السياسية:

مواقف الغرب القائمة على التفوّق العسكري، ظلت ثابتة نحو 500 عام، ومثّلت أساس رفاهيته، ما سمح له بنهب العالم بأسره بشكل مباشر أو خفي.

عشيّة الاحتفال بيوم روسيا، كثرت الأحاديث حول الأشياء التي يمكن لروسيا أن تفتخر بها، وما الذي نجحت فيه، وماذا الذي يعبّر عن هذا النجاح؟ هل هو توسّع رقعتها الجغرافية، أم اعتماد بعض الصواريخ ذات السرعة الفائقة والقدرة التدميرية الهائلة، أم الحدّ من الفقر مثلاً؟ ما الذي نفخر به حقاً؟

أودّ أن أقترح أن نكون فخورين بأننا نجَونا مرة أخرى. نجَونا من الاضطرابات التي فُرضت علينا جزئياً من الخارج، وقد بدأنا نولد من جديد. لقد أصبحنا أقوى، وعدنا إلى صفوف القوى العظمى. وروسيا لا يسعها إلا أن تكون من بين القوى العظمى، فمن دون ذلك لا تستطيع ببساطة أن تشعر بأنها دولة، لأن ذلك هو طبيعة تاريخها.

على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية، ومع نموّ الهستيريا المعادية لروسيا والصين، كان الغرب يتوطّد فعلاً. لكنه يفعل ذلك على وجه التحديد لأنه يدرك أن مواقفه تتداعى. هذه المواقف، القائمة على التفوّق العسكري، ظلت ثابتة نحو 500 عام، ومثّلت أساس رفاهيته، ما سمح له بنهب العالم بأسره – بشكل مباشر أو خفي.

أما اليوم، فلم يعد هناك تفوق عسكري، كما أن الواقع كشف أن القيم السائدة في الغرب هي مناهضة لأوروبا نفسها ومعادية للإنسان، ويرفضها معظم الناس في العالم – كالمثلية، والنسوية المتطرفة، وإنكار الأسرة والتاريخ والوطن.

وفي الغرب، وإن لم يقتصر الأمر عليه، يوجد الكثير من المشاكل الآخذة في الازدياد، ولكن سوى الضجيج الدائر حولها، لم يتم في الواقع حلها، كالتلوث والمشاكل البيئية (جميع الخبراء يؤكدون منذ سنوات عديدة أن تغيّر المناخ، وتقلّص الأراضي الصالحة للزراعة، وضحالة الأنهار في المناطق الزراعية، ستؤدي إلى المجاعة – لكن لم يتم فعل شيء). وهذا إضافة إلى إفقار الطبقة الوسطى، وتنامي التفاوت الطبقي بشكل صارخ (هذا الأخير ينطبق أيضاً على بلدنا).

إن النخب القديمة التي نشأت على الازدهار النسبي، خلال العقود الأربعة الماضية، لا تريد التغيير ولا تستطيع ذلك. لقد بدأت الأرض تنهار تحت أقدامهم، وهذا أحد أسباب المواجهة اليوم: إنهم بحاجة إلى عدو يمكنهم تحويل انتباههم إليه، ولبعض الوقت، لتجنّب المسؤولية عن الفشل.

إلى جانب ذلك، قد يبدو غريباً بالنسبة إلى البعض أن روسيا يمكن أن تعتبر نفسها، إلى جانب الصين – وجزئياً الهند- جزيرة استقرار في عالم يتساقط، بينما بدأ الغرب والعديد من المناطق الأخرى بالانهيار.

فعلًا، إن العالم من حولنا ينهار، وقريباً سيكون هناك مئات الملايين من الجياع والمهاجرين والعديد من النزاعات الجديدة، ومن الأفضل لنا أن نعيش لبعض الوقت في “قلعة روسيا”، المحميّة بشكل موثوق، والتي تعتني بنفسها بالدرجة الأولى، ولكن في الوقت نفسه، منفتحة على التعاون مع أولئك المستعدين لذلك. ينبغي، بأي حال من الأحوال، أن لا نعزل أنفسنا عن العالم فكرياً أو علمياً، وإلا فإننا سنتوقف عن فهمه، كما كانت عليه الحال في العهد السوفياتي.

نحن بحاجة إلى إقامة علاقات مع جميع الدول المستعدة للتعاون معنا، كأفريقيا والعالم العربي، وتقريباً كل آسيا وأميركا اللاتينية.

أما بخصوص الموقف الصيني، فأنا متأكد تماماً من أن بكين ستساعدنا. بطبيعة الحال، هم يحاولون عدم تقويض موقف شركاتهم، التي لا تزال تعتمد بشكل وثيق على الأسواق والتقنيات الغربية. ومن نواحٍ كثيرة، يُنفَّذ هجوم الغرب على روسيا لشطبها كحليف استراتيجي محتمل للصين. وإذا تعثرت روسيا، فإن الموقف الصيني سيضعف بشكل كبير، وهم يفهمون هذا جيداً.

ومن المهم أيضاً التخلّي عن الصور النمطية التي أسرَتنا لعقود. لقد أكلنا العصيدة الفكرية التي طُبخت في الغرب، والتي أصبحت فاسدة منذ زمن طويل، لكننا ما زلنا نمضغها. وهذا ما يحدث في العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلاقات الدولية.

لنأخذ هنا على سبيل المثال فكرة التكافؤ العسكري السيّئة السمعة. هذا غباء! لقد أعاق 300 من المقاتلين الاسبارطيين الجيش الفارسي المؤلف من 100 ألف مقاتل في تيرموبيلاي. كما حطم نابليون على الدوام (باستثناء حملته المؤسفة ضد روسيا) الجيوش الأوروبية، التي كان لها تفوّق عددي عليه.

أما نحن فاستوعبنا مفهوم التكافؤ في الحقبة السوفياتية، وقمنا ببناء كمية مجنونة من الصواريخ والدبابات والأسلحة الأخرى – كان لدى الاتحاد السوفياتي دبابات أكثر من بقية العالم! وما زال البعض متمسكاً بهذه الفكرة.

وعلى الرغم من ذلك، لماذا نحتاج إلى الكثير من الصواريخ مثل الأميركيين؟ فإذا افترضنا أن لديهم 5 آلاف صاروخ، ولدينا ألف فقط، وهو أمر مضمون لتحقيق أهدافهم، فإن التهديد حتى باستخدامهم المحدود لها سيبدو مقنعاً ويمنع العدوان والصراع العالمي. لكن قد يكون لدينا المزيد من الأسلحة الأخرى. الشيء الرئيسي هو عدم التورط في سباق تسلح، ولا سيما أن تبنّي مفهوم التوازن العسكري، والحدّ من التسلح أدّى إلى تضخيمهما إلى حدّ كبير.

إن عودة روسيا إلى الوقوف على قدميها، بعد أن تحولت من دون إرادتها إلى بطلة العالم في العقوبات الاقتصادية، ستعتمد على مدى سرعة انتقالها إلى طريق التعبئة في مجال التنمية. حتى الآن هذا يحدث ببطء شديد. أنا لا أتحدّث عن “شيوعية الحرب”. فبالطبع، يجب أن يظل الاقتصاد مختلطاً، مع الملكية الخاصة المتطورة. لكن الصناعات الرئيسية يجب أن تتعامل معها الدولة بشكل مباشر.

نقله إلى العربية: فهيم الصوراني

المؤلف: سيرغي كاراغانوف – المشرف الأكاديمي لكلية الاقتصاد العالمي والشؤون الدولية في الجامعة الوطنية للبحوث.

المادة الصحفي نقلت من موقع الميادين نت وتعبر عن راي الكاتب