حسني محلي*

عندما أعلنت بريطانيا وعدها المشؤوم واهبةً فلسطين وطناً قومياً، أي دينياً، لليهود عام 1917 سعى الصهاينة آنذاك عبر مباحثاتهم مع بريطانيا وفرنسا معاً (دولتي الانتداب على سوريا ولبنان وفلسطين بعد عام 1918 لوضع منابع الأنهار اللبنانية والسورية ومصادرها داخل فلسطين ضمن الخريطة الموعودة لكيانهم المصطنع.

وجاء الاتفاق الذي وقّع في 23 كانون الأول/يناير من عام 1920 بين فرنسا وبريطانيا -ويهدف إلى رسم الحدود بين لبنان وسوريا وفلسطين- ليلبي بعض أطماع اليهود، الذين حقّقوا معظمها في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في 29 من تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1947 لتكون حرب 1948 الحلقة التالية من حلقات نجاح الصهاينة في السيطرة على معظم مصادر المياه عند الحدود مع لبنان والأردن وسوريا.

وشكّلت هزيمة العرب في حزيران/يونيو عام 1967خاتمة الانتصارات اليهودية على جميع مصادر المياه السورية (الجولان برمته) والأردنية واللبنانية، يضاف إليها أكبر عدد ممكن من الآبار الجوفية للمياه الفلسطينية في الضفة الغربية.

ويذكُر الجميع كيف سرق الصهاينة المياه اللبنانية في حرب تموز/يوليو 2006 بواسطة المضخات المتحركة، ونقلوا مياه الأنهار اللبنانية إلى خزاناتهم في الداخل الفلسطيني بأنابيب  جر، وكل ذلك بغياب الاهتمام اللبناني والعربي بمؤامرات الصهاينة التي لا حدود لها أبداً.

ولم يكن الغاز آنذاك ضمن اهتمامات الدول والحكومات العربية، التي كان لها ولم يزل ما يكفيها من المشكلات، التي منعتها من التصدي لمشروعات “تل أبيب” ومخطّطاتها الخبيثة وحليفاتها إقليمياً ودولياً.

ففي 17يناير/ كانون الثاني 2007، وقّع لبنان وقبرص اتفاقية لرسم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، واستندت هذه الاتفاقية إلى بنود اتفاقية الأمم المتحدة وموادها لقانون البحار. وحدّدت المنطقة الخالصة بين لبنان وقبرص على أساس خط الوسط بين الطرفين، إلا أن الدولة اللبنانية رفضت لاحقاً إبرام هذه الاتفاقية بعد أن وقعت قبرص اتفاقية أخرى مع “إسرائيل” عام 2011 لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، متجاهلة ما اتُّفق عليه مع لبنان. وهو ما أدى إلى خسارة لبنان مساحة مائية تزيد على كيلومتراً مربّعاً من المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية، التي تحتوي كميات كبيرة من النفط والغاز. وفي عام 2012 اقترحت واشنطن عبر موفدها، فريدريك هوف، خطة لإنهاء الخلاف بين لبنان و”إسرائيل”، وذلك بتقاسم المِنطقة المتنازع عليها بحيث يحصل لبنان على 500 كيلومتر مربع، و”إسرائيل” على 360 كيلومتراً مربعاً من المساحة المتنازع عليها.

بيروت رفضت آنذاك هذه الخطة وقامت في 9 شباط/فبراير عام 2018 بتوقيع عقد مع ائتلاف شركات دولية هي: “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية و”نوفاتيك” الروسية للتنقيب عن النفط والغاز في البلوكين الرابع والتاسع اللذين يقعان ضمن المياه الإقليمية اللبنانية. ورأت “تل أبيب” القرار اللبناني هذا استفزازياً باعتبار أن البلوك التاسع يقع ضمن المساحة المتنازع عليها معها. وفي 16شباط/فبراير، أي بعد أسبوع من توقيع لبنان العقد المذكور، دخلت واشنطن من جديد على خط الوساطة بين لبنان و”إسرائيل” عبر مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد ساترفيلد، وهو الآن سفير أمبركا في أنقرة، وساترفيلد هو الرجل المهم في مجمل تطورات المنطقة، بما فيها حرب الغاز في شرقي المتوسط.

هذا على الصعيد اللبناني- الإسرائيلي. أما إقليمياً، فقد دخلت أنقرة على خط الأزمة عندما أعلنت رفضها أي اتفاق توقّعه قبرص مع أي دولة أخرى، فيما يتعلّق بترسيم الحدود البحرية، سواء أكان ذلك مع لبنان أم مع “إسرائيل” أم مصر، باعتبار أن القبارصة اليونانيين لا يمثلون الجمهورية القبرصية كلها. وأرسلت أنقرة سفن البحث والتنقيب عن الغاز إلى المياه الإقليمية القبرصية وحمتها بقطع من الأسطول الحربي وبطائراتها، التي حلقت باستمرار في المنطقة ثم أقامت في الشطر الشمالي للجزيرة قاعدة لطائراتها المسيرة.

كما لم تبالِ أنقرة بتهديدات واشنطن والاتحاد الأوروبي واستمرت في موقفها هذا إلى أن باشرت خطوة أكثر استفزازية للجميع، عندما صدّقت في 27 من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2019 اتفاقيتها الإستراتيجية مع حكومة الوفاق في طرابلس وجرى بموجبها ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا.

كان الهدف من هذه الاتفاقية عرقلة مد أنابيب الغاز من “إسرائيل” إلى قبرص فاليونان ومنها إلى إيطاليا فالاتحاد الأوروبي. واستغلت أنقرة هذه الاتفاقية فأصبحت الطرف المباشر والأكثر فعالية في الأزمة الليبية، وذلك بفضل المجموعات الإسلامية المسلحة الموالية لها، إضافة إلى نحو 15 الفاً من المرتزِقة الذين نقلتهم من سوريا إلى ليبيا.

وجاء الرد اليوناني سريعاً على الاتفاق التركي- الليبي، فوقّعت أثينا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع إيطاليا (9 حزيران 2020) ومصر (6 آب 2020) في الوقت الذي سعت أنقرة لترسيم حدودها البحرية مع “إسرائيل”، وقد يكون ذلك أحد أسباب المصالحة التركية مع “تل أبيب” والتحالف معها سياسياً وعسكرياً، فيما ترى “إسرائيل” في تركيا حليفاً جديداً لها في ظل التغيرات المستمرة في المنطقة بعد مصالحتها مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وقريباً السعودية، وهي المصالحات التي يسعى الرئيس إردوغان لمثيلاتها لتكون له حصة الأسد في “الطبخة” الأميركية الجديدة، التي يسعى الرئيس بايدن لطبخها بغاز المنطقة.

سعت أنقرة، وما زالت تسعى لنقل غاز “إسرائيل” وقبرص ومصر تالياً، وفي هذه الحال لبنان أيضاً، إلى تركيا، ومنها إلى الدول الأوروبية، وهو ما يتطلّب إقناع الجانب الإسرائيلي بضرورة الاتفاق مع لبنان وإنهاءِ خلافه معه فيما يتعلّق بالمنطقة المتنازع عليها بين الطرفين، وإلا فالغاز سيبقى في المنطقة ولن يكون سهلاً إيصاله إلى أوروبا، وهو ما يسعى له بايدن مع توقع استمرار الأزمة الأوكرانية سنوات طويلة حتى لو انتهت الحرب. كما سبق للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي محاولة نقل الغاز القطري والخليجي إلى أوروبا عبر تركيا، وهو ما رفضه الرئيس السوري بشار الأسد في القمة الرباعية التي عقدت بينه وبين ساركوزي وإردوغان وحمد آل ثاني في أيلول/سبنمبر عام 2008 في دمشق وبحضور رئيس شركة “توتال” الفرنسية.

ويبقى السؤال: من سيقنع نفتالي بينيت بالتراجع عن استفزازه لبنان، وسوريا وإيران تالياً؟ وكيف؟ وهل يقبل بينيت لنفسه، وحكومته أن تسقط، بالتراجع أمام تهديدات حزب الله؟ فيما يبدو واضحاً أن الحزب مصمّم هو أيضاً على الدفاع عن مصالح لبنان وشعبه، وهو ما أعلنه السيد حسن نصر الله في شباط 2018.

ونشر الإعلام الحربي التابع لحزب الله آنذاك مقطع فيديو يحتوي على إحداثيات منصات الغاز الإسرائيلية، مؤكداً أنها تقع ضمن الأهداف الإستراتيجية له، وذلك على خلفية النزاع على أحقية امتلاك البلوك رقم 9 في البحر الأبيض المتوسط الذي تريد “إسرائيل” السيطرة عليه. ووفقاً للفيديو المذكور فإن منصة تمار الإسرائيلية تبعد 35 كيلومتراً فيما يبعد حقل كاريش 5 كيلومترات من الحدود البحرية اللبنانية.

وكان سلاح البحرية الإسرائيلية قد نصب منظومة القبة الحديدية المضادة للصواريخ على متن إحدى السفن الحربية، التي تحرس منصات الغاز وانضمت إليها لاحقاً أربع سفن حربية من طراز “ساعر ٦” وهي تجوب المنطقة باستمرار، ما يثبت حجم الرعب الإسرائيلي من تهديدات حزب الله، الذي ضرب في حرب تموز إحدى سفنه الحربية قبالة بيروت.

وهو الرعب الذي يحاول حكام تل “أبيب” مواجهته، أولاً: بتهديداتهم التقليدية بضرب لبنان، وثانياً: بالتحريض على إيران، وثالثاً: بكسب مزيد من الحلفاء الإقليميين (الأنظمة العربية وتركيا وقبرص واليونان) إلى جانبهم في تحدّيهم إيران وسوريا وحزب الله، ومن خلفها روسيا التي تسعى “تل أبيب” لاستغلال انهماكها في الأزمة الأوكرانية لتقوم بما هي تريد القيام به ما دامت واشنطن والعواصم الغربية معها وضد روسيا.

وفي نهاية المطاف يعرف الجميع أن ما سيحسم مستقبل الأزمة هو موقف حزب الله ويبدو واضحاً أنه مطابق تمامًا لمواقف كل الأطراف اللبنانية (باستثناء العملاء) ما دامت المصلحة وطنية، والغاز هو الوحيد الذي يستطيع أن يحل جميع مشكلات لبنان وشعبه بل وطبقاته الفاسدة، التي لولاها لكان البلد وشعبه بكلّ طوائفه في ألف خير معزّزاً مكرَّماً وسعيداً أبداً. وإلا فعلى الجميع أن يُعد العدة للمواجهة التاريخية، التي لن تقرّر مصير غاز لبنان وحسب بل  مصير الكيان الصهيوني كذلك، وتبين كلّ المعطيات أنه على وشك أن يزول بكل تأكيد وباعترافات حكامه، من نتنياهو إلى باراك وأخيراً بينيت، وبتصرّف أحمق منه سيقرب من نهايته الحتمية، ولن يحميه حينذاك كلّ العملاء والخونة والمتآمرين في المنطقة وخارجها.. وإنّ غداً لناظرِه قريب.

* المصدر :الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع