السياسية:

انقلاب في الأدوار بين الصين وروسيا، حيث أصبحت بكين الشريك الأكبر لموسكو وصاحبة اليد العليا، بعد أن كانت الأخيرة في يوم من الأيام معلماً متغطرساً يملي على الصين ما يجب أن تفعله.

إذ كان الرئيس ماو تسي تونغ بمثابة الأخ الأفقر والأضعف الذي يحتاج إلى المساعدة حين زار الديكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين في شتاء عام 1949، حسبما ورد في تقرير لمجلة POLITICO الأمريكية.

في ذلك الوقت ترك ستالين ماو تسي تونغ مؤسس الصين الحديثة الذي كان انتصر لتوه على القوميين بدعم سوفيتي، ينتظر لأسابيع داخل منزله الريفي (داتشا 2) المغطى بالثلوج على بعد 27 كيلومتراً من موسكو، بينما تذمر الزعيم الصيني المُهان والمُنهك من كل شيء، بدايةً بجودة السمك ووصولاً إلى مرتبته غير المريحة، حسب المجلة الأمريكية.

وحين التقى زعيما الشيوعية في النهاية لمناقشة الأعمال، انتزع ستالين صفقةً رابحة للغاية ألزمت ماو بشراء الأسلحة والمعدات الثقيلة الروسية بقرضٍ له نسبة فائدة ستدفعها بكين.

ورغم العلاقات الوثيقة بين البلدين في ذلك الوقت، ظل الصينيون ينظرون للاتحاد السوفييتي على أنه لا يقدم لهم الاحترام الكافي، وكان ذلك من أسباب تأزم العلاقات بين البلدين في نهاية الخمسينيات وبداية الستينات، والتي تحولت لقطيعة وصراع أيديولوجي بين البلدين وصل لمناوشات عسكرية، دفعت بكين لتحسين علاقتها مع الولايات المتحدة في السبعينيات نكاية في موسكو.

لكن ديناميات القوة تكشف عن إعادة ضبط راديكالية بعد مرور سبعة عقود. حيث سافر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لحضور الأولمبياد الشتوية في بكين قبل فترةٍ قصيرة من هجومه على أوكرانيا، وذلك ليعلن عن صداقةٍ “غير مشروطة” مع نظيره الصيني شي جين بينغ.

ولكن بصرف النظر عن العناوين البراقة، ومع ذلك ليس هناك خلافٌ على من يؤدي دور القوة العظمى الحقيقية في العلاقة بين الصين وروسيا في الوقت الراهن، حسب مجلة POLITICO.

سفينة سوفيتية تستخدم خراطيم المياه ضد صياد صيني على نهر أوسوري أثناء النزاع بين البلدين في مايو/أيار 1969- ويكيبديا
إذ أصبح اقتصاد الصين البالغ حجمه 18 تريليون دولار أكبر بـ10 مرات من اقتصاد روسيا. كما تستحوذ بكين على جميع الأوراق الجيدة تقريباً عندما يتعلق الأمر بوضع شروط أي شريان حياة مالي ستقدمه إلى روسيا باعتباره الأخ الأكبر للقيصر.

ورغم أن العلاقة بين الصين وروسيا تبدو في أزهى عصورها، ولا يجب نسيان أن البلدين لديهما تنافس أقدم بكثير من تنافسهما مع الولايات المتحدة، إذ توسعت روسيا في الشرق الأقصى على حساب الصين، كما تواجَه البلدان عسكرياً خلال ستينيات القرن الماضي، رغم أن كليهما كان شيوعياً.

الرئيس الصيني معجب بشخصية بوتين، ولكنه أبلغ الغرب بأنه لن يدعمه بالسلاح
تقدم الصين عرض تضامنٍ سياسي كبير مع موسكو في العلن.

ويبدو أن شي نفسه من أشد المعجبين ببوتين على المستوى الشخصي. حيث وصفت يون سون، مديرة برنامج الصين في Stimson Center، هذا الأمر بأنه “عقدة شي الروسية”.

