حصار كالينينغراد..هل تفصل روسيا دول البلطيق عن بولندا؟
تتشابه المعطيات بين أوكرانيا وكالينينغراد بشأن ما تراه روسيا اعتداءً يستدعي التدخل بكل الوسائل المتاحة.
شارل أبي نادر*
أن يشترك أكثر من موقع روسي مسؤول في الحديث، بتركيز وجدية وحدّة مرتفعة، عن موضوع معين، وفي التوقيت نفسه تقريباً، فهو شأن مهم يستحق التوقف عنده ملياً، وخصوصاً في ظل ما تعيشه روسيا اليوم من استنفار غير مسبوق، عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً واقتصادياً، على خلفية الحرب في أوكرانيا وامتداداتها الواسعة على الصعيد الدولي، الأمر الذي حدث مؤخراً وفي الساعات الأخيرة، على خلفية اتخاذ ليتوانيا قراراً يقضي بمنع عبور عدد من السلع الخاضعة لعقوبات الاتحاد الأوروبي من الأراضي الروسية إلى مقاطعة كالينينغراد؛ الجيب الروسي الواقع على بحر البلطيق، والذي تصل إليه السلع الروسية بواسطة السكك الحديدية عبر بيلاروسيا، وتحديداً عبر المعبر المعروف باسم “سوالكي”، وهو تقريباً يشكّل الخط الحدودي بين ليتوانيا وبولندا، وطوله نحو 104 كلم، ويربط بيلاروسيا بكالينينغراد.
أولاً: أعلن المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، أنّ “قرار ليتوانيا وقف عبور البضائع عبر مقاطعة كالينينغراد أمرٌ غير مسبوق، ويمثّل انتهاكاً لكل شيء، ونحن نتفهم أنّ هذا الأمر مرتبط بقرار مماثل للاتحاد الأوروبي بشأن إدراج النقل ضمن العقوبات، لكننا نعدّه غير قانوني، ويخلق وضعاً خطيراً جداً، ويتطلّب تحليلاً عميقاً جداً قبل صياغة أيّ إجراءات أو قرارات. وسنُجري تحليلاً معمّقاً خلال الأيام القليلة المُقبلة”.
ثانياً: قال رئيس لجنة حماية سيادة الدولة في مجلس الاتحاد الروسي، أندريه كليموف، إن حلف الناتو يبدأ حصاراً لأحد الكيانات الروسية، بيدَي ليتوانيا، و”هو ما يُعَدّ عدواناً مباشِراً على روسيا، يُجبرها على اللجوء إلى الدفاع عن النفس. وإذا لم يقم الاتحاد الأوروبي حالاً بتصحيح الإجراء الوقح الذي قامت به فيلنيوس (عاصمة ليتوانيا)، فإنه بذلك يتبرّأ لنا من شرعية جميع وثائق عضوية ليتوانيا في الاتحاد الأوروبي، ويُطلق أيدينا لاتخاذ قرار بشأن المشكلة التي تسبّبت بها ليتوانيا عبر فرضها حصار النقل على كالينينغراد، وَفْقَ أي وسيلة نختارها نحن”.
ثالثاً: أعلنت وزارة الخارجية الروسية استدعاء القائمة بأعمال ليتوانيا في موسكو، فيرجينيا أومبراسيني، وتم تسليمها احتجاجاً شديد اللهجة، على خلفية فرض بلادها حظراً على عبور عدد من البضائع إلى مقاطعة كالينينغراد من دون إشعار الجانب الروسي. وأشار بيان وزارة الخارجية إلى أنّ روسيا “تعدّ الإجراءات الاستفزازية للجانب الليتواني، والتي تنتهك الالتزامات القانونية الدولية لليتوانيا، وفي مقدمتها البيان المشترك بين روسيا والاتحاد الأوروبي بشأن العبور بين منطقة كالينينغراد وسائر الأراضي الروسية، والمعلَن عام 2002، إجراءاتٍ معاديةً”.
حساسية الموضوع اليوم بشان حصار كالينينغراد من جانب ليتوانيا، أن الوقائع التي أحاطت به، والتصريحات التي تناولته، وخصوصاً من المسؤولين الروس والمواقع الروسية المذكورة، تعيدنا بالذاكرة قليلاً إلى ما سبق مباشرة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بحيث إن المعطيات تتشابه تقريباً بشأن ما تراه روسيا اعتداءً يستدعي التدخل بكل الوسائل المتاحة. إن روسيا تجد حصار كالينينغراد – كجَيب روسي على البلطيق – اعتداءً كامل الأوصاف على سيادتها مباشرة، يتخطّى كثيراً ناحية اختراق سيادتها، أو ناحية اختراق القانون الدولي، الأمر الذي عدّته استهدافاً لها ولمصالحها، حين وضعت حماية مواطني جمهوريتي الدونباس (لوغانسك ودونيتسك)، مبرّراً رئيساً من ضمن المبررات الأخرى، لقيامها بتنفيذ عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، متجاوزة بذلك كثيراً من التقييدات والتعقيدات والصعوبات الدولية.
كل هذه الوقائع والمعطيات، اليوم، تجعلنا نستنتج، بقوة، أن روسيا ليست بعيدة عن تنفيذ كل ما يلزم من إجراءات، لمنع حصار مقاطعتها الواقعة على البلطيق (كالينينغراد)، مهما كلَّف الأمر. فكيف يمكن أن تكون هذه الإجراءآت الروسية؟
العمل العسكري قد تكون له الأفضلية الأولى ضمن هذه الإجراءات. أولاً؛ مقارنة مع معطيات عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وثانياً؛ نظراً إلى ما يقدّمه إليها هذا الخيار من نقاط إيجابية في كل الأصعدة العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية. وهي تحتاج إليها اليوم وبقوة، فهل تذهب نحو هذا الخيار العسكري؟ وكيف يمكن أن تنفّذه عملانياً وميدانياً؟ وما هي صعوباته وتداعياته؟
من الناحية العسكرية، وكي تقوم بكسر الحصار عن كالينينغراد، على روسيا أن تسيطر عسكرياً على المعبر الحدودي البري بين كل من بولندا وليتوانيا وكالينينغراد وبيلاروسيا، بحيث تحتاج إلى موافقة الأخيرة أيضاً، وبيلاروسيا أعربت، في أكثر من مرة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وعبر رئيسها لوكاشينكو، عن استعدادها لاتخاذ كل الإجراءات التي تمنع محاصرة روسيا أو استهدافها. وستكون طبعاً موافقتها على استخدام أراضيها من جانب وحدات روسية، من ضمن هذه الإجراءات وهذا الاستعداد. واستطراداً، لو رأت بيلاروسيا أن هذا الأمر يشكّل مشكلة لها حالياً، مع الاتحاد الأوروبي ومع الناتو، فإن للوحدات الخاصة الروسية القدرة على تنفيذ سلسلة مترابطة من الأعمال العسكرية الخاطفة، والسيطرة على الممر المذكور، عبر وحداتها المجوقلة، أو انطلاقاً من أراضي كالينينغراد.
طبعاً، من ناحية قدرة ليتوانيا على منع الوحدات الروسية من تنفيذ هذه العملية، فهي عملياً غير قادرة على ذلك. وتبقى صعوبة ذلك فقط في ردة فعل الناتو، بحيث إن ليتوانيا عضو في الحلف المذكور، ويصبح تدخل الأخير عسكرياً مغطّى بالمادة الخامسة، التي تحتّم على دول الحلف مساعدة كل دولة تتعرض لاعتداء، الأمر الذي سوف يخلق مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا.
من الناحية القانونية، التي سوف تستند إليها موسكو لتنفيذ العملية، فلقد أشار رئيس مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي، قسطنطين كوساتشيوف، إلى أن ليتوانيا تنتهك عدداً من القوانين الدولية في حصارها مقاطعة كالينينغراد الروسية، وهذه الخطوة تمسّ التزامات الاتحاد الأوروبي ككل، مشيراً إلى أن “اتفاقية الشراكة والتعاون” بين روسيا والاتحاد الأوروبي، في 24 حزيران/يونيو 1994 لم تُلغَ، وأن حرية العبور تقضي بمنع محاصرة كالينينغراد بهذه الطريقة العدائية، بالإضافة إلى أن ليتوانيا تنتهك أحد المبادئ الأساسية لمنظمة التجارة العالمية.
انطلاقاً من كل هذه المعطيات الجغرافية والعسكرية والقانونية، وبحيث إن روسيا، عبر تنفيذها هذه العملية، تخلق رابطاً برياً حيوياً، في كل النواحي، بينها وبين مقاطعتها كالينينغراد على البلطيق، عبر حليفتها الوحيدة في تلك المنطقة، بيلاروسيا، وبحيث إنها، في هذه العملية أيضاً، سوف تعزل دول البلطيق الثلاث شمالاً، والتابعة أيضاً للناتو (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) عن دول الناتو الأخرى في شرقي أوروبا بولندا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر إضافة إلى ألمانيا، مع ما يعنيه ذلك اليوم لها من أهمية استراتيجية، في ظل هذا الاشتباك الشرس بينها وبين الناتو، وخصوصاً في البلطيق، وفي اتجاه فنلندا والسويد.. وبحيث تعدّ روسيا أيضاً أن قرار ليتوانيا هو أبعد من أن يكون خاصاً بها، بل هو قرار نابع من الناتو، وربما من واشنطن تحديداً، وهو قرار يمثّل تحدياً كبيراً لها، قد ترى أنه ليس في مصلحتها التنازل أو التراجع أمامه اليوم. لذلك:
إذا لم تسارع ليتوانيا، بموافقة أطلسية طبعاً، إلى التراجع عن قرار محاصرة كالينينغراد، فلم يعد مستبعَداً بتاتاً قيامُ روسيا بعمل عسكري، والسيطرة على ممر بري يربط بيلاروسيا بكالينيغراد، عند الحدود بين ليتوانيا وبولندا، على نحو يكون كله داخل أراضي ليتوانيا، من أجل تلافي الاشتباك مع الناتو مباشرة، بحيث إن الاعتداء، من خلال محاصرة كالينينغراد، هو عمل ليتواني فقط، ويكون الإجراء الروسي ضمن الرد على اعتداء مباشر استهدفها من جانب ليتوانيا.
* المصدر :الميادين نت