السياسية:

يتوقّع محللون أتراك أن يتراجع إردوغان عن معارضته انضمامَ فنلندا والسويد بعد تحقيق جملة مطالب.

عندما توسّلت تركيا إلى واشنطن حتى تحتضنها داخل الحلف الأطلسي، في شباط/فبراير 1952، لم يكن أحد يتوقع لأنقرة أن تكون مفتاح المعادلة الأصعب في تاريخ الحلف منذ تأسيسه عام 1949. فعلى الرغم من أن أنقرة كانت طرفاً في أزمة الصواريخ بين واشنطن وموسكو عام 1962، عندما أرادت موسكو أن تنصب صواريخ نووية في كوبا ردّاً على قرار واشنطن نَصْبَ صواريخ نووية في تركيا وإيطاليا، يتذكر الجميع كيف أن الأتراك أرسلوا ستة آلاف عسكري إلى كوريا للقتال إلى جانب الجيش الأميركي من أجل إثبات ولائهم لواشنطن وإقناعها بضرورة إضاءة الضوء الأخضر لانضمامهم إلى الحلف آنذاك. فتحوّلت تركيا، بعد ذلك التاريخ، إلى خندق أمامي للدفاع عن المعسكر الغربي ضد السوفيات والمد العربي القومي، بالتنسيق والتعاون مع شاه إيران و”دولة العدو الإسرائيلي”، التي زار رئيس وزرائها بن غوريون تركيا صيف عام 1958. ومن دون أن يكون هذا الانضمام إلى الحلف، ولاحقاً إلى “حلف بغداد”، كافياً لإقناع العواصم الغربية بفَتحِ أبواب الاتحاد الأوروبي في وجوه الأتراك، وهم ينتظرون منذ عام 1959، عندما كان الاتحاد يُسَمّى السوقَ الأوروبية المشتركة، وعدد أعضائه 6 فقط، والآن أصبحوا 27.

على الرغم من أعوام المد والجزر في علاقات أنقرة بواشنطن والعواصم الغربية طوال الأعوام الماضية، فإن تركيا ظلت دائماً حليفة استراتيجية للغرب بصورة عامة، ولأميركا على نحو خاص.

ومن دون أن يكون الفتور، وأحياناً التوتر الذي يخيّم على علاقات أنقرة بواشنطن بسبب التقارب التركي مع روسيا، منذ صيف عام 2016، كافياً بالنسبة إلى الرئيس إردوغان كي يفكر في الخروج من الحلف الأطلسي، كما هو لم يفكّر فب إغلاق القواعد الأطلسية والأميركية الموجودة في تركيا (30 قاعدة ومحطة رادارات)، وفيها خمسون قنبلة نووية.

وجاءت الحرب في أوكرانيا لتضع العلاقات التركية بواشنطن أمام تحديات حساسة، بعد أن رفض إردوغان التزام العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا (تغطي نحو 45% من احتياجات الغاز لتركيا) واستمر في علاقاته المتشابكة مع موسكو في جميع المجالات، من دون أن يُهمل إردوغان إغلاق المضائق أمام السفن الروسية، وهي في طريقها إلى الأبيض المتوسط، كما أغلق المجال الجوي أمام الطائرات العسكرية الروسية، وهي في طريقها إلى سوريا، والعكس أيضاً.

وجاء موقف الرئيس إردوغان الرافض انضمامَ كل من السويد وفنلندا إلى الحلف الاطلسي، ليضع أنقرة أمام تحديات جدية في علاقاتها بواشنطن، على الرغم من تناقضات الموقف التركي في هذا الموضوع. فالرئيس إردوغان، الذي يتهم كلاً من السويد وفنلندا بدعم الإرهابيين، ويقصد بهم أتباع حزب العمال الكردستاني والداعية فتح الله غولان وأنصارهما، ينسى أو يتناسى أن غولان مقيم بواشنطن منذ عام 1999، وأن أتباعه وأنصاره موجودون هناك وفي ألمانيا ودول أوروبية أخرى. أمّا بشأن حزب العمال الكردستاني، فسبق لإردوغان شخصياً أن اتّهم واشنطن، أكثر من مرة، بتقديم كل انواع الدعم، سياسياً وعسكرياً ومالياً، إلى وحدات حماية الشعب الكردية شرقي الفرات، وهي الذراع السورية للحزب المذكور، وتحظى أيضاً بدعم كبير من فرنسا وإيطاليا وألمانيا ودول أوروبية أخرى.

في ظل هذه التناقضات، يبقى السؤال الأهم: ما الذي يهدف إليه إردوغان من خلال موقفه الرافض انضمامَ السويد وفنلندا، وكانتا معاً من أكثر الدول الأوروبية تأييداً لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي؟

المحلّلون والدبلوماسيون الأتراك توقّعوا للرئيس إردوغان أن يتراجع عن موقفه هذا، كما فعل ذلك عندما لم يستخدم حق “الفيتو” ضد انضمام “الكيان الصهيوني” إلى الحلف الاطلسي بصفة مراقب في الـ4 من أيار/مايو 2016، وذلك بطلب من واشنطن ومنظمات اللوبي اليهودي في أميركا.

