السياسية:

يروي الدكتور هنري كيسينجر أن ماوتسي تونغ قال له، “أنا مستعد للصبر مئة سنة قبل ضم تايوان إلى الصين”، لكن شي جينبنيغ الجالس اليوم في مكان ماو، والذي رفعه الحزب الشيوعي إلى مكانة ماو ودينغ شياو بينغ، بدا أقل صبراً. فالدنيا تغيرت. الصين صارت قوة عظمى اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً. وأميركا لا تستطيع الخروج من سياسة “الصين واحدة” التي التزمها الرئيس ريتشارد نيكسون. والشكوك كبيرة في إمكان دخولها مواجهة عسكرية مع الصين من أجل تايوان، ثم جاء الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا الذي أحدث تبدلاً في الحسابات.

الرئيس شي في وضع حرج بين حليفه الروسي فلاديمير بوتين وخصمه جو بايدن، حيث للصين مصالح مهمة في كل من روسيا وأميركا. والاندفاع الأميركي الأوروبي لدعم أوكرانيا بالمال والسلاح والدبلوماسية والإعلام جعل الصين تعيد النظر في تجربة خطها مع أميركا، إن حاولت ضم تايوان بالقوة، لكن العمل على تكريس التعددية القطبية على قمة العالم مستمر. فالأحادية الأميركية التي سادت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم تعش طويلاً. وهي انتهت قبل حرب أوكرانيا التي أوحى الرئيس بوتين أخيراً أن واحداً من أهدافه فيها هو إنهاء الأحادية القطبية. وليس تركيز الاستراتيجية الأميركية، قبل حرب أوكرانيا، على “الصراع والتنافس والتعاون” مع “قوة الصين الصاعدة” و”روسيا الانتقامية” سوى اعتراف بواقع التعددية القطبية.

بوتين يربط نهاية الأحادية الأميركية بما يفعله في حرب أوكرانيا ليقول في ما بعد إنه حقق انتصاراً في الصراع على القمة من أجل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. وشي يبحث عن مخرج من الحرج في حرب أوكرانيا، أي مخرج، طرح “مبادرة أمنية عالمية” تحت عنوان “الأمن الكلي”. وبين الأسباب الموجبة ضرورة الخروج من سياسات “الأمن القومي”. لماذا؟ لأن الأساس في سياسات الأمن القومي هو أمن دولة و”عدم أمن الدول الأخرى”. فهل هذا ممكن عملياً أم أنه “يوتوبيا” جميلة؟

الخبير الاستراتيجي كيل لاسكوريتش يقول، إن الأنظمة الدولية كانت دائماً “أنظمة إقصاء”. والمعادلة الثانية هي، “خوف من عدو، ولا إيمان بأصدقاء، هي حجر الأساس لكل نظام”. وأستاذ العلوم السياسية في جامعة “تافتس” مايكل بكلي صاحب كتاب “لماذا ستبقى أميركا القوة العظمى الوحيدة” يطرح سؤالاً مباشراً، “كيف يشكل الخوف من الصين نظاماً عالمياً جديداً؟”. والجواب، يبدأ من “خرافة القول إن الحكم الكوني تمكن هندسته ويسهل فرضه من فوق إلى تحت”. فأقوى الأنظمة لم تكن أنظمة شاملة من أجل الخير العام بل “تحالفات بنتها قوى كبرى لاستخدام التنافس الأمني ضد الأعداء الأساسيين”.

والأمثلة حية في التاريخ. معاهدة وستفاليا عام 1648 التي أنهت حرب الثلاثين سنة في أوروبا وكرست “احترام سيادة الدول” ومنع الغزو، كانت عملياً لـ”تدمير الكنيسة الكاثوليكية والإمبراطورية الرومانية المقدسة”. “كونسرت أوروبا”عام 1815 في مؤتمر فيينا بعد حروب نابليون كان سلاح “الملكيات المحافظة لوقف صعود أنظمة ثورية”. “مؤتمر فرساي” وإعلان عصبة الأمم وحق تقرير المصير بعد الحرب العالمية الأولى، كان الهم الأول وراءها للرئيس وبدرو ويلسون وسواه هو “ضبط ألمانيا والثورة البلشفية في روسيا”. نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة كان لإقصاء الاتحاد السوفياتي وتقسيم العالم إلى اثنين: واحد غني أو يتعافى تقوده أميركا، وآخر فقير يتمركز حول موسكو.

أما نظام ما بعد الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين والاتحاد السوفياتي، فإنه الأحادية الأميركية التي استخدمت الغطرسة في العالم والقوة المفرطة في أفغانستان والعراق، ثم اصطدمت بصعود الصين وروسيا. وأما صعود الصين، في رأي مايكل بكلي، فإنه “فرصة لنظام يدار من خصومها الخائفين من الحرب واستعادة تايوان والسيطرة على بحار الصين الشرقية والجنوبية وصعود الصين إلى موقع القوة المهيمنة في آسيا، وأن تصبح أقوى بلد في العالم”. وهذا عملياً ما يبدو أن الرئيس الصيني رد عليه بمبادرة “الأمن الكلي”. وهو يعرف أن كل ما حدث في العالم من متغيرات وتحولات لم يغير طبيعة الحسابات الجيوسياسية بين الدول، سواء أكانت عدوة أو صديقة. فلا “الحكومة العالمية” التي دعا إليها الفلاسفة كانت سوى حلم عابر. ولا الأمم المتحدة كانت حكومة عالمية، أو لعبت دوراً جدياً في النظام العالمي، أو حتى في الأزمات والحروب التي “تهدد الأمن والسلام الدوليين”، إذا كانت واحدة أو أكثر من الدول الكبرى وراء الأزمات والحروب. أليس مجلس الأمن الدولي مشلولاً تجاه حرب أوكرانيا ومآسيها، في حين تعمل مجالس الأمن القومي في العواصم الكبرى؟ أليس أوضح درس أمامنا في حرب أوكرانيا هو، لا وساطات ناجحة، ولا ضوابط؟ وهل تتوقف الصين عن ممارسة السياسة بين أميركا وروسيا ومعهما على أساس المثل الصيني القائل، “استخدم البرابرة ضد البرابرة”؟

بقلم : رفيق خوري كاتب مقالات رأي
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية وتعبر عن رأي الكاتب