السياسية:

من المفروض أن العولمة وتحرير التجارة الدولية والخصخصة خلال العقود الأربعة الماضية أنتجت جيلاً بعيداً كل البعد عن المفاهيم الاشتراكية والشيوعية. إلا أن كل ما نراه في السنوات الأخيرة في أوروبا ودول الاتحاد الأوروبي تحديداً، هو أن الميول إلى الاشتراكية والشيوعية، ومن ثم تزداد الديكتاتورية حدةً، كما أن الهوة بين مبادئ هذه الدول في الحرية والمساوة وحقوق الإنسان وما تقوم به في أرض الواقع تزداد اتساعاً.
ففي اجتماع مجموعة السبع، في الجزء الألماني من جبال الألب، تم تعويم فكرة وضع سقف سعري للنفط والغاز الروسيين، بهدف تخفيض الإيرادات التي تحصل عليها روسيا، ومن ثم تضعف قدرة الرئيس بوتين على التوسع في الحرب. وعلى الرغم من أن الفكرة جاءت من إدارة بايدن، فإن بعض القادة الأوروبيين أعجبتهم الفكرة… الفكرة التي لا يمكن تطبيقها! وعندما سئل أحد المشاركين في القمة عن الموضوع، قال إنه لم يتم الاتفاق عليها، ولكن الهدف هو وضعها في البيان الختامي.
نظرياً، فكرة تحديد سعر هي فكرة شيوعية – اشتراكية. عملياً، تتم داخل الدولة، حيث إن الحكومة لديها قوة قانونية وعسكرية لتطبيقها. تصور لو اتصل شخص بشركة الكهرباء وقال لهم: لن أدفع لكم إلا السعر الذي أريد، ورفض الدفع إلا السعر الذي يريد، ماذا سيحصل؟ فكيف يقولون لبوتين: نحن بحاجة للنفط الروسي، ونعرف أن السعر 110 دولارات للبرميل، ولكن لن ندفع لك إلا 75 دولاراً ثمناً له!
كما تلاعبوا بالعقوبات لتفادي آثارها السلبية عليهم، أعتقد أنهم سيتلاعبون بموضوع “تحديد سقف سعري” لأنهم حوّلوا الأمر إلى لجنة من الخبراء الآن لتطوير نظام خلال الأسابيع. النتيجة، في رأيي، ستكون هي سعر النفط الروسي المخفض الذي يباع للهند والصين، والذي سينتهي بعضه في أوروبا على كل حال، بطريقة أو بأخرى، بخاصة أن الهند حلت ضيفاً على قمة الدول السبع، وهذا يعني أنهم سيفصلون القرار بحسب الوضع في السوق، تماماً كما فعلوا في قرار وقف واردات النفط من روسيا.
الحقيقة أن قيام دول الاتحاد الأوروبي بتبني الحزمة “السابعة” للعقوبات الآن، يدل على تخبط سياسات هذه الدول. ففشل الحزم الست حتى الآن يدل على أن قادة هذه الدول، إما يعيشون في أبراج عاجية، وإما أنهم يستهدفون فعلاً فشل هذه العقوبات لتخفيف آثارها السلبية على الدول الأوروبية.

خلاصة القول إن تخبط سياسات هذه الدول يشير إلى أن مستقبل هذه الدول ونموها مشكوك فيه، ومن ثم فإن دورها الاقتصادي والسياسي ينخفض مع الزمن، لهذا فإن التوقعات بانخفاض الطلب على النفط والغاز فيها بشكل ملحوظ مع مرور الزمن أقرب إلى الصحة، هذا الانخفاض في الطلب على النفط والغاز لن يكون بسبب تبني الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والسيارات الكهربائية، وإنما بسبب انكماشها المستمر.

إيران وفنزويلا

حسب المبادئ الأوروبية والأميركية، إيران وفنزويلا دولتان تنتهكان حقوق الإنسان، وتتجاوزان القوانين والأعراف الدولية، وحسب الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، فإن النظام الإيراني نظام إرهابي يدعم حركات إرهابية حول العالم. لهذا تم فرض حظر على كلا البلدين، والحظر ينطبق على النفط تحديداً.
أثناء الحديث عن تخفيض واردات النفط والغاز من روسيا ووضع سقف سعري لهما في اجتماع مجموعة السبع أول أمس، طالبت فرنسا بوجود النفط الإيراني والفنزويلي في الأسواق قبل تبني أي قرار في شأن تحديد سقف سعري للواردات من روسيا. قبل ذلك، أعطت إدارة الرئيس بايدن استثناءً لشركتي “إيني” الإيطالية و”ريبسول” الإسبانية لتصدير النفط الفنزويلي إلى أوروبا على الرغم من العقوبات المفروضة على فنزويلا، كما بدأت إدارة بايدن بالتشاور لتكرار التجربة نفسها مع إيران. وتشير البيانات إلى أن النفط الإيراني يصل أوروبا حالياً، بموافقة بايدنية! فجأة تناسوا أخطاء النظام الفنزويلي وجرائم النظام الإيراني، وكأن شيئاً لم يكن.
خلاصة القول هنا أن هذه الحكومات فقدت الريادة الأخلاقية عالمياً. هذه الريادة كانت مهمة في العقود الماضية لتمرير أجندات هذه الدول، ولكنها انتهت الآن تقريباً. لدى الولايات المتحدة قوة عسكرية هائلة تساعدها في فرض هيمنتها وأفكارها، ولكن دول الاتحاد الأوروبي ليس لديها ذلك. الولايات المتحدة لديها مواردها الخاصة من الطاقة، وهي مصدر صافٍ لها الآن، على عكس دول الاتحاد الأوروبي التي حوّلت اعتمادها في الغاز من روسيا إلى الولايات المتحدة.

في مقالات سابقة، كتبت عن ثلاث نقاط، الأولى هي أن الرئيس بوتين، من دون قصد، آخر سياسات الحياد الكربوني في أوروبا لمدة 7 أو 8 سنوات. والثانية عن تراجعات بالجملة للدول الأوروبية عن سياسات التغير المناخي. وبيّنت في مقال الأسبوع الماضي بعض التفاصيل عن عودة الدول الأوروبية إلى الفحم، المصدر الأكثر تلويثاً للبيئة. والثالثة، هي أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم في سياسات التغير المناخي إلا إذا حققت هذه الدول توازناً بين الأمن البيئي والأمن الطاقي، وأن انعدام أمن الطاقة يعني بالضرورة انعدام الأمن البيئي.
وكانت بعض الدول الأوروبية والولايات الأميركية قد قررت التخلص من محطات الكهرباء النووية، وعدم بناء بديل لها. إلا أن الاهتمام مجدداً بأمن الطاقة أعاد الاعتبار إلى الطاقة النووية. وقبل الحديث عن العودة للطاقة النووية، لا بد من ذكر أن هناك مجموعة من العلماء والخبراء الذين يرون أنه لا يمكن على الإطلاق تحقيق أهداف الحياد الكربوني من دون الطاقة النووية، ويرون أنه يجب التوسع بها على أوسع نطاق للوصول إلى الأهداف المرجوة.
قبل اجتماع قمة الدول السبع، أرسلت مجموعة من المؤسسات والجمعيات العالمية رسالة إلى المؤتمرين تشجعهم على تبني الطاقة النووية، كان منها: الجمعية العالمية للطاقة النووية، ومعهد الطاقة النووية البريطاني، ومنظمة أوروبا النووية، ومعهد الطاقة النووية الأميركي، ومنتدى الصناعات الذرية الياباني. وطالبت الرسالة المؤتمرين بتقديم حوافز لإطالة عمر المفاعلات الحالية قدر الإمكان، وإعادة تشغيل المفاعلات التي يمكنها العمل من دون أي مشكلات، وتضمين الطاقة النووية في خطط الحياد الكربوني، ودعم المفاعلات النووية الصغيرة المتطورة.
وكانت ألمانيا قد قررت منذ سنوات التوجه إلى الطاقة المتجددة والتخلص تدريجياً من محطات الفحم والمحطات العاملة بالطاقة النووية، ثم قررت تسريع عملية التخلص منها. حالياً، في ظل انخفاض إمدادات الغاز من روسيا واحتمال توقفها تماماً، زادت المطالب بعودة الطاقة النووية، فقد أعلن وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر في الأسبوع الماضي، أن بلاده على حافة أزمة اقتصادية، وأن على الحكومة دراسة الخيارات المختلفة لتغطية العجز في إمدادات الطاقة. وكان حزبه المشارك في الحكومة، الديمقراطيون الأحرار، قد دعا إلى تأخير عمليات التخلص من محطات الطاقة النووية الثلاث، والأخيرة التي يفترض أن تتوقف عن العمل مع نهاية هذا العام، كما أن المعارضة الألمانية الحالية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي تدعو أيضاً إلى تأخير إغلاق هذه المفاعلات. إلا أنه قبل كتابة هذا المقال بسويعات أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز أنه لن يمدد لهذه المفاعلات، وستغلق كما كان مقرراً. فهل يصمد في وجه اشتداد أزمة الطاقة وتناقص إمدادات الغاز الروسية؟
هناك جهود في عدد من الدول الأوروبية لبناء مفاعلات جديدة أو تمديد عمر المفاعلات الحالية في كل من بريطانيا وهولندا وبلجيكا وفرنسا وبولندا وفنلندا. وأوضحت استطلاعات الرأي في سويسرا في شهر مارس الماضي، أن أغلبية الشعب السويسري تؤيد بناء محطات نووية لتوليد الكهرباء، بينما أيّد ثلث الناخبين الإيطاليين إعادة اعتبار الطاقة النووية كجزء من مصار الطاقة.
وتتضمن لائحة الدول التي تريد أن تتوسع في الطاقة النووية خارج أوروبا كلاً من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة وفيتنام والإمارات ومصر، بينما تقوم السعودية الآن بوضع الإطار العام لصناعة الطاقة النووية فيها.
خلاصة الأمر أن فشل مشاريع الطاقة المتجددة في تحقيق أمن الطاقة كما تصور الأوروبيون من جهة، والغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات التي فرضت على روسيا بسبب ذلك، أعاد العالم إلى رشده في ما يتعلق بأمن الطاقة. أمن الطاقة يتطلب تنويع مصادر الطاقة من جهة، وتنويع مصادر واردات الطاقة من جهة أخرى. إلا أن أغلب دول الاتحاد الأوروبي ما زالت متمسكة بأخطاء الماضي، الأمر الذي ينتج عنه انتقال هذه الدول من أزمة إلى أخرى، مع انخفاض في النمو الاقتصادي وتلاشي الدور السياسي. لهذا سيأتي اليوم الذي يقال فيه عن الاتحاد الأوروبي: الصرح الذي هوى.

بقلم :أنس بن فيصل الحجي اقتصادي متخصص في مجال الطاقة
المادة الصحفية نقلت من موقع اندبندنت عربية وتعبر عن راي الكاتب