السياسية:

تطوّرت السردية الغربية بشأن توقع هزيمة روسيا في أوكرانيا من مرحلة إلى أخرى، ففي البداية ركزت على أن العقوبات الاقتصادية ستركع روسيا في زمن قياسي، وخلطت بين ما حدث في الحالة الأفغانية والحرب الجديدة، ثم تطوّرت هذه السردية مع مظاهر المقاومة الأوكرانية التي يبدو أنها أدهشت الغرب وليس فقط موسكو إلى توقع هزيمة الأخيرة أو على الأقل استنزافها في حرب مرهقة ومكلفة، ثم انتقلت هذه السردية أخيراً إلى احتمالات اتساع الحرب، وبدأ الحديث عن حرب عالمية ثالثة، وقد تبنّت بعض الكتابات العربية، وبعضها رصين، وله وزنه، أخيراً هذه السردية، وبدأ التبشير بالتصعيد العسكري.

وقد تعرّضت سابقاً للسيناريوهات المختلفة لما يمكن أن يحدث مع ترجح نجاح روسيا في السيطرة على شرق وجنوب أوكرانيا، ومن ثمّ إحراز مكاسب استراتيجية للمرة الأولى بشكل حقيقي منذ بدء الحرب. وفي الحقيقة، إن خطورة وتأثير استمرار تداعيات الحرب وطرح هذا الشكل الأخير من تداعياتها تستدعي مراجعة مستمرة لما يجري، وماذا يجب على العالم أخذه في الاعتبار، فأحد أهم سمات عالمنا المعاصر عدم اليقين، وهي سمة عززتها التطورات الأخيرة منذ كورونا، ثم هذه الحرب، ومن ثمّ ارتفاع نسبة المخاطرة، التي تقتضي المراجعات والحسابات المتواصلة.

استراتيجية الغرب في الميزان

اعتمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون استراتيجية مركبة في مواجهة الحرب الأوكرانية، اعتماداً على ثلاثة أركان رئيسة، الركن الأول بها هو تطبيق سلسلة ضخمة من العقوبات الاقتصادية، بهدف شل ومحاصرة الاقتصاد الروسي، والركن الثاني سياسات دعم وتسليح أوكرانيا لإطالة فترة مقاومتها، والركن الثالث هو الإدانة الدولية ومحاصرتها في الأمم المتحدة.

وقد حققت واشنطن كثيراً من الإيجابيات والسلبيات بتطبيق هذه الاستراتيجية، فعلى صعيد الركن الأول أدّى تطبيق هذه الإجراءات العقابية الحادة في البداية إلى تأثير سريع ومربك للاقتصاد الروسي، وتدهور سعر الروبل، وارتفاع نسبة التضخم.

لكن، الإجراءات الروسية العكسية حوّلت الدفة فارتفع سعر الروبل، وانخفضت نسبة التضخم التي انتشرت في كثير من دول العالم، بل ومن المؤكد أنها اتسمت بالزيادة الكبيرة في الدول الغربية، التي طبقتها، وعلى رأسها المملكة المتحدة والولايات المتحدة.

والمفارقة، أن العقوبات الاقتصادية تكاد في مرحلتها الراهنة أن تكون عقاباً للدول التي فرضتها بأكثر مما هي عقاب لروسيا ذاتها، والسبب في هذا مفهوم، وهو ببساطة أن نفس مظاهر الخلل الهيكلي في الاقتصاد الروسي، الذي طالما تحدثت عنه الكتابات والدراسات الغربية، أي اعتماده على المواد الأولية هو الذي أرهق العالم والغرب، كون هذه السلع هي أخطر السلع الاستراتيجية في العالم، وتشمل إضافة إلى النفط والغاز، القمح والذرة وزيوت عباد الشمس، وعدداً من المعادن النفيسة الأساسية في الصناعات النووية والفضائية، فضلاً عن صدارتها عالمياً في بناء المحطات النووية، التي ما زالت أهم بديل للوقود الأحفوري في مجال الطاقة، هنا خطأ التقديرات الغربية وتجاهلها أن هذه السلع الاستراتيجية في يد الدول الصغيرة هي أمر وفي يد دولة بقوة روسيا العسكرية أمر آخر.

ومن ناحية أخرى، تجاهلت هذه التقديرات أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على دول، مثل إيران وكوريا الشمالية منذ عقود لم تؤدِ إلى انهيار هذه النظم على الرغم من الرهانات الغربية في مراحل سابقة. وهنا تجدر الإشارة إلى المنطق، الذي تتحدث به الصين ودول عربية عدة بشأن فعالية هذه العقوبات الاقتصادية بعد عقود من تطبيقها، وأن الخاسر الأكبر هو الشعوب التي تعاني، بينما تؤدي أحياناً إلى تماسك النظم التي تطبق ضدها على الرغم من مشكلات هذه النظم الهيكلية، كما في حالة إيران وكوريا الشمالية.

أمّا الركن الثاني، أي تسليح ودعم أوكرانيا عسكرياً ومالياً، فقد حقق بالفعل إطالة للمقاومة الأوكرانية، وكشف القدرات والمشكلات العسكرية الروسية، لكن ما فات المنطق الغربي هو سؤال ما حدود هذه الإطالة، وأي تبعات على الاقتصاد والشعب الأوكراني لو نهجت موسكو نهجاً رشيداً، واكتفت بالسيطرة على الشرق والجنوب أي إقليم الدونباس، هل يمكن أن يتحمّل الشعب الأوكراني حرب عصابات مشابهة لتلك الأفغانية في مواجهة التجربتين الروسية والأميركية؟ في التقدير، إن هذه ليست حسابات دقيقة، وأنه على الرغم من الدعم الغربي، وتوقد المشاعر الوطنية عند أغلب الشعب الأوكراني، فإن الأمور قد تأخذ شكلاً مغايراً في مرحلة مقبلة.

أمّا الركن الثالث أي الإدانة الدولية وعزلة موسكو، فقد حققت به واشنطن ما تريد، ثم اكتشفت حدود هذا، وأن آليات هذا النظام الدولي الأممي التي تتزعمه لا يملك الكثير بعد ذلك، بل من الواضح أن هناك كتلة دولية، ليست بلا وزن، لا تريد الانسياق وراء الغرب، ولا وراء موسكو أيضاً.

لا نريد إعادة طرح السيناريوهات المحتملة في حالة سيطرة روسيا على إقليم الدونباس، وما إذا كانت ستواصل الزحف غرباً أم لا؟ وما ردود الفعل المحتملة عندئذ؟ إنما فقط مناقشة السردية الجديدة باحتمال اتساع الحرب وتكرار سيناريوهات شبيهة بالحروب العالمية السابقة، أي سيناريوهات الجنون.

نلاحظ أولاً أن المشكلة الكبرى في التعامل مع هذا السؤال يتعلق بمدى إمكانية تطبيق منهج التحليل والحسابات الرشيدة على كل الأطراف المتصارعة، وأن لا يؤدي الغضب والشعور بالتهديد أو الفشل لدى بعض أو كل هذه الأطراف إلى ارتكاب مزيد من الحماقات.

وثانياً، نؤكد دوماً أن موسكو لم تعلن مع سير الحرب أبداً أهدافاً واضحة من هذه الحرب مقارنة بمراحلها الأولى، إنما ركزت أسبابها على مسألة حياد أوكرانيا وحماية المكون الأوكراني الروسي من النازيين الجدد والقضاء عليهم، وتراجعت بسرعة عن خطابها بدعوة القادة الأوكران عن عزل الرئيس زيلنيسكي، وهنا فإن فصل إقليم الدونباس سيمثل خسارة استراتيجية ضخمة لأوكرانيا، ويجعلها دولة حبيسة، وقد يؤدي إلى تغيير تدريجي، حتى لو كان بطيئاً في البداية، في الموقف، وفي التقدير أنه على الرغم من تمسّك الرئيس الروسي بكثير من الأوهام القومية، التي تؤسس لكثير من التصرفات غير الرشيدة، فإننا نرجّح أنه سيكتفي بإكمال السيطرة على هذه المناطق المتاخمة لبلاده، ويترك بعض الوقت للتفاعلات السياسية، بعد تحقق هذه الأهداف، ولن يواصل عملياته العسكرية ضد الدولة الأوكرانية إلا إذا حاولت استنزافه في حرب عصابات، أو شبيهة بذلك، وأنه في هذه الحالة الأخيرة قد يضطر إلى استخدام أسلحة أكثر دماراً، وإن كانت تقليدية يبدو حتى الآن حريصاً على تجنبها قدر الممكن، وأن إرهاق الدولة الأوكرانية قد يدفعها إلى عدم التجاوب مع رغبة أطراف غربية في مواصلة حرب الاستنزاف هذه التي ستدمر أوكرانيا بالأساس، وليس القضاء على روسيا.

ومن ناحية أخرى، سيؤدي قرب موسم الشتاء والحاجة إلى مزيد من الغاز والنفط الروسي، حيث لا نتوقع اختراقاً درامياً من تحركات الرئيس الأميركي المقبلة، ومن بينها زيارة الشرق الأوسط المقبلة، إلى تزايد احتمالات الوصول إلى تسويات بها قدر من حفظ ماء الوجه للطرفين الغربي والروسي وليس للأوكراني. ومن هنا نميل، في ضوء المعطيات الراهنة وعلى رأسها التباينات داخل المعسكر الغربي، وعدم استعداد العالم، وعلى رأسه الغرب، في الانزلاق إلى ما لا يمكن السيطرة عليه، إلى أنه على الرغم من تهديدات هذه السردية الجديدة بنشوب حرب متسعة، فإن العالم ما زال به قدر من العقل، وسيحاول تجنّب هذا الاحتمال.

المصدر: اندبندنت عربية