السيد حسن نصرالله : الإمام الخميني ومواجهة الصهيونية
الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله(*)
طرح الامام الخميني (قده) منذ بداية نهضته المباركة رؤية واضحة جلية حول الصهيونية ودولتها “اسرائيل”، وحجم الاخطار التي تشكلها. وكذلك رسم الامام منهجاً عملياً حاسماً في التعاطي مع هذا التهديد التاريخي للأمة، على ضوء رؤيته وفهمه المشرق لذلك.
ونادى الامام بأفكاره الجهادية هذه منذ بداية حركته الاسلامية المباركة وبكل الوسائل المتوافرة لديه، الا ان انتصار ثورته الاسلامية في ایران وتداعيات هذا الانتصار المعجز والالهي في العالم كله وفي منطقتنا بالأخص أدخل الصراع والمواجهة مع الصهيونية مرحلة نوعية جديدة أستطيع ان ادعي انها بداية النهاية لهذا الكيان الغاصب والفاسد ولهذه الحركة العنصرية الاستعلائية، بالرغم من كل ما للعيان من مظاهر السقوط والهزيمة في الحالة السياسية العامة المسيطرة حالياً.
وحتى لا أطيل في المقدمات أود ان اطرح باختصار رؤية الامام ومنهجه في هذا المجال وفي نقاط متعددة أربط فيها بين الرؤية والمنهج بشكل مباشر.
أولاً: ينظر الامام الى “اسرائيل” على انها صنيعة القوى المستكبرة في العالم، وعلى انها قاعدة عسكرية استكبارية زرعت في قلب العالم الاسلامي لخدمة اهداف ومشاريع المستكبرين في السيطرة على بلادنا وأمتنا. حيث التقت مصالح قوى الاستعمار القديم مع اطماع اليهود الصهاينة فكان هذا المولود غير الشرعي على ارض فلسطين المغتصبة، وكان قيام دولة “اسرائيل” التي يرعاها اليوم ويحميها ويساندها ويستخدمها في آن واحد وارث قوی الاستعمار القديم وزعيم قوى الاستكبار الحالي، أعني الولايات المتحدة الاميركية، التي تلتزم بشكل مطلق سياسة “تفوق اسرائيل النوعي والكمي” على جميع الاصعدة في مواجهة دول المنطقة العربية والعالم الاسلامي بأكمله، والتي تزود “اسرائيل” بكل عناصر القوة والمنعة وترفض حتى ان تدان “اسرائيل” على مجازرها في الجليل وقانا، وتستخدم لذلك حق “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي. لقد قيل الكثير وكتب الكثير عن طبيعة جوهر العلاقة القائمة بين أميركا و”اسرائيل” حتى ذهب البعض الى القول ان الحركة الصهيونية هي التي تحكم الادارة الاميركية، وإن أميركا مغلوب على أمرها امام “اسرائيل” بفعل قوة اللوبي اليهودي هناك، ما حدا بالبعض الى الاعتقاد بأن الخلاص يكمن في تشكيل لوبي عربي، او لوبي اسلامي ضاغط في أميركا، ما يعني ايها السادة مضيعة للوقت والجهد. ومن مستلزمات هذا الطرح : أن علينا لنتمكن من تحرير ارضنا ومقدساتنا في فلسطين وسوريا ولبنان ان نعمل أولاً على تحرير واشنطن من هيمنة اللوبي الصهيوني، وهذه مهزلة الحالمين والغارقين في الترف الفكري والباحثين عن عذر للانسحاب من الساحة. منهاج ورؤية في تحصين الأمة لقد كان الامام واضحاً وحاسماً في رؤيته، فهو يعتبر ان “اسرائيل” هي ربيبة أميركا ومولودها غير الشرعي، ويعتبرها اداة أميركية تستخدمها اميركا في اطار مشروعها للهيمنة والاستبداد، يعني بتعبير واضح “اسرائيل” هي الشرطي الاميركي في منطقتنا والحركة الصهيونية في خدمة المشاريع الاستبدادية الاميركية في المنطقة، وطبعاً هذا يحقق لليهود والصهاينة في آن واحد أحلامهم وأطماعهم وهم الحاضرون دائماً وأبداً لخدمة الشيطان من اجل هذه الاطماع والاحلام. ان هذا الفهم المختلف لجوهر أميركا و”اسرائيل” يستلزم منهجاً عملياً مختلفاً في التعاطي مع الولايات المتحدة الاميركية. ومن العلاقة بین ذلك:
أ ـ يجب على الدول العربية والاسلامية وشعوبها ان تحمل اميركا أولا المسؤولية الكاملة عن كل ما قامت به وتقوم به “اسرائیل” من احتلال واغتصاب ومذابح ومجازر واعتداءات يومية وانتهاكات خطيرة لكل حقوق الانسان.
