خلف الوجه الناعم للنموذج الإسكندنافي
السياسية:
خلف الوجه الناعم لدول شمال أوروبا، تاريخ يغير ملامح النعومة، ويكشف زيف الحياد السياسي.
في إحدى العواصم العربية، يروي أحد الباحثين أنه كان يواظب على ارتياد مقهى للكتابة والبحث. وفي إحدى زياراته، اقترب إليه أحد الموظفين في منظمة نرويجية غير حكومية، وسأله عن إمكانية مشاركة الحوار والحديث معه. لم يكن غريباً حينها أن يشعر الرجل بأنّه سيدخل في حوار بدوافع استخبارية، ولكنه ملثّم ومتخفٍّ ومتنكّر.
ارتسمت ملامح الموظف النرويجي بالأسى والحزن والتعاطف مع كل فكرة ذكرها الباحث عن الواقع البائس في بلداننا، ولكنها تجمدت في لحظة عاصفة عندما سمع ما لم يكن له في باله: “كفَّ عن ذلك. لستم إلا القفاز الذي يلزم الأميركيين والفرنسيين وغيرهم بحثاً عن جهات لم تسجل عند أهل الشرق تاريخاً استعمارياً فاقعاً… ملامحك هذه هي تماماً ذلك القفاز!”.
في المخيال العالمي، تتشكل صورة نمطية عن الشعوب، وكثيراً ما يكون من الصعب محوها بسهولة. تحاول فرنسا محو صورتها الاستعمارية بتصدير نموذج فلاسفة التنوير، ونموذج رواد الثورة الفرنسية، وتحاول الولايات المتحدة طمس الجريمة التاريخية التي أعلنت تأسيسها بنموذج “الحرية” والعبث.
في الدول الإسكندنافية، وفي الإطار الأوسع “شمال أوروبا”، ثمة صورة نمطية من نوع آخر، تتمثل بأنها الدول التي تتمتع بنسب عالية من الرفاه الاجتماعي، وتتلقى نسباً عالية من طلبات الهجرة والدراسة والعمل، وتتمتع بمؤشرات عالية في حقوق الإنسان والرعاية الاجتماعية “welfare states”، إلى الدرجة التي وُصفت فيها هذه الدول بالدول “الرأسمالية الاشتراكية”، بمعنى أنها جمعت بين إيجابيات النموذجين الاقتصاديين.
خلف الوجه الناعم لدول شمال أوروبا، تاريخ يغير ملامح النعومة، ويكشف زيف الحياد السياسي كواحدة من ملامح الصورة النمطية لهذه الدول.
فسّر عدد من المحللين السياسيين طلب انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو كجزء من هذه الوداعة التي تعيشها هذه الدول، فهي الدول العاجزة عن حماية نفسها، التي تقلق من الصراعات الحربية المباشرة، والتي لم يبقَ أمامها حل إلا الانحياز إلى الناتو لمواجهة “التوسع” العسكري الروسي.
طلب انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو لا يضيف مساحة جغرافية استراتيجية إلى الحلف فحسب، إنما يعطيه أيضاً دفعة مصداقية عالمية بموجب الصورة المتشكلة عن هذه الدول. إنَّه يساهم في تعزيز نزعة “الروسوفوبيا” التي تحاول الولايات المتحدة الأميركية تعميمها عالمياً.
في التمحيص الدقيق في تاريخ دول الشمال الأوروبي (النرويج، السويد، فنلندا، الدنمارك، آيسلاندا)، تكون النتيجة مغايرة تماماً للصورة النمطية الشائعة عنها؛ فالدنمارك والنرويج وآيسلاند أعلنت انحيازها بشكل فاقع منذ بدايات الحرب الباردة، وانضمت إلى الناتو في عام 1949.
يمكن القول إنَّ قوات هذه البلدان كانت حاضرة في مغامرات الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان كقوات أساسية لها خبراتها في الميدان، وأدت دوراً مكملاً للصورة نفسها (الممرات الإنسانية، والتعامل مع لاجئي الحرب، و”تمكين” المجتمعات بعد عمليات التدمير والقصف…).
وبالنسبة إلى فنلندا والسويد، فقد شارك البلدان إبان انهيار الاتحاد السوفياتي في مشروع تطويق روسيا. ورغم أنها لم تنضمّ رسمياً إلى الناتو، فإنَّها تشاركت معه في أمور لا تقل أهمية عن ذلك، عبر الانضمام إلى برنامج “الشراكة من أجل السلام” عام 1994م، الذي ينطوي على مهمات تدريبية مع الناتو ومساهمات مالية. يسرد موقع الناتو بالتفصيل العلاقات التي جمعته بهذه الدول، ومنها الدول الطامحة إلى الانضمام الرسمي إليه: السويد وفنلندا.
تجتمع الدول الخمس للتعاون مع كندا والولايات المتحدة في منطقة الأركتيك، وتقدم الخدمات للمعسكر الغربي في مواجهته مع روسيا في 4 اتجاهات: الأول اقتصادي: المنافسة في التنقيب عن النفط في القطب الشمالي، والثاني عسكري: مساعدة الناتو في تجهيزات الردع النووي في تلك المنطقة، والثالث جغرافي: في الربط مع شمال المحيط الأطلسي، والرابع غذائي: هو منافسة مخازن البذور الروسية الموجودة في مستودعات فافيلوف، عبر المخازن الموجودة في القطب الشمالي (قبو نهاية العالم – سفالبارد).
تتشارك الدول الخمس كذلك في رفع فعالية النظام المالي العالمي؛ فمع كتلتها السكانية الصغيرة نسبياً في المجموع (ما يقارب 27 مليون نسمة)، إلا أنها تحظى بناتج محلي إجمالي عالٍ يُقدّر بحسب دراسة الكونغرس في عام 2018 بالآتي: 551 ملياراً للسويد، 274 ملياراً لفنلندا، 352 ملياراً للدنمارك، 436 ملياراً للنرويج، 26 ملياراً لآيسلاندا. هذه المساهمة المالية القائمة على أرصدة هائلة من الودائع البنكية تساعد في إنعاش حركة رأس المال عالمياً، والأهم تغطيتها بالوجه الناعم نفسه.
ليس في طلب انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو أيّ جديد في سياساتهما. لا كسر للحياد ولا غيره. كل ما في الأمر أن الصورة النمطية تُكسر أكثر، لمن أراد التدقيق أكثر!
بقلم: محمد فرج
المصدر : الميادين نت : المادة الصحفية تعبر عن راي الكاتب