عماد الحطبة

السياسية:

في عام 1955 أسست بريطانيا، بطلب من الولايات المتحدة، حلف المعاهدة المركزية أو ما عرف بـ”حلف بغداد”. ضم الحلف العراق وتركيا وإيران وباكستان. جاء إعلان هذا الحلف بعد زيارة جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأميركي للمنطقة، وشكل اللبنة الأولى في مبدأ أيزنهاور لملء الفراغ الناجم عن تراجع القوى الاستعمارية التقليدية (بريطانيا، فرنسا)، والتصدي لتقدّم الاتحاد السوفياتي الداعم لحركات التحرر الوطني في العالم.

بقي حلف بغداد قائماً من دون فعالية حتى أطلقت الثورة الإيرانية عليه رصاصة الرحمة، وأصبح بالنسبة إلى معظم المؤرخين السياسيين من أكثر الأحلاف، التي أنشأت في زمن الحرب الباردة فشلاً. ويشير التاريخ إلى محاولة ضم سوريا، ومصر، والأردن إلى هذا الحلف، لكن رفض الرئيس جمال عبد الناصر، وخروج الجماهير إلى الشوارع مستنكرة في الأردن وسوريا أدّيا إلى إحباط هذه المحاولات، ويذكر أن حكومة حلف بغداد برئاسة هزّاع المجالي لم تستطع الوقوف في وجه المد الشعبي الأردني أكثر من خمسة أيام (15– 20/9/1955).

منذ عام 2014 والعالم يحث الخطى نحو استعادة أجواء الحرب الباردة، المستهدف هو روسيا والصين عالمياً، ومحور المقاومة، وخصوصاً إيران، إقليمياً. الأنظمة نفسها التي زارها جون فوستر دالاس عام 1953 تسعى نحو الرياض عام 2022، لكنّ المفارقة أن إيران التي كانت حجر الأساس في حلف بغداد أصبحت الدولة المستهدفة في حلف الرياض.

في أجواء الإعداد لزيارة الرئيس بايدن للمملكة السعودية، يجري ولي العهد محمد بن سلمان جولة تشمل ثلاث دول هي: الأردن ومصر وتركيا. من المرجح أن تحمل الزيارة ملفات مختلفة في التفاصيل، لكنها موحدة في الهدف وهو إقناع الدول بالمشاركة، وضمان قيادة السعودية للمنطقة في المرحلة المقبلة.

في الأردن، وبعد طيّ ملف “الفتنة” الذي انتهى بوضع الأمير حمزة في الإقامة الجبرية، والزج برجل السعودية باسم عوض الله في السجن، بقي ملفان، الأول: هو ملف المساعدات الاقتصادية السعودية شبه المتوقفة، وقد أبدت السعودية، أخيراً، مرونة ملحوظة في هذا المجال بالتوقيع المبدئي على اتفاقيات في مجالي الطاقة والسكك الحديد. والملف الثاني: يتعلق بالوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، إذ يرجح أن يقدّم الأردن تنازلات فيه يحتفظ من خلالها بالوصاية على المقدسات المسيحية، في حين تتحول الوصاية على المقدسات الإسلامية إلى وصاية شكلية. وسيجد الأردنّ نفسه مضطراً إلى تقديم كل التنازلات المطلوبة لدخول هذا الحلف، فالسلطة الحاكمة تدرك أنّها غير قادرة على الاستمرار خارج المحور الأميركي– الإسرائيلي سياسياً، والمحور السعودي– الإماراتي اقتصادياً. وكانت الإمارات قد سبق ورعَت اتفاقية ثلاثية مع “إسرائيل” لمقايضة الكهرباء الأردنية بالمياه الفلسطينية المسروقة.

في مصر، يحتلّ الملف الاقتصادي مساحة مهمة من اهتمام المصريين، في المقابل سيطالب الأمير السعودي بمشاركة مصرية فعّالة في الحلف، ولا يريد أن تكون صورية كتلك التي قدمتها فيما سمي “التحالف العربي” ضد اليمن. يمتلك الأمير السعودي مفاتيح مهمة في موضوع المياه، لكون السعودية والإمارات من أهم الشركاء الاقتصاديين لإثيوبيا، لكنّ مصر تدرك أن وجودها هو أحد أهم الضمانات لنجاح هذا الحلف، وأن ثقلها السياسي مع السعودية قادر على معادلة الكفة في مواجهة “إسرائيل” وتركيا.