ومع ذلك تظل هناك الكثير من القيود الخطيرة لهذه العلاقة “غير المشروطة”. إذ تؤكد الصين للدول الغربية في الوقت الراهن أنها لا تبيع الأسلحة أو أجزاء الطائرات لروسيا، بعد أن أفادت تقارير إعلامية بأن واشنطن أبلغت شركاءها في الناتو أن روسيا طلبت من الصين صواريخ أرض-جو، وطائرات بدون طيار، ومعدات استخباراتية، ومركبات مدرعة، وعربات للدعم اللوجستي.

ولكن لا تريد بكين أن تقع ضحية العقوبات الغربية، ولهذا تفرض حدوداً على العلاقة مع روسيا.

هل تحصل بكين على ثمن باهظ مقابل تقديم الدعم لروسيا؟
غير أن ما يقلق بوتين أكثر هو أن الصين تنوي فرض ثمنٍ باهظ لدعمها لموسكو.

وقال ماثيو كرونيغ، مدير مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن في Atlantic Council: “ستصبح روسيا هي الطرف الأصغر في علاقةٍ مع الصين الأقوى، مما يمثل مساراً معاكساً لنمط الحرب الباردة. ولا شك أن هذا سيثير ضيق بوتين”.

وليس سيناريو الدور الثانوي هو ما تصوره بوتين بالتأكيد حين قرر الرئيس الروسي الهجوم على أوكرانيا في فبراير/شباط، مدفوعاً برغبته لإعادة بناء مجد أمته القديم.

لكن كان يفترض به أن يتوقع مسار الأمور، لأن الصين دولةٌ مهووسةٌ بتصحيح الإهانات التاريخية واستعادة مكانتها القيادية العالمية. ولا شك أن أيام التفوق الأيديولوجي والاقتصادي والتكنولوجي للاتحاد السوفييتي على الصين الشيوعية قد ولّت منذ زمن.

أما أندري كورتونوف، المدير العام لمؤسسة Russian International Affairs Council المدعومة من الكرملين، فقد شكّك في أن تكون لدى النخب الروسية رغبة كبيرة في تأدية دور الشريك الأصغر للصين. ومع ذلك فهو لا يرى أن موسكو أمامها الكثير من الخيارات.

أول مكاسبها شراء النفط الروسي بثمن بخس
كما أن الحصار الغربي على روسيا، ولا سيما حظر استيراد النفط، من شأنه جعل موسكو أكثر حاجة لبكين، وبالتالي قد تيسّر روسيا شروط أي صفقات بين الجانبين في مجال الطاقة والتسليح وغيرها.

من المرجح أن أكبر حسابات الصين الآن تدور حول المدى الذي ستبلغه من أجل مساعدة بوتين في التغلب على حظر الاتحاد الأوروبي للنفط الروسي. إذ سيترك الحظر الأوروبي فجوةً كبيرة في الميزانية الروسية ما لم يتدخل كبار المشترين الآخرين لسد الفجوة.

ووصلت واردات الخام الروسي المنقول بحراً إلى الصين أعلى معدلاتها منذ عامين في مايو/أيار 2022، لتسجل 1.14 مليون برميل/يوم مقارنةً بـ800 ألف برميل فقط يومياً في 2021، وذلك بحسب بيانات شاركتها Vortexa Analytics مع مجلة POLITICO الأمريكية.

لكن تفسير ذلك يرتبط باقتصاديات الصين البحتة والباحثة عن الربح أكثر من كونه استعراضاً للتضامن السياسي. إذ تعني العقوبات الدولية أن المشترين باتوا أكثر قلقاً من التعامل مع الخام الروسي، مما أدى لجعل سعر النفط الروسي أقل بـ20 أو 30 دولاراً من الأسعار القياسية العالمية.

