الطريق إلى الفناء
بثينة شعبان
إنّ متابعة حوارات ونتائج دول مجموعة السبع التي عُقدت في ألمانيا قبل أيام، ونتائج اجتماع حلف الناتو الذي عُقد مؤخراً في إسبانيا، لا بدّ من أن تدفع المواطن الغربي إلى التساؤل العميق، ولربما القنوط. فلم يكن على طاولة الزعماء في الاجتماعين المهمّين أيّ من مشاغل المواطنين وهمومهم في البلدان التي يُفترض أنهم يمثلونها، بل كانوا منشغلين بأمور لا تهمّ مواطنيهم ولا تؤثر على حياتهم إلا سلباً وخسارة وإفقاراً. فمن تركيز قادة مجموعة السبع على “حق الرئيس بوتين في أن يتعرّض للشمس”، الأمر الذي جعل من الحرية الشخصية التي يدّعونها مهزلة، إلى “اعتبار روسيا تهديداً مباشراً للدول المنضوية تحت حلف الناتو”، واعتبار أن الصين تمثّل تحدّياً لقيم “الناتو” ومصالحه، إلى اعتبار تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا مناقضاً لقيم الدول الغربية ومصالحها، علماً بأن الجميع يعرف معاناة الشعوب الغربية من التضخّم الناجم عن سياسات هؤلاء القادة.
حين طلب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من الحلفاء “أن يمدوا أيديهم إلى جيوبهم بعمق”، يتوقع المرء أنه حريص على معالجة بعض مظاهر الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف ببريطانيا، ولكنه بدلاً من ذلك، أخرج من جيوب شعبه المنهك بارتفاع الأسعار ونقص المواد والخدمات، مليار جنيه إسترليني لإرسال أسلحة إلى نظام “المهرّج” في أوكرانيا كي يدمّر بلده ويهجّر الملايين من شعبه، بحيث يصبح ما دفعته المملكة المتحدة من مساعدة بالسلاح لأوكرانيا ثلاثة مليارات جنيه إسترليني. وأعلنت الولايات المتحدة عن ثمانمئة مليون دولار إضافية لإرسال أسلحة إلى أوكرانيا، والقائمة تطول. ولكن بالمختصر، فإن كل التركيز هو على استجرار أموال لإرسال أسلحة إلى أوكرانيا، في الوقت الذي أعلنت فيه روسيا أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الحرب في أوكرانيا هي من خلال “إصدار أوامر للوحدات النازية الأوكرانية بإلقاء السلاح، وإصدار أوامر إلى الجنود الأوكرانيين بإلقاء أسلحتهم وتنفيذ كل الشروط التي وضعتها روسيا. حينها سينتهي كل شيء خلال يوم واحد”، بينما علّقت الصين بالقول إن الناتو مستمر في خلق أعداء وهميين وفي شنّ الحروب وقتل المدنيين.
إذا ما عُدنا خطوة إلى الوراء، إلى بداية هذه الحرب، وأخذنا برأي أهمّ المنظّرين السياسيين في العالم اليوم، البروفسور جون ميرشمير، فإننا نقتنع بما لا يقبل الشك، بأن الغرب أراد هذه الحرب، وأنه دفع بوتين إليها مكرَهاً، وأن الرئيس بوتين، ولمدة ثمانية أعوام، كان يحذّر ويصرّح ويحاول جاهداً تجنّب خوض هذه الحرب، ولكن الغرب وضع روسيا تحت تهديد وجودي، فلم يكن أمامها خيار سوى خوض هذه الحرب دفاعاً عن وجودها. وسياق الأحداث، وآخرها قمة مجموعة السبع واجتماع الناتو، يُري كأن الغربيين لا شاغل لهم سوى استجرار الأموال من شعوبهم لدفع قيمة الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا، كي يتم تدمير هذه الأسلحة هناك. خلاصة اجتماع قمة السبع، إضافة إلى التعليق على صدر بوتين العاري، هو “تعهّد مجموعة السبع بأن تدفع روسيا ثمناً باهظاً لغزوها أوكرانيا”، بينما في الواقع يتضوّر اقتصاد هذه البلدان جوعاً، ويتراجع الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي فيها.
وفي تحليل بارد، وبعيداً عن السفسطة الإعلامية التي نجمت عن هذين الاجتماعين اللذين يجب أن يكونا في غاية الأهمية لشعوب بلدان الدول المعنية وللعالم برمّته، فإن واقع الأمر هو أن دول الناتو قد كرّست كل ما لديها من أموال شعوبها لتشغيل مصانع السلاح في بلدانها، بدلاً من توجيه الثروة واستغلالها في الاقتصاد المنتج، وتحسين أوضاع شعوبها، متجاهلة جميعها أن من يبيع السلاح تصبح لديه ثروة غير سليمة، بل رقمية، ليعود ويشتري البضائع والسماد والسلع والحبوب من الصين وروسيا والهند، وبقية دول العالم المنخرطة في إنتاج مفيد لشعوبها وللعالم أجمع، ومتناسية أيضاً أن الصناعات العسكرية تستهلك نفسها، لأن الثروة الناتجة عنها هي ثروة رقمية وليست منتجات وسلعاً وخدمات تنفع الناس، بينما الاقتصاد الصيني مبنيّ على الإنتاج السلعي، وثروته هي بضاعة موجودة في الأسواق يتداولها الناس.