في تركيا يحمل بن سلمان ملفين، الأول: يتعلق بالعمليات التركية في سوريا، حيث ما زالت السعودية تدعم بعض الفصائل المسلحة، مع أن دعمها تراجع إلى حد كبير. وفي دوامة المواجهة بين حلفاء أميركا (ميليشيات قسد) وحلفاء تركيا، تجد السعودية نفسها أمام خيارين لا ترغب في أي منهما، إما الانسحاب من الملف السوري انسحاباً كاملاً، وإما العودة إلى الانخراط في هذا الملف بصورة واسعة جداً.

أما الملف الثاني فيرتبط بالعلاقات الإيرانية – التركية، فالدفء الذي يسود هذه العلاقة، على الرغم من التباين السياسي الكبير بين البلدين، يتناقض والأهداف المعلنة لحلف الرياض (الأمن الإقليمي في مواجهة إيران). وبالنسبة إلى السياسة الخارجية التركية فإنّ الملفات التي تجمعها بإيران حساسة وحيوية لأمنها الوطني؛ مثل قضية الكرد، والحرب بين أرمينيا وأذربيجان وارتباطها بالاستثمارات في بحر قزوين، والموقف من العملية الروسية في أوكرانيا، وهي لن تضحّي تالياً بكل هذه الملفات في مقابل المشاركة في حلف لن يقدم لها شيئاً. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحمله بن سلمان هو صفقة أميركية تبارك العملية التركية في شمالي سوريا.

تبقى الزيارة التي لم تجرِ، على الأقل علناً، وهي زيارة تل أبيب.

“إسرائيل” التي غابت عن حلف بغداد كدولة، وكقضية صراع عربي– إسرائيلي، حاضرة اليوم في قلب حلف الرياض. وجود “إسرائيل” هو ضمانة التزام أميركا حماية الأنظمة المشاركة في الحلف. وبعيداً من صفقات الأسلحة بأرقام خيالية، تشكل “إسرائيل” المكافئ العسكري لإيران، ضمن تصوّر يؤكد أن مصر وتركيا يستحيل أن تتورطا في مواجهة عسكرية مع إيران. محور المقاومة هو الهدف الإسرائيلي الأهم، لكن إنهاء القضية الفلسطينية يشكل هدفاً مرحلياً ممكن التحقيق من وجهة نظر إسرائيلية. وعقبة وجود سلطة رام الله هي مما يعيد إلى الواجهة أهمية الدور الأردني.

في حال قيام هذا الحلف سنجد أنفسنا أمام منعطف خطر، أولى خطواته تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، وربما لبنان. وهزيمة هذا الحلف لن تكون مهمة سهلة، ليس لغياب الرئيس جمال عبد الناصر والاتحاد السوفياتي فحسب، ولكن لكون محور المقاومة هو المستهدف بالستار الحديدي هذه المرة، ولأن الظرف العام الذي تعيشه المنطقة، في ظل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة والحروب الأهلية، يسدّ الافق أمام ثورات مثل ثورة عبد الكريم قاسم، التي كانت السبب الحقيقي في فشل حلف بغداد.

المسؤولية الملقاة على عاتق المثقفين والوطنيين في الدول المشمولة بالحلف كبيرة جداً. علينا ألا نخشى القمع وأن نتوجّه إلى الشعوب بخطاب توعوي تحريضي يأخذ على عاتقه خلق حال شعبية متصاعدة، تضمن إحباط هذا الحلف على الأرض إذا لم يحبط في أروقة السياسة. الخطوة الأولى، والأهم، تكمن في توجيه الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري إلى المقاومة في فلسطين، فبضع رصاصات في تل أبيب أو حيفا أو عكا كفيلة بانهيار الهيكل فوق رؤوس من شيّدوه.

  • المصدر: الميادين نت
  • المادة الصحفية تم نقلها من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع