السياسية:

في مشهد مقلق بالنسبة لأمريكا، وصل عدد من القادة اليساريين للسلطة في عدد كبير من دول أمريكا الجنوبية والوسطى خلال الفترة الماضية، حيث يخشى الأمريكيون أن يؤدي صعود اليسار في أمريكا اللاتينية إلى تراجع نفوذهم بالمنطقة التي كان يعتبرونها حديقتهم الخلفية، وأن تستفيد الصين من هذا الصعود.

فمنذ عام 2018، فاز مرشحو يسار الوسط بالانتخابات الرئاسية في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي والمكسيك وبيرو، وأخيراً كولومبيا التي فاز بانتخاباتها التي جرت في شهر مايو/أيار الماضي، لأول مرة، رئيس يساري، كان متمرداً سابقاً، وحقق فوزَه بفضل الناخبين المحبطين من عقود الفقر وعدم المساواة في ظل الزعماء المحافظين الموالين لأمريكا.

وتتجلى موجة صعود اليسار بأمريكا اللاتينية في أكثر صورها إثارة لقلق واشنطن في وجود رئيس يساري في السلطة في المكسيك جار الولايات المتحدة وبوابتها الخلفية التي لطالما كانت خاضعة لنفوذها بشكل كبير.

كما يتولى حكام يساريون يصفهم الغرب بالمستبدين السلطة في كوبا وفنزويلا ونيكارغوا منذ سنوات.

ويطلق على صعود اليسار في أمريكا اللاتينية “المد الوردي”، الذي يبدو أنه مرشح للتوسع، حيث يتقدم المرشح اليساري المحتمل لويز إيناسيو على الرئيس لولا دا سيلفا في البرازيل، أكبر دولة بالمنطقة من حيث عدد السكان، في استطلاعات الرأي قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في أكتوبر/تشرين الأول 2022، الأمر الذي قد يعزز تحوُّل أمريكا اللاتينية إلى اليسار.

وأظهر استطلاع في مايو/أيار الماضي أن لولا أو أي مرشح يساري محتمل آخر سيفوز في انتخابات الإعادة العام المقبل ضد بولسونارو، الذي تعرض لانتقادات على نطاق واسع بسبب تعامله مع جائحة COVID-19 الذي أودى بحياة نحو 500 ألف برازيلي.

سر صعود اليسار في أمريكا اللاتينية
ليست هذه أول موجة صعود لليسار في أمريكا اللاتينية، فلقد بدأ صعود اليسار بأمريكا اللاتينية مع ما يسمى “المد الوردي” للقادة الاشتراكيين في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

حيث وصل هوغو شافيز، الرئيس الفنزويلي الراحل، إلى السلطة في نهاية القرن العشرين، وخلفه الآن هو الرئيس نيكولاس مادورو موروس الذي يحكم بلداً محاصراً من قِبل أمريكا، ويعاني من تضخم أسطوري رغم أنه يملك أكبر ثورة نفطية في العالم، وسط ادعاءات أمريكية بأنه رئيس غير شرعي.

تبع وصولَ شافيز للسلطة انتخابُ إيفو موراليس رئيساً لبوليفيا (الذي تولى حليفه السلطة عام 2020)، وهناك رئيس نيكاراغوا، دانييل أورتيغا الذي عاد للسلطة. وبطبيعة الحال هناك المخضرم راؤول كاسترو الذي ورث السلطة في كوبا من أخيه فيديل ولكنه تقاعد عام 2018 ولكن النظام لم يتغير كثيراً، وكان هناك أيضاً الرئيس السابق لولا دا سيلفا في البرازيل، ورافائيل كوريا من الإكوادور.

مع انحسار طفرة أسعار السلع التي ساعدت في تمويل البرامج الاجتماعية التي دافعوا عنها، هدأت موجة صعود اليسار في أمريكا اللاتينية، وعاد اليمين إلى السلطة مع شخصيات مثل بولسونارو في البرازيل، وإيفان دوكي في كولومبيا، وموريسيو ماكري بالأرجنتين، وسيباستيان بينيرا من تشيلي.

هل هي ثورة ضد الليبرالية الأمريكية؟
والآن، قد ينذر صعود اليسار في أمريكا اللاتينية بهزيمة القوى المحافظة التي تسيطر على المنطقة تقليدياً، حيث يؤدي الفقر المدقع الناجم عن جائحة فيروس كورونا إلى ميل الناخبين تجاه أولئك الذين يعِدون بحكومة أكبر وإنفاق اجتماعي أعلى، حسبما ورد في تقرير لوكالة Reuters.

ويمكن لتحول جديد نحو اليسار في أمريكا اللاتينية أن يؤثر على توازن الدبلوماسية مع الولايات المتحدة والصين، كما يمكن أن يؤدي إلى مزيد من تدخل الدولة في الاقتصاد، وفرض ضرائب مرتفعة أيضاً على الاستثمار في المنطقة الغنية بالموارد الزراعية وبالمعادن، حيث إن أمريكا الجنوبية مورِّد عالمي رئيسي للسلع والمواد الخام من النحاس إلى الذُّرة.

في بيرو، كان فوز كاستيلو- وهو مُعلِّم مدرسة ريفية ليست لديه خبرة سياسية رسمية- في يونيو/حزيران الماضي، بسبب الغضب من النخبة السياسية، وتزايد الفقر وشعور الناخبين الريفيين بأنهم مستبعدون من ثمار الموارد المعدنية للدولة المشهورة بضخامة الثروات الطبيعية.

وانتقد كاستيلو، الذي يمزج بين القيم المحافظة والأفكار الاشتراكية، شركات التعدين بسبب “النهب”، وتعهد بزيادة الضرائب لدفع تكاليف رعاية صحية وتعليم أفضل. ولقد هز نجاحه نخبة ليما والأسواق المالية في بيرو.

وصرح كاستيلو لمؤيديه بعد أن أظهر إحصاء الانتخابات له بهامش فوز ضعيف: “اليوم تبدأ المعركة الحقيقية لإنهاء عدم المساواة الهائل. لن نكون شعباً مضطهداً أبداً بعد الآن… فلنقف دائماً على أقدامنا ولا نركع على ركبنا أبداً!”.

وغرد الرئيس البوليفي السابق إيفو موراليس، الذي يرأس الحزب الاشتراكي MAS الحاكم في بوليفيا ولا يزال شخصية قوية وراء الكواليس: “في بيرو وتشيلي وكولومبيا، البلدان التي ترعاها إمبراطورية أمريكا الشمالية كنموذج للرأسمالية، نرى ثورات ضد الليبرالية الجديدة”.

صعود اليسار في أمريكا اللاتينية

وقال إن الطلاب والحركات الاشتراكية والعمال يضغطون من أجل “تغييرات هيكلية”.

وكان الرئيس البوليفي السابق إيفو موراليس قد عاد للبلاد عام 2020، وتولى قيادة حزب “الحركة نحو الاشتراكية” اليساري الحاكم في البلاد بعد انتخاب رئيس يساري حليف له، وقد تم اعتقال الرئيسة المؤقتة السابقة للبلاد، جانين آنيز، التي اتهمها ممثلو الادعاء بالتورط في انقلاب على موراليس، في عام 2019، بينما تقول إنها ضحية ثأر سياسي من جانب حزب “الحركة نحو الاشتراكية”.

واستُقبل صعود اليسار في أمريكا اللاتينية بشكل متناقض في الغرب، حيث يبدو أن المحافظين الأمريكيين وصناع القرار قلقون من احتمال اقتراب اليسار للصين والابتعاد عن واشنطن، ويحذّرون من السياسات الشعوبية، بينما قوبل هذا الصعود بالترحيب من قِبل بعض الليبراليين، الذين يرون أن هذا الجيل من اليسار مختلف عن نظام حكم آل كاسترو في كوبا وشافيز في فنزويلا.

هل هو تحول عميق نحو اليسار أم مجرد تغييرات انتخابية؟
فهناك قليل من الأدلة في المنطقة على تحول أيديولوجي عميق الجذور أو دائم في أمريكا اللاتينية.

ولكن يرى البعض أن موجة صعود اليسار في أمريكا اللاتينية الحالية سببها أن المشاعر المعادية لشاغلي المناصب أصبحت قوية، والناخبون المستاءون من الخسائر الصحية والاقتصادية للوباء يطيحون عبر صناديق الاقتراع بكل من يشغل القصر الرئاسي سواء كان يسارياً أو يمينياً، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.

وتعزز المجلة رأيها هذا بالإشارة إلى أنه في العام الماضي، على سبيل المثال، انتخب الإكوادوريون المحبطون رئيساً هو رجل أعمال محافظ، وكان أداء الأحزاب الحاكمة ذات الميول اليسارية في الأرجنتين والمكسيك سيئاً بالانتخابات التشريعية.

ثانياً، العديد من اليساريين الذين يركبون هذا التسونامي من الوسطيين البراغماتيين الذين يستاءون من الخطاب القديم المناهض للإمبريالية والذي يحرق الجسور بين الولايات المتحدة وجيرانها، حسب المجلة الأمريكية.

وقام الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، اليساري الأكثر نفوذاً في المنطقة، برحلتين إلى الخارج كرئيس، كلتاهما إلى الولايات المتحدة. في الأرجنتين، يشير حلفاء الرئيس ألبرتو فرنانديز بحرارة إلى رئيس الولايات المتحدة باسم “خوان دومينغو بايدن” على اسم مؤسس البيرونية (حركة سياسية مشهور بالبلاد)، الرئيس خوان دومينغو بيرون.

بعضهم أقرب لنموذج شافيز وآخرون على خطى دا سيلفا
ولكن الصورة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه، فلقد كان أداء اليسار جيداً بشكل أساسي، لأن الناخبين رفضوا الحكومات ذات الميول اليمينية، والتي كان عليها التعامل مع الركود الاقتصادي ثم الوباء.

تُظهر الدراسات الاستقصائية على مستوى المنطقة أن الناخبين يميلون إلى الوسط، لكنهم يريدون خدمات عامة أفضل ويعتقدون أن بلادهم تُحكم لصالح قلة مميزة، ويمكن أن يساعد صعود اليسار في أمريكا اللاتينية على التقليل من ظاهرتي الفوارق الطبقية والفساد اللتين تمثل أكبر مشاكل المنطقة الغنية بمواردها.

وأدى انتصار الرئيسين اليساريين غابرييل بوريك في تشيلي، وبيدرو كاستيلو في بيرو، إلى مقارنات مع المد الوردي السابق. بدأ ذلك بانتخاب هوغو شافيز في فنزويلا عام 1998.

ولكن الواقع أن هناك اختلافات صارخة بين الديمقراطيين الاجتماعيين التقدميين- وضمن ذلك أولئك الذين يركزون في المدرسة القديمة على الطبقة الاجتماعية وغيرهم ممن يؤكدون المساواة بين الجنسين والطاقة المتجددة- واليساريين السلطويين في كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا، الذين يتبنون الخطاب الماركسي، حسب المجلة.

فهناك تيارين لليسار في أمريكا الجنوبية، حسب خورخي كاستانييدا، وزير خارجية المكسيك الأسبق.

الأول الذي مثَّله لولا دا سيلفا وحزب العمال بالبرازيل، والجبهة العريضة في أوروغواي وتحالف يسار الوسط في تشيلي، وهذا التيار كان “حديثاً ومنفتحاً وإصلاحياً وديقراطياً وذا توجه عالمي”.

أما الآخر، حسب كاستانييدا، فكان “قومياً ومتشدداً ومنغلق الأفق” وجاء من تقاليد الشعبوية في أمريكا اللاتينية. وشمل هذا اليسار شافيز في فنزويلا، وموراليس رئيس بوليفيا السابق، وعائلة الرئيس السابق في الأرجنتين كيرشنر، ولاحقاً كوريا في الإكوادور، وجميعهم أمَّموا الأعمال التجارية ودخلوا في مواجهة مع الولايات المتحدة بدرجات متفاوتة.

في بعض النواحي، لا يزال هذا التمييز قائماً حتى اليوم، حيث يقول كاستانيدا: “لا أرى محوراً يسارياً متجانساً من المكسيك إلى تشيلي”، فهناك اختلافات بين التيارين أكثر مما كانت عليه في الماضي.

ويمثل رئيس تشيلي، غابرييل بوريك، نموذجاً جديدأ بين قادة اليسار في أمريكا اللاتينية.

فعلى الرغم من أنه، مثل كل اليساريين، قلِق بشأن عدم المساواة الاقتصادية ويتطلع إلى دور الدولة للحد من الفوارق الطبقية، فإنه جلب إلى رئاسة تشيلي مخاوف جيله.

بالنسبة إلى بوريك، فإن “القضايا الوجودية” هي “تغير المناخ، وعدم المساواة بين الجنسين، والاعتراف بمجتمعات السكان الأصليين”، كما يقول روبرت فانك، عالم السياسة، حيث ذكر برنامج بوريك الانتخابي كلمة “الجنس” 94 مرة و”النمو الاقتصادي” تسع مرات فقط.

عكس شافيز والسيدة فرنانديز دي كيرشنر، نائب رئيس الأرجنتين الآن (زوجة الرئيس اليساري السابق)، فبوريك صانع توافُق وليس قاذف اللهب. ويستخدم بوريك وسائل التواصل الاجتماعي لإقامة علاقة مع مؤيديه بدلاً من إثارة استفزازهم. ينشر الشعر، ولديه 389 ألف متابع على Instagram.