لقد سقطت الإمبراطوريات عبر التاريخ لأن تكاليف إدارة الجيوش فيها فاقت ما يمكن أن يوفّره الاقتصاد من موارد يجري تبديدها في كل حرب. وهذه بالذات هي تجربة بريطانيا التي انسحبت من مستعمراتها لأنها لم تكن قادرة على إدارتها، ولم تستطع أن تدفع تكاليف جيوشها المنتشرة في كل مكان، كما هي حال الولايات المتحدة اليوم.
المتأمّل جيداً في كل ما صدر عن مجموعة السبع وحلف الناتو يدرك أن وضع هذه البلدان اقتصادياً ومالياً شبيه تماماً بوضعها في أوكرانيا، فهي لا تستطيع الانسحاب لأنها تعتبره هزيمة أمام بوتين، وكلما اتّخذ قادة هذه البلدان قراراً يعود عليهم بمفعول عكسي. هم لا يستطيعون الانسحاب لأنهم يعتبرونه نهاية لهيمنتهم على العالم، ولذلك فهم مستمرون في إفقار شعوبهم من أجل شراء السلاح من صنّاع الحروب الذين يموّلون حملاتهم الانتخابية، لإرساله إلى أوكرانيا هذه المرة، وقبلها إلى فيتنام وأفغانستان والعراق. والواقع الحقيقي، بعيداً عن كل ادّعاءاتهم، هو إما أن ينسحبوا الآن أو أن يستمروا في إفقار شعوبهم، إلى أن يفقدوا القدرة الاقتصادية لتمويل هيمنتهم العسكرية والسياسية الغربية على العالم، وهذا الأمر حاصل لا محالة، والمسألة مسألة وقت، وضريبة باهظة تدفعها شعوب البلدان الغربية وشعوب العالم معها نتيجة جشع صنّاع السلاح الغربيين، وغرور ساسة الدول الغربية، وانفصام قادتها عن الواقع.
قرار هذه الدول، على سبيل المثال لا الحصر، بمنع استيراد الذهب من روسيا هو لصالح روسيا، لأنها تحتفظ بثروتها من الذهب، وهذه ثروة حقيقية لا ثروة وهمية.
بالتوازي مع هذه الاجتماعات الغربية الاستعراضية، رحّبت روسيا والصين برغبة إيران والأرجنتين في الانضمام إلى دول البريكس، وقال المتحدّث باسم وزارة الخارجية الصينية: إن الصين إلى جانب شركاء “بريكس” الآخرين ستعمل بحزم على تقدم توسّع المجموعة، وجلب المزيد من الشركاء إلى عائلة “بريكس” . كما أعلنت الصين أنها زادت من استجرار النفط الروسي هذا العام بنسبة 55% عن العام الماضي. وقد وقّعت إيران مع روسيا، وقبلها مع الصين، اتفاقات مهمة جداً في مجال التعاون العلمي والاقتصادي والبحثي، تجعل من إيران والصين وروسيا حلفاء استراتيجيين، إضافة إلى وجود إيران في منظمة شنغهاي، ورغبتها في الانضمام إلى دول البريكس.
والهند أيضاً بدأت بالاعتماد على النفط الروسي الذي تبيعه روسيا بأسعار تفضيلية لأصدقائها. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن الصناعات في الصين والهند ستحقق قفزة نوعية في السنوات المقبلة، وستتمكن من أن تكون منافسة جداً في الأسعار نتيجة انخفاض التكاليف، بينما لن تتمكن الصناعات الغربية من المنافسة نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات ونقص الكميات المصدّرة إلى الغرب وارتفاع التكلفة.
والسؤال البديهي هو من يملك مفاتيح المستقبل في الغرب؟ أذاك الذي يبني بنيانه على الرمال المتحركة أم الذي يبني على صخر جبل صلد بأسس وقواعد لا تهزّها الرياح ولا تغيّرها المناخات والأزمان؟ {أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خيرٌ أم من أسّس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به}. والسؤال الثاني: أوَليس هناك مفكرون ومحللون واستراتيجيون في الغرب قادرون على دقّ ناقوس الخطر للنخب السياسية الغربية التي تقود بلدانها وشعوبها إلى مصيرها المحتوم؟ لا شك في أنهم موجودون، ولكن تمّ إقصاؤهم أو استبعاد رؤاهم أو تصويرهم وكأنهم معزولون. أوَليس من المضحك المبكي أن يتم اعتبار جون ميرشمير، وهو نافذ البصيرة السياسية ومن أهمّ مفكّري هذا القرن السياسيين”، أكثر أكاديميّ مكروه في الولايات المتحدة”؟ صدق الله العلي العزيز في قوله: “لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”.
- المصدر: الميادين نت
- المادة الصحفية تم نقلها من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع