريو سيقوم الـ “ناتو” بضم فنلندا والسويد، كما سيضم الحلف أخيراً دولاً طامحة من البلقان لكنه لن يتوسع أكثر، ومن هنا فإن وضع حد شفاف وواضح لتوسع الـ “ناتو” شرقاً واستبدال التوسع هناك بجعل الاتحاد الأوروبي يتمدد كي يبلغ المنطقة الرمادية لأوروبا، من شأنهما أن يمكنا الغرب وروسيا من تجاوز مسألة أفسدت علاقاتهما منذ بداية توسع الـ “ناتو” عقب نهاية الحرب الباردة، وحتى لو كان بوتين استخدم توسع الـ “ناتو” كمبرر لاستيلائه على أراض إلا أن مزيداً من الوضوح تجاه مستقبل الـ “ناتو” من شأنه المساعدة في تخفيف حدة التنافس بين روسيا والغرب.
الركيزة الأوروبية
مثلت الحرب في أوكرانيا دعوة إلى أوروبا كي تصحو سياسياً، وعلى الـ “ناتو” البناء على هذه اللحظة.
لقد اقترفت أوروبا على مدى الأعوام عدداً كبيراً من البدايات الخاطئة في مسار تحقيق مزيد من القوة الجيو-سياسية واكتساب مزيد من المسؤوليات، لكن هذه المرة قد تقود الجهود في هذا الإطار إلى نتائج أكثر تأثيراً والفضل يعود لروسيا، إذ إن العدوان الروسي أدى سلفاً بالأوروبيين إلى تخصيص استثمارات جديدة وكبيرة لتطوير قدراتهم العسكرية، فألمانيا خصصت 100 مليار يورو لرفع مستوى جيشها المتصدع ووافقت على الالتزام بمعايير الـ “ناتو” المتمثلة في إنفاق اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، كما أعلنت أمم أوروبية أخرى زيادات ضخمة على موازناتها الدفاعية. ترجمة هذه الاستثمارات إلى قدرات قتالية حقيقية تحتاج إلى وقت وتتطلب تعاوناً عابراً للحدود القومية بين الدول الأعضاء في حلف الـ “ناتو” والاتحاد الأوروبي، إلا أن هذه الاستثمارات، خصوصاً المتعلقة بالتحول الألماني، تنطوي على إمكان تغيير قواعد اللعبة ومنح أوروبا أخيراً ثقلاً جيو-سياسياً أعظم تحتاجه في عالم عاد من جديد للعبة التنافس بين القوى العظمى، وعلى الولايات المتحدة في هذا الإطار الاستمرار في الضغط على حلفائها والعمل معهم للاستفادة القصوى من استعدادهم الجديد للنهوض بأعباء أكبر من الناحية الدفاعية، إذ إن أوروبا ذات قدرات أكبر سينتج منها شراكة أطلسية أقوى.
الديموقراطيون والجمهوريون على حد سواء يشتكون منذ زمن من حاجة الـ “ناتو” إلى ركيزة أوروبية صلبة، وبغض النظر عن الحزب الذي يتولى القرار في واشنطن فإن العلاقة الأطلسية ستكون في حال أفضل إن تمتعت أوروبا بثقل جيو-سياسي أكبر في مسرح الأحداث العالمي، فمع التهديد الذي تمثله روسيا اليوم أمام الجناح الشرقي للـ “ناتو” والتوترات في غرب المحيط الهادئ التي تفرض على الولايات المتحدة متطلبات جديدة من ناحية الموارد الأميركية، ستكون واشنطن مرتاحة أكثر إزاء تطور القدرات الأوروبية، إذ حتى لو أدى التهديد الروسي المستجد إلى بقاء القوات الأميركية في أوروبا خلال المستقبل المنظور، فإن أوروبا تحتاج إلى أن تكون قادرة على التصرف بمفردها عند الضرورة.
مؤسسات على قدر الأهداف الموضوعة لها
على الرغم من أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا يمثل عدواناً إقليمياً تقليدياً، إلا أنه يكشف أيضاً عن مدى التعقيد الذي باتت تتسم به الأجندة الأمنية، فتداعيات هذا النزاع تشمل طائفة واسعة من القضايا.
المسائل العسكرية والاستخبارية تحتل موقعاً متقدماً ومركزياً في هذا السياق، لكن أيضاً هناك مسألة أمن الطاقة، ويمثل التخلص من الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي ضرورة استراتيجية، بيد أنه يحمل في طياته آثاراً سلبية على التغير المناخي، إذ تقوم أوروبا بإعادة فتح محطات طاقة تعمل بالفحم الحجري كانت مغلقة، كما يضطر منتجو الطاقة إلى ضخ مزيد من النفط والغاز، وكذلك هناك مسائل الأمن السيبراني والأمن الغذائي وسلاسل الإمداد والهجرة والعلاقات مع الصين ونظام المدفوعات الدولي، فالحرب لم تترك إلا القليل خارج نطاقها.
وفي هذا الإطار تحتاج المؤسسات عبر الأطلسي إلى التكيف بناء على ذلك، وبإمكان الـ “ناتو” تولي بعض تلك المسائل والقضايا المتداخلة لكن ليس جميعها، وهو أبدى براعة فائقة في إدراج الأمن السيبراني ضمن أجندته، وقد بدأ الحلف حواراً بنّاء في موضوع العواقب الجيو-سياسية لصعود الصين، والبارز أن كلاً من أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية يحضرون اجتماعات قمة مدريد كمراقبين، لكن في مواضيع مثل أمن الطاقة والعقوبات الاقتصادية والحوكمة الرقمية وخطوط الإمداد التكنولوجية والمناخ وكوكبة من المواضيع الأخرى، يبدو الاتحاد الأوروبي المحاور المناسب أكثر من أي طرف آخر، بيد أن بريطانيا في هذا الإطار لم يعد لها مقعد على مائدة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وذاك أمر يزيد تعقيد مهمة خلق مؤسسات عبر الأطلسي تلائم التشابكات الدولية.
الروابط الأعمق بين الـ “ناتو” والاتحاد الأوروبي توفر أحد السبل للقيام بإدماج المسائل الجيو-سياسية والجيو-اقتصادية على نحو أفضل، أما الخيار الآخر فقد يتمثل في تأسيس مجلس جديد عابر للأطلسي يتولى التعامل مع مسائل السياسات بطريقة تترفع عن العوائق المؤسساتية والبيروقراطية وتتجاوزها، ويمكن لهذا المجلس أن يضم ممثلين عن الـ “ناتو” والاتحاد الأوروبي وأيضاً عن الدول الأعضاء، فيؤمّنون الإشراف على الأجندة الأطلسية الحيوية والمتنوعة. المجلس الناشئ حديثاً باسم “مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي” يشكل في الحقيقة مثالاً جيداً لهكذا ابتكار مؤسساتي يهدف إلى تمكين السياسات من مواكبة التحولات التكنولوجية، فتداعيات الحرب تظهر لنا بوضوح ما تخلقه العولمة والتداخلات العالمية من حاجة لأنماط جديدة من الحوكمة والتعاون عبر الأطلسي، كما أنه وبالقدر نفسه من الأهمية تحتاج كل هيئة جديدة مرتقبة إلى أن ترصد عن كثب الروابط التي تزداد قرباً بين السياسة الخارجية والسياسات الداخلية في الساحة الوطنية، وإن قام قادة طرفي الأطلسي بتجاهل تلك الروابط فهم يفعلون ذلك على مسؤوليتهم ومن رصيدهم ورصيد التضامن عبر الأطلسي.
يبقى حلف الـ “ناتو” الركيزة الأساس للمجتمعات في طرفي الأطلسي التي تتشارك المصالح والقيم، ولقد أظهر الحلف بوضوح أهميته ونجاعته ووحدته في حشد رد فعل حازم ضد روسيا وعدوانها على أوكرانيا، وحان الوقت الآن للـ “ناتو” كي يبدأ التحرك لوقف النار والوصول إلى تسوية دبلوماسية في أوكرانيا، فلا يوفر فرصة بهدف صون التضامن عبر الأطلسي والانتباه إلى الأخطار الداخلية التي تهدد النظم الليبرالية الديموقراطية، والتي قد تشكل تهديداً للمجتمعات على طرفي المحيط أكبر من تهديد بوتين، لذا يحتاج هذا المحور إلى أن يكون جزءاً من جهود أكبر لبناء عمارة أطلسية تصلح للمهمات التي بنيت من أجلها وسط تشابكات القرن الـ 21.
بقلم: تشارلز أ. كوبتشان زميل رفيع المستوى في مجلس العلاقات الخارجية وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون. له كتاب بعنوان “الانعزالية: تاريخ الجهود التي بذلتها أميركا لحماية نفسها من العالم” Isolationism: A History of America’s Efforts to Shield Itself From the World.
المصدر: اندبندنت عربية ـ مترجم عن فورين أفيرز – يونيو (حزيران) 2022