ب ـ يجب ان تتعاطى هذه الدول وشعوبها على ان اميركا هي العدو الاول والحقيقي وأنها هي التي تخوض الصراع والمعركة والحرب على أمتنا بشكل مباشر وعبر أداتها “اسرائيل”.
ج ـ رفض الاحتكام لأميركا وإسقاط كل رهان عليها او حتى التصور انها يمكن ان تكون وسيطاً نزيها او حكماً عادلاً في الصراع الدائر. وكيف تكون الحكم وهي الخصم الذي لا يرحم ولا يتردد.
د ـ وضع مشروع للمواجهة مع هذا الشيطان الاكبر الذي يختصر اليوم قوى الاستكبار، وقطع أياديه عن قرارنا وخيراتنا وبلادنا لنتمكن حينها أداته المباشرة في المنطقة، من حسم المعركة مع أعني “اسرائيل”، وهذا ما دعا الامام اليه طوال حياته الشريفة.
ثانياً: لقد اعتبر الامام ان “اسرائيل” غدة سرطانية، ومن طبيعة الغدة السرطانية ان تفسد الدم والجسد وأن لا تقف عند حدود معينة، وإنما تمتد وتمتد حيث يمكنها ذلك. وهذا يعني ان طبيعة وماهية “اسرائيل” تقتضي الافساد والقتل والتوسع دون حدود، ولذلك كان الامام يعتبر ان حدود اطماع “اسرائيل” أبعد من النيل والفرات، وأن حدود “اسرائيل” تتسع وتتسع مع قدرتها على السيطرة والتغلب. وكذلك فإن الامام كان يرى في “اسرائيل” خطراً ليس على الارض والموارد الطبيعية وخيرات هذه البلاد فحسب، بل على القيم الانسانية
والدينية والحضارية باكملها.
وبناء على هذه الرؤية ايضاً يحدد الامام المنهج والخط فيقول: يجب ان تزول “اسرائيل” من الوجود، ويجب اجتثات هذه الغدة السرطانية لأنه لا يمكن السكوت عن السرطان، ولا التعايش معه، ولا التخلص من تهديده وخطره، الا باجتـ ثاته من الجذور مهما كان الامر مكلفاً ومؤلما.
ثالثاً: في رؤية الامام ان القدس ليست قضية تخص الفلسطينيين وحدهم او العرب وحدهم، وإنما هي قضية الأمة الاسلامية، وهي مسؤولية الأمة بكل شعوبها وحكوماتها وشرائحها. ولذلك اختار اعظم يوم في أعظم شهر، أعني يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان المبارك يوماً عالمياً للقدس، وقال انه يوم فلسطين ويوم الاسلام. وقد أعاد الامام بذلك قضية القدس الى موقعها الطبيعي والتاريخي في الصراع القائم وحاول استنقاذها ممن يصر على اعتبارها امراً فلسطينياً خاصاً، وبالتالي فليس هناك مسلم في هذا العالم يمكنه ان يقبل او يوقع او يعترف بالقدس جزءاً من “اسرائيل” او عاصمة لها، سواء كان هذا الفرد حاكماً او منظمة او فئة، وحتى لو كان شعباً بكامله. ولا يمكن ان تصبح القدس في يوم من الايام حقيقة اسرائيلية لا نقاش فيها ما دام في هذه الأمة نبض حياة، وبعض من روح الخميني وعزمه. من جهة أخرى، لقد قدم الامام قضية القدس والصراع مع محتليها عنواناً ومحوراً للوحدة والتعاون والتآزر بين الشعوب العربية والاسلامية ودولها، ففي الأمم الحية والمحترمة والجديرة بالبقاء والعز قد يختلف الناس في شؤون كثيرة، ولكنهم يتحدون في مواجهة الغزاة والمحتلين، ويترفعون عن كل خلافاتهم ونزاعاتهم، ويحشدون كل قواهم في معركة التحرير المصيرية.
ان مواجهة الصهيونية ومقاومة الاحتلال الاسرائيلي لأرضنا هي أهم عامل يمكن ان يجمع قوى الأمة بتياراتها المختلفة وشرائحها المتنوعة حول محور واحد ومصيري. وإذا كنا عن هذا التوحد وحول هذا المحور عاجزين، فنحن عن التوحد في اي محور آخر اعجز وأضعف.
رابعاً: لقد أكد الامام ان استعادة المقدسات واجتثات هذه الغدة السرطانية لا يكون بالوسائل السياسية ولا بالمناورات السياسية، وإنما بالبنادق المعتمدة على الايمان. لقد طرح الامام خيار الجهاد بقوة خياراً وحيداً أوحد لحسم المعركة. وما دعا اليه الامام، وما فعلته الثورة الاسلامية في ايران وجسدته الحركات الجهادية في لبنان وفلسطين وضع العدو الاسرائيلي امام مواجهة جديدة فريدة ومختلفة. لا ريب في انه ليس كل قتال جهاداً، وليس كل مقتول شهيداً. القتال في سبيل الله هو الجهاد، والمقتول في سبيل الله هو الشهيد. المعركة التي فتحها الامام مع “اسرائيل” تختلف عن كل المعارك السابقة معها من حيث الماهية والجوهر والمضمون قبل الشكل والاسلوب.
