السياسية:

جاء انقلاب المكون العسكري في الثورة السودانية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 مصداقاً لهاجس سياسي يتملك دعاة التغيير في السودان لبؤس مردود ثورتين سبقتا في 1964 ضد نظام الفريق إبراهيم عبود (1958-1964) والمشير جعفر نميري في 1985 (1969-1985).

وسمت في مقال لي يوماً مساورة هذا الهاجس للناس بـ”التغييرفوبيا”. وهي الوساوس أو المخاوف (الفوبيا) التي تعكر صفو كثير منا في طلبهم التغيير هذه المرة بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، فخيم عليهم شبح الفشل المنتظر للثورة طوال الفترة الانتقالية التالية للثورة من قيام انقلاب عليها يأتيها مما تعارفنا عليه بـ”الحلقة الجهنمية أو الخبيثة” التي هي أكثر مظاهر هذه الفوبيا تنغيصاً. وهي الدورة التي ظل يتعاقب فيها نظام ديمقراطي (ثلاث عشرة سنة) ونظام ديكتاتوري (ثلاثة وخمسين عاماً) خلال سنوات استقلالنا الوطني الست والستين.

اختلف انقلاب المكون العسكري على المدنيين في الثورة الحالية عن انقلاب جعفر نميري في 1969، وعمر حسن أحمد البشير في 1989 من وجه مهم. فوقع الانقلابان المذكوران على النظام الديمقراطي التالي للفترة الانتقالية في حين وقع الانقلاب الأخير والفترة الانتقالية نفسها لم ينقض أمدها. فأطاح الانقلاب الأول حكومة محمد أحمد المحجوب عن حزب الأمة التي جرى انتخابها في 1965 بعد فترة انتقالية لمدة ستة أشهر. وأسقط انقلاب 1989 حكومة الصادق المهدي عن حزب الأمة التي جرى انتخابها في 1986 بعد فترة انتقالية دامت لعام.

وسبب مفارقة انقلاب 21 عن سوابقه ميسور. فللمرة الأولى تطول الفترة الانتقالية بعد ثورة 2018 من دون غيرها لتصبح ثلاث سنوات حسوماً قابلة للزيادة. فنجح الثوريون هذه المرة في تحقيق مطلب عزيز لديهم هو تطويل الفترة الانتقالية قبل إجراء الانتخابات للجمعية التأسيسية المنتظرة. ومن الواضح بمطلبهم القديم هذا أنهم كانوا يريدون شراء الوقت ليتمكنوا من إزالة آثار النظام القديم وهم في “عسى ولعل” أن دروس الثورة والتغيير تنسرب للجمهور الواعي، فيميل ناحيتها ويرجح كفتها في تلك الانتخابات. وكانت الأحزاب التقليدية، من الجهة الأخرى، تريد الفترة الانتقالية “قصيرة وعسل” في عبارة إنجليزية ماتعة. فسعت القوى الثورية لتمديد الفترة الانتقالية بعد ثورة 1964 لتزيد على الستة أشهر التي قررها ميثاق الثورة. وتذرعت لذلك بتعذر قيام الانتخابات في أكثر دوائر جنوب السودان آنذاك بالنظر للحرب الأهلية الناشبة فيه. ولم تقبل منهم القوى المحافظة في الأحزاب التقليدية حجتهم، وقامت الانتخابات في موعدها المقرر بانتظار استكمالها في الجنوب في ظرف أفضل.

طمع الثوريون بعد انتفاضة 1985 أن تطول الفترة الانتقالية لخمس سنوات. وكانت حجتهم للتطويل أن البلد بحاجة إليه لإزالة “آثار مايو”، أي حكم نميري الذي جاء بانقلاب في مايو (أيار) 1969، ووضع القواعد لسودان ليبرالي موحد. ثم اكتفوا بسنتين للمهمة الانتقالية في مفاوضات صاخبة مع الأحزاب التقليدية والمجلس العسكري الانتقالي الذي فرض ولايته على البلاد. وعادوا من الغنيمة بعام واحد.

