كيف انهارت الثقة في رئاسة بوريس جونسون وتحول من ناجح إلى فاشل؟
السياسية:
كيف انتقل بوريس جونسون من بطل إلى صفر في أقل من ثلاث سنوات من ترؤسه الحكومة؟ لم يكن الأمر يتعلق بـ”بارتي غيت” [فضيحة احتفالات المسؤولين على الرغم من القيود المفروضة بسبب كورونا] فحسب، على الرغم من أن استجابة مقر رئاسة الوزراء وجونسون المحزنة لها حفزت التصويت على الثقة، وأصبحت رمزاً لرئاسته الحكومة.
لقد أثار عديد من النواب المحافظين شكوكاً حول جونسون حينما خلف [رئيسة الوزراء المحافظة السابقة] تيريزا ماي في مايو (أيار) 2019. وقيل في أوساط حزب المحافظين إن تأييده في صفوف النواب كان “واسعاً لكن ضحلاً”. وانتاب كثيرون من المحافظين مخاوف في شأن شخصيته، إذ نفروا من عدم ولائه لماي. وهو الآن يحصد ما زرعه. لقد كان سلوكه نحو ماي من بين الأسباب التي جعلت عديداً من المحافظين لا يترددون في الدعوة إلى التصويت بالثقة فيه.
بيد أن نطاق خصومه أوسع بكثير من مجموعة “مؤيدي ماي الساخطين والمترقبين للانتقام” التي يصورها بعض حلفاء جونسون. ووضعت الشكوك في آخر الأولويات حينما فاز جونسون بالغالبية الكبيرة البالغة 80 مقعداً في الانتخابات العامة عام 2019، حاصداً جزءاً من مقاعد حزب العمال في الدوائر الانتخابية الموالية تاريخياً لهذا الأخير. وبعدها، زعم جونسون أن “بريكست قد أنجز”. حتى منتقدي المحافظين اعترفوا بأن أحداً آخر لم يكن بوسعه أن ينجح في ذلك.
لم تستغرق هذه المخاوف وقتاً طويلاً قبل أن تعاود الظهور. ربما كان جونسون ذات مرة مرشحاً متألقاً، فإنه عانى مع الجهود والتفاصيل الصعبة والمرهقة للحكم. وكانت هناك شعارات مثل “رفع مستوى المساواة”، لكن حتى الحلفاء المقربين اعترفوا بعدم امتلاكهم فكرة واضحة عن كيفية وضع ذلك موضع التنفيذ.
وسرعان ما طغت الجائحة على تلك الأولوية السياسية الحيوية نفسها. ووضعت الحاجة إلى الإغلاقات جونسون في نزاع مع مجموعة من النواب اليمينيين، غالبيتهم من المشككين في أوروبا [بمعنى عدم تأييد علاقات قوية مع الاتحاد الأوروبي]، الذين يفترض بهم أن يكونوا أشد مشجعيه صخباً. ولاسترضاء التحرريين، غير جونسون سياسته، فابتعد عن تيار الأمة الواحدة المحافظ الذي وسم سنواته الثماني في رئاسة بلدية لندن.
وعلى الرغم من اعتناقه القضية الخضراء [أي تأييد قضايا البيئة]، بتشجيع من زوجته كاري ونهج “قمة الأطراف الـ26” التي استضافتها غلاسكو في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، فلم تعد متابعته تلك القضية شيئاً يذكر بمجرد انتهاء ذلك المؤتمر.
ونفر جونسون شريحة ضخمة من المحافظين المنتمين إلى التيار السائد الذين لم يحبوا “سياساته الاسترضائية” حيالهم، وميله إلى البحث عن مسائل “أسافين” من شأنها أن تقسم الحزبين الرئيسين والبلاد. كذلك تقاعس المعتدلون عن التعامل مع نهج جونسون المتهور في التعامل مع قواعد النظام الدولي. واعتقدوا بأنه أضر بصورة “بريطانيا العالمية” حينما لوح مرتين بتشريع يبطل معاهدة دولية مبرمة مع الاتحاد الأوروبي [بشأن تنفيذ اتفاق بريكست]، مستهدفاً في المرة الأحدث بروتوكول إيرلندا الشمالية.
واشتد الميل إلى اليمين في الأشهر الأخيرة، إذ حاول جونسون تهدئة المجموعة الصاخبة والقوية من اليمينيين الذين أطاحوا ماي في نهاية المطاف. وشنت هجمات على “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي)، والخصخصة المقترحة لـ”القناة الرابعة”، والقرار بإرسال طالبي اللجوء إلى رواندا، والحيل السخيفة مثل العودة إلى نظام المقاييس الذي كان معتمداً زمن الإمبراطورية البريطانية.
فقد أغضبت هذه الطروحات المحافظين المعتدلين، والأهم أنها لم ترضِ اليمينيين الذين شعروا بأن جونسون أصبح “مخالفاً لسياسات المحافظين”، ذلك بأنه رفع مساهمات التأمين الوطني في أبريل (نيسان) 2022، منتهكاً تعهدات في البيان الانتخابي للحزب عام 2019 حول الضرائب، إضافة إلى فرض ضريبة غير متوقعة على شركات النفط والغاز. واشتكى اليمين من أن الحكومة أصبحت عمالية قليلاً ومن دون اتجاه. وفي تطور ينذر بالسوء، وجه يمينيون كديفيد ديفيس وستيف بيكر، دعوة إلى جونسون للاستقالة.
والحقيقة أنه حين لم يتمكن من الإفلات من ظلال “بارتي غيت”، تحول مشروع الحكم الخاص بجونسون إلى شيء وحيد يتمثل في بقائه رئيساً للوزراء. ووفق ما أورده جيسي نورمان، وزير المالية السابق والحليف القديم الذي انقلب عليه اليوم، عن جونسون، “يبدو أن الحكومة بقيادتك تفتقر إلى حس بالرسالة. إنها ذات أغلبية كبيرة لكن ليست لديها خطة بعيدة الأجل. إنك تسعى ببساطة إلى شن الحملات الانتخابية، ومواصلة تغيير الموضوع، وإنشاء خطوط تقسيم سياسية وثقافية لصالحك في الأساس، في حين يعاني الاقتصاد، ويرتفع معدل التضخم، ويكون معدل النمو هزيلاً في أفضل تقدير”. بدت رسالته [نورمان] الدامغة نعياً سياسياً.
والمؤلم أن نورمان ذكر أيضاً أن جونسون “أشرف على ثقافة من مخالفة القانون في مقر رئاسة الوزراء”. وتحدث باسم عديد من زملائه المحافظين حين وصف زعم جونسون بأن تقرير سو غراي [كبيرة الموظفين المدنيين التي تولت التحقيق بشأن “بارتي غيت”] كان “بشعاً”. وأثار رد رئيس الوزراء مزيداً من الرسائل التي تدعو إلى التصويت على الثقة.
وفي الواقع، من الواضح أن جونسون ما كان ليجد نفسه في موقف خطير اليوم لو تعامل مع أزمة “بارتي غيت” على نحو أفضل. ولو لم ينكر أن حوادث كتلك قد وقعت فعلاً في ديسمبر (كانون الأول) 2021، بل أصدر بصراحة اعترافاً حقيقياً بالخطأ بدلاً من شعاره “آسف، لست آسفاً”، لكانت الأشهر الستة الماضية مختلفة جداً. في المقابل، برزت العيوب الشخصية التي عرفها نوابه طوال الوقت، إذ كانت غريزة المقامر [لدى جونسون] تتلخص في الاستبعاد والتكتم والتعتيم والتأخير.
لفترة من الوقت، كان الوقت حليفاً مفيداً لجونسون، بمساعدة تدخل شرطة العاصمة. لقد أوقف جونسون حقاً المد المتدفق ضده من خلال إظهار قيادة قوية في شأن أوكرانيا، لكن هذه القيادة أثبتت أنها أصل متضائل في الأسابيع الأخيرة، مع استمرار الحرب.
لقد توصل النواب المحافظون الذين أطلقوا التصويت على الثقة، لسبب وجيه، إلى نتيجة مفادها بأن جونسون تحول من أصل انتخابي لا شك فيه عام 2019 إلى عقبة. وثمة أدلة دامغة أتت من الاستطلاعات ومفادها أن الناس مرتاعون من “بارتي غيت” ويعتقدون أن جونسون كذب في شأنها. لقد ضعفت الثقة به، حتى بين من صوتوا للمحافظين عام 2019. بات جونسون عامل تشتيت لآفاق حزبه، إذ فشلت حزمة ريشي سوناك البالغة 15 مليار جنيه استرليني (18.8 مليار دولار)، وقد سعت إلى التخفيف من ضغط تكاليف المعيشة، في إحداث تغيير في صفوف الناخبين. ووصف جيمس جونسون، أحد المشرفين على الاستطلاعات، جونسون بأنه “كوربين المحافظين” [جيريمي كوربين الزعيم السابق لحزب العمال]، مشيراً إلى أن السياسات التي تستطيع أن تكسب شعبية تصبح بحد ذاتها غير شعبية حين يربط جونسون بها.
قد لا يؤدي التصويت على الثقة إلى سقوط جونسون على الفور، لكن من الصعب جداً على جونسون أن يشفي الجراح التي أحدثها بنفسه، وقد تسببت في انحداره الدراماتيكي.
بقلم: أندرو غرايس كاتب سياسي
المصدر: اندبندنت عربية ـ المادة الصحفية تعبر فقط عن رأي الكاتب