ماذا عن موقفهم من الأزمة الأوكرانية؟
وفي حين يدافع اليساريون القدامى عن الديكتاتوريين لمجرد أنهم يعارضون الإمبريالية الأمريكية، فإن الرئيس التشيلي المنتخب من أشد المتحمسين للديمقراطية، وأدان غزو أوكرانيا وانتقد انتهاكات حقوق الإنسان من قِبل الديكتاتوريات اليسارية الثلاث في أمريكا اللاتينية: كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا.

لكن رئيس بيرو يبدو مُربكاً للمراقبين الغربيين تحديداً، فحتى وقت قريب، كان من المعجبين بشافيز، لكنه الآن يوبخ خليفته، نيكولاس مادورو، خاصة لاعتماده على الوقود الأحفوري، ويتهم دنيال أورتيجا الثائر اليساري الذي يحكم نيكارغوا، بتحويل حلم التحرير إلى “ديكتاتورية الموز”.

هذا لا يمنع أن العديد من اليساريين المنتخبين يدافعون عن المستبدين طالما أنهم معادون لأمريكا، حسب مجلة Economist البريطانية.

وبينما كانت حكومتا الأرجنتين وبيرو من بين الحكومات الـ94 التي تبنت قراراً في الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، زار رئيس الأرجنتين، فلاديمير بوتين في موسكو الشهر الماضي، عارضاً أن يكون “نقطة دخول” لروسيا في أمريكا اللاتينية.

وحاولت حكومة المكسيك إمساك العصا من المنتصف: فقد شجب مارسيلو إبرارد، وزير خارجية البلاد، الغزو الروسي.

لكن أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، الرئيس الشعبوي، المعروف غالباً باسم أملو، قال بلطفٍ إنه يريد الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع البلدان، وانتقد فرض “الرقابة” على وسائل الإعلام الحكومية الروسية من قِبل الشبكات الاجتماعية في الغرب. وأشاد بكوبا ووصفها بأنها “نموذج للمقاومة”، لكنه انتقد القمع في نيكاراغوا.

بعض قادة المد الوردي الأخير كانوا هم أنفسهم ديكتاتوريين سابقين. فلقد حذا الرئيس السابق موراليس في بوليفيا والرئيس كوريا في الإكوادور حذو شافيز في استخدام الدساتير الجديدة للسيطرة على السلطة القضائية والمؤسسات المستقلة الأخرى.

ويميل بعض الرؤساء اليساريين الجدد في أمريكا اللاتينية إلى القضاء على الفصل بين السلطات. أعطى الرئيس المكسيكي اليساري، أندريس مانويل أوبرادور، مزيداً من الواجبات للجيش الذي يسيطر عليه، وعيَّن أصدقاءه في هيئات تنظيمية، وخفض ميزانية السلطة الانتخابية المستقلة.

لكنه لا يزال مقيداً من قِبل القضاء المكسيكي، وتقلصت أغلبيته البرلمانية في انتخابات التجديد النصفي، العام الماضي، حسبما ورد في تقرير مجلة Economist.

ولذا يبدو من الصعب تقديم وصف موجز لموجة صعود اليسار في أمريكا اللاتينية، فالأمر متوقف على قدرة كل قائد على تحقيق العدالة الاجتماعية دون شعوبية، والاستقلال عن النفوذ الأمريكي دون الترويج للديكتاتوريات حتى لو كانت معادية لها، والقضاء على الفساد، دون التضحية بالكفاءة الاقتصادية.

كما سيكون على قادة المنطقة إدارة علاقتهم بالصين بطريقة لا تؤدي إلى أزمة مع أمريكا، خاصةً أن تجربة فنزويلا تثبت أن بكين ليست الحليف الذي يوفر الحماية لأصدقائه، إذ تركت بكين كاراكاس فريسة للحصار الأمريكي دون أن تنقذها، كما أن تجربتها مع الإيغور تؤشر إلى أنها قد تصبح أسوأ من الإمبريالية الأمريكية.

في المقابل، فإن إصرار الولايات المتحدة على عرقلة التجربة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية لأنها جاءت بقوى معارضة لها، لن يؤدي إلا لتعميق العداء لواشنطن في المنطقة، وسيكون خسارة لها على المدى البعيد، حتى لو قلمت أظافر الموجة الحالية المناهضة لها.

فالعداء المتأصل لواشنطن في أمريكا اللاتينية هو رصيد دائم للصين، سوف تستغله حين ترى أنها بحاجة إليه.

المصدر: عربي بوست