ولا يعني وقوع انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 خلال المرحلة الانتقالية من دون سوابقه أن الفترات الانتقالية في ما بعد ثورتي 1964 و1985 خلت من الصراع الشديد بين الأطراف. فقد انقلبت القوى التقليدية مدنياً على حكومة ثورة أكتوبر 64 الانتقالية الأولى. فكرهت منها نفوذ اليسار الغالب فيها عن طريق جبهة الهيئات المهنية التي قادت الثورة بما يذكر بتجمع المهنيين الذي كانت له قيادة ثورة ديسمبر 2018. وليس أدل على ذلك النفوذ من تمثيل طاغ لنقابات المهن والعمال والمزارعين في مجلس الوزراء في حين لم تنل الأحزاب، صغيرها وكبيرها، سوى مقعد واحد لكل منها بما في ذلك الشيوعيون والإخوان المسلمون. فحنت الأحزاب التقليدية رأسها لعاصفة الثورة هوناً لتخرج على الحكومة الانتقالية في وقتها المناسب وتنجح في حلها، فبراير (شباط) 1965، وتكوين أخرى غلبوا فيها رئيس الوزراء نفسه، سر الختم الخليفة. أما في الفترة الانتقالية بعد ثورة 1985 فولدت الحكومة الانتقالية ميتة، وجردها المجلس العسكري، بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الدهب الذي انقلب على النظام باسم الانحياز للثورة، من كل سلطان. ففرق جيشها السياسي بمنع التظاهر والإضراب في يومه الأول.

ومن أحداث هذا التاريخ في التغيير ما يتناسخ حتى يعظم الوساوس منه. فرأينا كيف تناصرت الأحزاب التقليدية خلال الفترة الانتقالية لما بعد ثورة 1964 لفرض إرادتها وتكوين الحكومة الانتقالية الثانية خالصة لها. وأذكر لقاء جمعني مع عبدالله حمدوك رئيس وزراء حكومة ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018. وساقنا الحديث إلى مقارنات بينها وثورة أكتوبر 64. فقلت له “قد تصدق تلك المماثلات بين الثورتين أو قد لا تصدق. ولكن مماثلة واحدة لا أريدها لك (وقد أعجبني منه استماتته في وجه شغب كثير)، وهي أن تضطر للاستقالة كما فعل سر الختم الخليفة في 1965”. ومما يحذر منه أن تكون الأماني مجرد أماني. فما عتم أن استقال حمدوك تحت الضغط المعروف. واختلف عن سر الختم الخليفة في أنه غادر المسرح من دون أن يكون على رأس حكومة ثانية معدلة للثورة كما فعل سر الختم الخليفة.

سيكون مؤسفاً إن حالت التغيير فوبيا دون التغيير السياسي والاجتماعي الذي طلبته جمهرة السودانيين لعقود بتكلفة عالية وممضة. لقد استحقوا التغيير عن جدارة لأنهم غيروا أنفسهم طويلاً وبلا رحمة. وربما احتاجوا إلى المضي في شغف التغيير وسبله إلى الوعي به. ومن أفتح أبواب هذا الوعي أن نتخلص من فهم عقيم للدورة الجهنمية الذي يتولد فيها الانقلاب عن الثورة. فقد باتت فينا هذه الدورة مثل دورات الطبيعة في حياتنا السياسية (أو في اعتقادنا عنها) من فرط تكرارها فينا “تكرار الحيض عند النساء” في صيغة متطرفة لمنصور خالد المفكر السياسي المفلق غزير الإنتاج. وهي ليست كذلك بالطبع. ولم نجعلها كذلك إلا لأننا لم نحسن تشخيص هذا التعاقب، ناظرين إلى صراع قوى مجتمعنا حول مصالحها المادية والروحية كما ألمحنا هنا من غير تفصيل.

لكن مما يبعث على الاطمئنان على أن للتغيير في السودان جذوة لا تنطفئ. أنه للمرة الأولى لا يؤدي الانقلاب إلى إسقاط الحكومة الانتقالية والثورة معاً. فلم تقم للثورة قائمة بعد سقوط حكومة ثورة أكتوبر 1964. إذ انطفأت الثورة يوم تهاوت الحكومة الانتقالية. ومن جهة أخرى لم تقم لحكومة ثورة 1985 قائمة بعد انقلاب سوار الدهب، فبقيت ظلاً من نفسها لعام غير خصيب. وهذا بخلاف ثورة ديسمبر 2018. ففي حين سقطت الحكومة الانتقالية حتى في عيون ثوارها وقبل انقلاب 25 أكتوبر 2021 عليها، ظلت الثورة سيدة الشارع كما لا يخفى على مشاهد الفضائيات.

المصدر: اندبندنت عربية ـ المادة الصحفية تعبر عن راي الكاتب