فالجنرال المتقاعد توركار أرتورك قال إن كل ما يتمناه وينتظره إردوغان هو أن يتّصل به الرئيس بايدن، ويدعوه إلى زيارة البيت الأبيض، كما فعل ذلك الأسبوع الماضي مع رئيس وزراء اليونان ميتسوتاكيس. فالرئيس بايدن، الذي سبق له أن قال عن إردوغان نهاية عام 2019، إنه “استبدادي، ولا بدّ من التخلص منه عبر دعم المعارضة التركية”، لم يتصل بإردوغان بعد أن دخل البيت الابيض إلّا مرة واحدة، وذلك في الـ21 من نيسان/أبريل 2021، ليقول له إنه “سيعترف يوم الـ24 من نيسان/أبريل بالإبادة الأرمنية في العهد العثماني”، للفترة 1914-1916. كما لم يدعُ بايدن، طوال الفترة الماضية، إردوغان إلى زيارة البيت الأبيض، واكتفى بلقائه في بروكسل على هامش القمة الأطلسية في الـ14 من حزيران/يونيو 2021. وتعدّ الأوساط الدبلوماسية موقف بايدن هذا “جزءاً من سياسات واشنطن التي لم تعد ترى في إردوغان حليفاً موثوقاً به، ولا بدّ من التخلص منه إذا استمر في نهجه هذا، كما هي تخلصت من رئيس وزراء باكستان عمران خان”.

أمّا فقرات المساومة المستمرة بين إردوغان وواشنطن، فيمكن تلخيصها كما يلي:

1- يريد إردوغان لواشنطن ومعها “تل ابيب”، التي صالحها على عجل، أن تتراجعا عن قرارهما عدمَ بيع طائرات “أف 35” لتركيا.

2- أن تسمح واشنطن لإردوغان بنصب صواريخ “أس – 400” الروسية وتفعيلها، وأن تلغي العقوبات التي فرضتها على مبيعات الأسلحة الأميركية لتركيا.

3- يطلب إردوغان من واشنطن مزيداً من التنسيق والتعاون معه في سوريا بصورة عامة، وفي شماليها بصورة خاصة، بما في ذلك إدلب والمنطقة الآمنة بجوارها، وتسويق “جبهة النصرة” كياناً سياسياً معتدلاً، لا بدّ من التعامل معه، في مقابل رضاً تركي على الواقع المفروض شرقيَّ الفرات.
5- يتمنى إردوغان مزيداً من الدعم الأميركي العملي والفعّال لسياساته في العراق وليبيا والمنطقة العربية بصورة عامة، من دون إهمال منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى، حيث المخططات الأميركية للتغلغل في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية، ومنع التنسيق والتعاون الروسي -الصيني عبر هذه الجمهوريات، وأهمها كازاخستان.

مع الغموض الذي يخيّم على الموقف الأميركي المحتمل تجاه “تعنت الرئيس إردوغان”، تتوقع الأوساط الدبلوماسية للطرفين التركي والأميركي أن يتّفقا على الحد الأدنى من شروط كل الأطراف، بحيث يخرج إردوغان ويقول إنه “انتصر وحقّق ما أراده من فنلندا والسويد”، بعد أن رفع سقف المساومة معهما ومع واشنطن أمام الرأي العام التركي.

ويعرف الجميع أنه، من دون هذا الاتفاق، فإن واشنطن لن ترحم الرئيس إردوغان ما دام لا ولن يستطيع الخروج من الحلف والانضمام إلى الحلف الروسي، وهو ما لا ولن يفكر فيه نتيجة عدد من الأسباب التاريخية والعقائدية والنفسية والاستراتيجية، التي تجبره على البقاء ضمن الحلبة الأميركية. وإمكانات المناورة فيها قليلة وضعيفة، وجميعها ضمن السيناريوهات المكتوبة، وهو ما علّمنا إياه التاريخ التركي بعد زيارة المدمرة الأميركية ميسيوري إلى إسطنبول في الـ5 من نيسان/أبريل 1946، وذلك بعد شهر ونيف من لقاء الرئيس الأميركي روزفلت والملك المصري فاروق في البحر الاحمر في الـ13 من شباط/فبراير على متن المدمرة كوينسي، وبعدها بيوم مع الملك عبد العزيز آل سعود (كل ذلك قبل عامين من قيام الكيان الصهيوني في فلسطين)، بحيث تحوّلت الدول الثلاث إلى جزء أساسي من المشروع الأميركي في الشرق الأوسط، وهي ما زالت كذلك إلى جانب الأنظمة العربية الأخرى، وهي جميعاً في خدمة الصهيونية العالمية، ورأس حربتها “دولة العدو الإسرائيلي”!

بقلم : حسني محلي
المصدر: الميادين نت ـ المادة الصحفية تعبر عن رأي الكاتب