أنت لمن؟
السياسية:
يتحول المشهد السياسي، كغيره من العروض التي تقدم للجماهير، إلى جدل متواصل، حول أولوية الهوية على المصالح، أو إلى درس دائم للجميع، مفاده أن الهوية هي المحك، وليست المصالح، فلا يهم ماذا تفعل، بل من تكون.
في أوّل الشباب تمرّدتُ، ككل الشباب، على أي شيء، وحتى على لا شيء، وقد تم تناقل كلمة وقتها، نُسبت إلى الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، قال فيها ما معناه: إذا كنت شاباً ولست ماركسياً فأنت لست شاباً، ولو كنت كهلاً ماركسياً فأنت أحمق، وانتشر ذلك في إطار السخرية والتهكم من اليسار، ما كان عندئذٍ في العالم، أكثر فاعليةً ونشاطاً وحيويةً.
أما من جهتي، ففي مراهقتي، عملت على كتابة اسمى دون لقب، أي هكذا “أحمد محمد عبد السلام”، وعدم ذكر الفيتوري، ما كان يشير إلى القبيلة، وعند ذاك كان اللقب عندي رجعياً، وحتى مقيتاً، لكن المفارقة أنني منذ الصبا، وبين أقراني، وغيرهم، عُرفت بالفيتوري، فكان إن جاء أحدهم إلى بيتنا باحثاً عنّي، وسُئل ماذا يريد، يجيب بعفوية وبلاهة: أريد الفيتوري، طبعاً كان إخوتي وبقية أهلي يضحكون منه، وعليه، حيث يخرج أحدهم قائلاً: نعم، تفضل، أنا الفيتوري، ماذا تريد؟ ويكون الأبله لم يفطن أن لقب كل إخوتي الفيتوري! وهكذا، حملت غصباً، وبمحبة من الآخرين، اللقب، ما كرهت كاسمى حتى الساعة.
من هذه الذاكرة، فإن ما لفت نظري، خلال العدوان الروسي على أوكرانيا، تركيز القيصر بوتين وإعلامه، على أن مبرر معركته الخاطفة، ما يغوص في أوحالها، مسألة الهوية، مما جعله يخوض في يَمِّ التناقضات: فمن جهة أوكرانيا روسية، ومن جهة أخرى هناك روس في أوكرانيا مضطهدون، ومن غيرها أنه ينبري للدفاع عن الهوية الروسية، الممثلة في اللغة الروسية، وأنه كما بطرس الأكبر، المتعهد الأكبر ببناء وتشييد روسيا الكبرى والحديثة. وروسيا الكبرى سلافية، وعليه لا بد أن توحد السلاف تحت جناحيها، باعتبارها الأم والأصل.
وعِلّة ذلك كما يوضح كسينجر، في مقالة له: “بدأ التاريخ الروسي بكيان يعرف باسم كييفان روس، ثم انتشرت الديانة الروسية من ذلك المكان، وكانت أوكرانيا جزءاً من روسيا طوال قرون، وبدا تاريخهما متداخلاً قبل تلك الحقبة. حصل عدد من أهم المعارك في سبيل حرية روسيا، على الأراضي الأوكرانية، بدءاً من معركة “بولتافا” في عام 1709م. ويتّكل أسطول البحر الأسود – سلاح روسيا لاستعراض قوتها في البحر الأبيض المتوسط – على عقد إيجار طويل الأمد في “سيفاستوبول”، في شبه جزيرة القرم. وحتى أشهر المعارضين، من أمثال ألكسندر سولجينتسين، وجوزيف برودسكي، أصرّوا على اعتبار “أوكرانيا جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ روسيا وأراضيها”. هكذا تبدو هذه الحرب مسألة هوية أولاً، كما يطرح بوتين وغيره.
وقبل، شغلت بهذه المقاربة ذات البعد الواحد، الهوية، بخاصة أنها كانت تبدو عندي، وغيري كُثُر، أنها مسألة عربية! وحتى ليبية قحة، على الخصوص منذ اندلاع الحرب الأهلية، التي غاص الليبييون في أتونها، وتحت لعلعة الرصاص، أمسى السؤال والمسألة الرئيسة: أنت لمن؟ وقد استعدت معارفي غير المعمقة، ما تبين أنه أثناء هذه الحقبة الأخيرة (الهويات القاتلة) مسألة المسائل، والمشهور منها، بل والطافح إعلامياً يخص عالمنا غير الأوروبي، لكن لما عادت أوروبا لعادتها القديمة: الحرب، عادت مسألة الهوية، كما علامة أوروبية مسجلة.
أعدت مراجعة، ما يمكن أن يقدم خلفية تحليلية نظرية للمسألة، وهذا استحثّني لمقاربة حال الساعة المفارقة! المنغمسة في مسلك هوياتي مكشوف. وقد لاحظت من خلال متابعة، للسوشيال ميديا (صحافة المواطن)، بل ويومياته الافتراضية، أن الانقسام والتشرذم سمة عامة، وأن الفرد في هذه الصفحات كما البعير الأجرب، فكل يغني على ليلاه، أو كما يقال، وأن العراك يتم تحت مظلة الأنا والتعصب لها، سواء أكانت الذات الممدوحة، أم حتى المذمومة، مما يستدعي الماضي، ما يُوسم عند باومان بالزومبي، أي الحي الميت، وهذا يهيمن على الحوار والنقاش العام.
طبعاً، أسهب مُنظّرو ما بعد الحداثة وأتباعهم في علّة ذلك، بموت الإنسان تحت وطأة السرديات الكبرى، ما باعت للإنسان أوهاماً كبرى، ما يذكر بالعكس: قولة جورج لوكاتش حول “التشيؤ”، أي تحول البشر إلى سلعة، زمن الرأسمالية المحدثة، فحديث هاربرت ماركوز فيما بعد، عن الإنسان ذي البعد الواحد: “مجتمعنا المعاصر مجتمع عسكري، تترسخ في ظله سيطرة الإنسان على الطبيعة، وهذا ما يحل ظاهرياً كثيراً من المشكلات. فتقوم وسائل الاتصال الجماهيري بتحويل المصالح السياسية الخاصة، بفئة معينة، أو طبقة معينة، لمصالح عامة للمجتمع ككل. وباعتبار أن المجتمع المعاصر يمتلك طاقات هائلة فكرية ومعنوية، فقد وصلت الهيمنة على البشر إلى درجة عالية مقارنة بالأمس، حيث إن التكنولوجيا أصبحت بديلاً عن العنف، لتحقيق التلاحم الاجتماعي وامتصاص الأزمات”.
وكأن نزعة الهوية، نزعة مجتمعات ما بعد الحداثة، وأن من دوافعها، المجتمعات الاستهلاكية المحفوفة بالتطورات التكنولوجية، أو كما يمكن أن ندرك ذلك بوضوح أكثر في مرحلة متقدمة، ما أشار إليه باومان، بأولوية الهوية على المصالح، ” فلا يهم ماذا تفعل، بل من تكون”. هكذا تطرقت إلى سمعي، وتداعت، إشارة بوتين إلى بطرس الأكبر، في ملتقى عُقد أخيراً مع المستثمرين الروس الشباب.
بقلم: أحمد الفيتوري كاتب
المصدر: اندبندنت عربية ـ المادة الصحفية تعبر فقط عن رأي الكاتب