ومن المؤكد أن الصين لديها مجالٌ لاستيراد المزيد نظراً لأنها تستورد بالفعل أكثر من 10 ملايين برميل يومياً، وسيتجلى ذلك أكثر مع إعادة فتح الاقتصاد وتخفيف تدابير الإغلاق تدريجياً في مدنٍ رئيسية مثل شانغهاي. لكن حجم المبيعات الروسية إلى الاتحاد الأوروبي بلغ نحو 2.4 مليون برميل يومياً. وسيكون من المستبعد للصين أن تبدأ فجأةً في شراء كل الفائض النفطي الروسي الحالي، نظراً لمخاوف الصين الأمنية إزاء الاعتماد المفرط على موردٍ واحد، حتى لو كان روسيا.

وتحمل الصين على نحوٍ مماثل جميع أوراق التفاوض المتعلقة بالغاز الطبيعي أيضاً. إذ وقع بوتين مع شي على صفقةٍ لزيادة صادرات الغاز الطبيعي من 4.1 مليار متر مكعب في 2020 إلى 48 مليار متر مكعب سنوياً في المستقبل، وذلك قبل هجومه على أوكرانيا. وتخطط روسيا كذلك لمد خط أنابيب جديد هو “قوة سيبيريا 2″، الذي سيسهل عملية تحويل صادرات الغاز الروسي من أوروبا إلى الصين.

في ما نيكوس تسافوس، كبير مستشاري الطاقة للرئيس الوزراء اليوناني، كتب في تقريرٍ شهر مايو/أيار: “ومع ذلك تكمن المشكلة في أن الصين تستحوذ على كل أوراق التفاوض”.

وحتى الآن، لم يحاول الغرب فرض عقوبات على الدول الأخرى التي تشتري النفط الروسي، ولكن العقوبات الغربية لو تضمنت إلزاماً للشركات الصينية بأي شكل من أشكال المقاطعة لموسكو فسوف يمثل هذا اختباراً كبيراً لبكين، المنخرطة بقوة في التصدير للغرب، ففي النهاية أمريكا وليس روسيا هي أهم مستثمر في الصين، وأكبر مستورد لمنتجاتها.

تجربة الصين مع إيران تؤشر إلى أن بكين تعترض على الإجراءات الأحادية الأمريكية ضد أصدقائها “كلامياً”، ولكنها تطبقها على الأرض على الأقل جزئياً، مثلما حدث مع النفط الإيراني بعد العقوبات الأمريكية التي فرضها ترامب، حيث توقفت بكين بشكل كبير عن استيراده.

هل تطلب من روسيا تقييد بيع الأسلحة للهند؟
تأتي حاجة روسيا إلى حليف بالتزامن مع زيادة إثبات الذات الصيني. وكلما زادت عزلة موسكو، زاد اضطرارها لمساعدة الصين في دعم طموحاتها الجيوسياسية.

إذ ضغط المسؤولون الصينيون لسنواتٍ في هدوء على نظرائهم الروس من أجل وقف مبيعات الأسلحة إلى الهند، التي خاضت نزاعات حدودية دموية ضد بكين في بعض الأحيان.

يُذكر أن الهند كانت أكبر سوق لصادرات الأسلحة الروسية في الفترة ما بين 2017 و2022، متبوعةً بالصين، وفقاً لإحصاءات Stockholm International Peace Research Institute.

وأوضح ألكساندر غابويف، خبير العلاقات الروسية الصينية في Carnegie Endowment for International Peace: “كانت روسيا عنيدةً للغاية قبل اندلاع الحروب، وكان الروس يقولون: لستِ في وضعيةٍ تسمح لكِ بأن تملي علينا خياراتنا المتعلقة ببيع الأسلحة يا صين. لكنني أعتقد أن الصين ستبلغ هذه الوضعية في غضون خمس سنوات”.

هل تنال الصين تنازلات روسية في مجال التكنولوجيا العسكرية؟
قد يكون واحداً من المكاسب التي ستحاول بكين نيلها من روسيا في مجال التكنولوجيا العسكرية، إذ تفرض موسكو بعض القيود على التكنولوجيا الحساسة التي تعاني بكين من نقص فيها مثل محركات الطائرات على سبيل المثال، وهي نواقص لو أوجدتها الصين، لأمكنها الاستغناء عن شراء الأسلحة من الروس بل التفوق على الأسلحة الروسية ومنافستها في الأسواق الدولية.