وسأخذ مثلاً من لبنان، هذه المقاومة الاسلامية المجاهدة والمضحية في لبنان تنتمي الى فكر هذا الامام، وتلتزم بنهجه وطريقه، وبفعل هذا الالتزام يختلف قتالها عن اي قتال آخر من حيث الماهية والجوهر. فهو قتال في سبيل الله، وفي عين الله تعالى، وطالباً لمرضاة الله، وحبا الله، وشوقاً الى الله، هو قتال رهبان الليل وعشاق الوصال، وهي مقاومة الذين يأنسون بالموت، ويلتذون به كأطيب من العسل، هي مقاومة أصحاب القلوب المطمئنة التي لا يتسرب اليها طمع بشيء من حطام هذه الدنيا سوى الله، ولو اجتمع العالم كله على قتالهم لم يبالوا أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم، هذه المقاومة شعارها، مضمونها، ثقافتها، أنفاسها، عواطفها، حبها، بغضها، رضاها، غضبها، حزنها، فرحها، أملها، ثقتها، عزمها، دمها، كل ما فيها جوهر آخر وحقيقة أخرى. هذه المقاومة التي صنعها الامام في هذا العصر تحمل كل عزم وصبر وكل الامل الآتي مع المهدي (عج) ووعد الله في القرآن بالنصر الحتمي ووراثة الارض. ولأنها هكذا قال عنها الامام قبل رحيله بسنين “إن جهاد حزب الله في لبنان حجة الهية على العلماء في العالم الاسلامي”.
ان تجربتنا التي جسدت نهج الامام في هذا المجال تؤكد ان الفئة القليلة المؤمنة والمتوكلة على الله تعالى قادرة على الحاق الهزيمة بأقوى جيش في الشرق الاوسط، وقادرة على اذلاله وقهره وإسقاط أسطورته، فكيف اذا كان طرف الصراع هو هذه الأمة العظيمة المقتدرة المليونية، ولم يبالغ الامام حين قال: لو رمى كل مسلم دلـوا من الماء على “اسرائيل” لجرفتها السيول.
ان فلسطين تتعرض اليوم للتصفية ولأبشع عملية تزوير في التاريخ، وإن القدس تهود في كل يوم يبنى فيه منزل في مستوطنة، وان المسجد الأقصى مهدد بالتدمير والحرق والإزالة. ان أمة تهزمها شركة “والت ديزني” الاميركية لن يبقي لها اليهود الصهاينة لا قدساً ولا مسجداً ولا كرامة. ان الثورة الاسلامية في ايران وجمهوريتها المباركة طردت منذ اليوم الاول لانتصارها كل الصهاينة وأعوانهم، وأقامت سفارة فلسطين ووقفت الى جانب الشعوب والحكومات العربية في مواجهة “اسرائيل”، وما زالت حتى اليوم تتابع نهجها، نهج الامام ودربه بقيادة ولي أمر المسلمين آية الله العظمى الامام الخامنئي دام ظله الشريف، وتتحمل في سبيل موقفها العقائدي الصارم من مسألة فلسطين والقدس الكثير من الآلام والمعاناة وأشكال التآمر والضغوط المختلفة.
وفي منطقتنا مباشرة ما زال هناك موقع للصمود في سوريا، وموقع للجهاد والشهادة في لبنان وفلسطين، والأمة تملك القدرة على استعادة الامل والثقة وصنع النصر. اننا مدعوون اليوم باسم كل المقدسات، التي نؤمن بها ان نضع المواجهة مع الصهيونية و”اسرائيل” في رأس اهتماماتنا وأولوياتنا، وأن نستنهض الهمم، ونكشف الزيف والخداع الاميركي الصهيوني، وأن نحطم كل حواجز الخوف والشك، وان نوخد كل الجهود والطاقات ليتحقق حلم الامام ووصية الامام .
وأخيراً.. سيبقى نهج الامام الخميني رائداً لكل الثوار والمجاهدين من اجل الحرية والتحرير، وستكون روح الخميني هي الحاضر الاكبر يوم يصلي الناس في القدس صلاة النصر حيث لا احتلال ولا صهاينة.
(*) نص كلمة ألقاها في المؤتمر العالمي لدراسة الـثـورة الاسلامية، وذلك لمناسبة الذكرى المئوية لولادة الامام الخميني والذي عقد في طهران بتاريخ 4 تشرين الأول/ أكتوبر 1999
* المصدر :موقع العهد الإخباري