وحتى الآن، كانت روسيا قادرة على أن تقول لا أحياناً للصين، عندما تطلب الحصول على بعض هذه التكنولوجيات أو تتلكأ على الأقل، ولكن هذه القوة الروسية قد تتعرض للاختلال في ظل الحصار الغربي على موسكو.

وقال بوبو لو، الذي شغل منصباً في السفارة الأسترالية بموسكو قبل أن ينضم لمؤسسة Lowy Institute: “ستؤدي عزلة روسيا إلى دفعها أكثر نحو وضعية الشريك الأصغر في العلاقة، مع زيادة اعتمادها الاقتصادي والاستراتيجي على الصين”.

إنه انقلاب تاريخي في العلاقة بين الصين وروسيا
مرت علاقة الاتحاد السوفييتي وجمهورية الصين الشعبية بظروفٍ صعبة لعقود، برغم تقاربهما الأيديولوجي المفترض.

إذ قال جوزيف توريغيان، مؤلف كتاب “الهيبة والتلاعب والإكراه Prestige, Manipulation, and Coercion” عن ستالين وماو: “كان واقع الأمور الذي جعل الصين هي الشريك الأصغر في الخمسينيات أمراً مزعجاً للغاية، لأن بكين رأت أن موسكو- باعتبارها من قوى الوضع الراهن- تهتم بعلاقاتها مع الغرب أكثر من علاقتها مع الصين.

وفي زمن ستالين وماو، كان ستالين هو المعلم وعملاق الحركة الشيوعية. لذلك بدأ ماو ينظر نظرة استعلاءٍ إلى خروتشوف، بعد وفاة ستالين، باعتباره شخصاً لا يفهم الأيديولوجية. وبعد لقاء دينغ شياو بينغ بنظيره غورباتشوف، وجد دينغ أن غورباتشوف كان أحمق بكل المقاييس”.

الرئيس الصيني لا يريد أن تعطل مغامرات بوتين خطته لوراثة أمريكا
وربما يتمتع شي وبوتين بعلاقةٍ شخصية أفضل من أسلافهما بكثير، لكن لكلٍّ منهما اعتباراته المختلفة للغاية بالنسبة لدور بلاده المستقبلي في العالم.

حيث يتركز كامل اهتمام شي على ضمان رئاسته لولايةٍ ثالثة، متسلحاً في ذلك برغبةٍ في جعل الصين أكثر رخاءً لتحتل في نهاية المطاف موقع الولايات المتحدة باعتبارها الاقتصاد الأول عالمياً. لكن أي عقوبات غربية قد تضر بهذه الاستراتيجية.

أما بوتين فيواجه مأزقاً أصعب. وسيسعد بأي شيءٍ يمكنه الحصول عليه من الصين بسبب محنة بلاده الحالية، حتى وإن كان ذلك يعني ظهور روسيا في صورة الشريك الأصغر للصين.

وأردف غابويف: “تكمن المشكلة في أن بوتين ينظر للصراع الأوكراني على أنه محوريٌ في كفاحه للحفاظ على نظامه. ويدور الحديث كثيراً حول رؤية عاطفية ضيقة الأفق لأهمية الحرب داخل أوكرانيا ورد الصاع للأمريكيين. وتجلت هذه الرؤية خاصةً بعد أن أدت مساعدة الجيش الأمريكي، بتوفير الأسلحة ومشاركة المعلومات الاستخباراتية الحساسة، إلى مقتل الكثير من الجنود الروس. ومع ذلك يظل العيش في جلباب الصين أقل رعباً، لأن التركيز الحقيقي هنا هو الحرب ضد الولايات المتحدة. ولن يمانع بوتين دفع هذا الثمن مقابل مواصلة حربه مع الولايات المتحدة، بشرط أن توفر الصين الموارد اللازمة دون التدخل في الشؤون الداخلية الروسية”.

المصدر: عربي بوست