السياسية:

حذرت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي رئيس الوزراء من أنه إن مزق اتفاق “بريكست” فسوف يقضي كذلك على فرص إبرام اتفاق تجارة حرة مع الولايات المتحدة

حتى إن كان رئيس الوزراء متفائلاً باتفاق “بريكست” وراضياً عنه تماماً وبشكل أعمى، فلا بد من أن يدرك بأنه بات الآن مضطراً إلى التعامل مع انزعاج واشنطن من جهة، واعتراض بروكسل وباريس وبرلين ودبلن من جهة أخرى، بسبب محاولته إعادة التفاوض على اتفاق “بريكست”.

وحين التقى بوريس جونسون جو بايدن لإجراء محادثات في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، خرج رئيس الوزراء من الاجتماع وهو يتمتم بأن “جو لديه كثير من الأمور المهمة الأخرى ليهتم بها”، فبدا أن الحديث كان صعباً للغاية.

ولكن تحسباً لاحتمال مرور رئيس الوزراء بحال من التوهم الاعتيادية التي تراوده، اختارت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي هذا التوقيت كي تذكره بأنه إن مزق اتفاق “بريكست” فسوف يقضي كذلك على أية فرصة له بإبرام اتفاق تجارة حرة مع الولايات المتحدة.

كان من المفترض بهذه الشراكة العابرة للأطلسي أن تشكل في النهاية إحدى أهم الفرص التي تتيحها “بريكست”، أي فرصة لربط المملكة المتحدة بعالم التجارة الزاخم في أميركا بدلاً من الاتحاد الأوروبي المتصلب، كما قيل. ولكن إن استمرت الأمور على هذا المعدل فيحتمل أن ينجح الاتحاد الأوروبي في إبرام اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة قبل أن يتسنى للبريطانيين الجلوس إلى طاولة المفاوضات حتى.

لا لبس في كلام رئيسة مجلس النواب بيلوسي التي أكدت “كما قلت خلال محادثاتي مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية وأعضاء من مجلس العموم، إن اختارت المملكة المتحدة تقويض اتفاق الجمعة العظيمة [اتفاق بلفاست]، فلن يستطيع الكونغرس ولن يقبل أن يدعم إبرام اتفاق ثنائي للتجارة الحرة مع المملكة المتحدة”.

من المحتمل أن يستكمل وفد النواب الأميركيين القادمين إلى لندن خلال عطلة نهاية الأسبوع التحذير الأولي الذي أطلقته بيلوسي، كما يبدو أن الرئيس بايدن عازم على تعيين مبعوث خاص حين يحين الوقت المناسب للتعامل مع الأزمة في إيرلندا وحماية اتفاق الجمعة العظيمة، وإقناع المملكة المتحدة بعدم التخلي عن البروتوكول أو تعديله من جهة واحدة، ويظهر أن المهمة الأخيرة التي قام بها كونور بيرنز إلى العاصمة واشنطن، بالنيابة عن رئيس الوزراء، لم تغير آراء كثيرين.

تكمن السخرية هنا في أن المملكة المتحدة أصبحت أكثر ضعفاً الآن إزاء الضغط الاقتصادي الذي تمارسه الولايات المتحدة بسبب خروجها من الاتحاد الأوروبي، لأن التوصل إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة الآن له قيمة أكبر بكثير على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، مقارنة بما كان عليه الوضع عندما كانت المملكة المتحدة عضواً في الاتحاد الأوروبي (وتمتعت بنفوذ أكبر وقدرة أعلى على التفاوض بسبب عضويتها)، وعلى أي حال لم تكن هذه الأزمة الخطرة المتعلقة بإيرلندا الشمالية لتقع من دون “بريكست”، كما أن هناك ما يثير بعض الشفقة في تبجح وزيرة التجارة الدولية البريطانية آن ماري تيرفيليان في شأن “الاتفاقات التجارية” التي أبرمتها مع ولايات معينة، إذ في أفضل الأحوال ليست هذه الاتفاقات سوى تخفيف من بعض الحواجز التنظيمية على أساس طوعي يستند إلى “مذكرات تفاهم”، فالدستور الأميركي يحفظ حق الكونغرس بالسلطة على المعاهدات والتعريفات الجمركية الملزمة، ولا شك في أن ولايات مثل كاليفورنيا (التي يقارب حجم اقتصادها حجم اقتصاد بريطانيا) وتكساس تشكلان سوقاً مهمة، ولكن إن كان الهدف الرئيس الضغط على بايدن والبيت الأبيض بغية البدء بمفاوضات فقد يأتي هذا الجهد بنتائج عكسية.

خلال فترة ما بعد استفتاء العام 2016 وما تخللها من اندفاع، كثر الكلام عن سهولة إبرام اتفاقات تجارية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومع الصين والهند كذلك، ومن العدل القول بأن الواقع مختلف جداً كما بينت الأيام، كما أن العديد من الاتفاقات التجارية التي وقعتها المملكة المتحدة لاحقاً، كما تلك المبرمة مع اليابان وكينيا مثلاً، جاءت إلى حد ما نتيجة الاتفاقات المبرمة بالأساس مع الاتحاد الأوروبي.

أما الاتفاقات مع أستراليا ونيوزيلندا فقد تكون أكثر طموحاً (تتكتم الحكومة في شأن تقويمات الأثر) ولكن لا يعوض أياً منها، حتى مجتمعة، خسارة أسواق الاتحاد الأوروبي وسلاسل التوريد غير الاحتكاكية، فما بالك بتدفق العمالة والمهارات بين بريطانيا وأوروبا.

يبدو أن البريطانيين لم يفهموا تلميح الرئيس أوباما قبل الاستفتاء عندما قال بأن بريطانيا ستكون في آخر الصف، وحين كان دونالد ترمب في البيت الأبيض بدر منه كثير من الكلام اللطيف إنما ليس أي اتفاق فعلي، وحتى لو جرى التوصل إلى اتفاق فلربما لم يكن ليستمر، لأن الكونغرس يجب أن يصدق على كل الاتفاقات التجارية في أي حال، وهو هيئة تشريعية معروفة بمصالحها الثابتة وإجراءاتها التي تستهلك كثيراً من الوقت.

ولو قرر الرئيس بايدن تسريع وتيرة المحادثات البريطانية – الأميركية السطحية في الوقت الحالي، فقد يتبين أنه مفاوض صعب في مسألة دخول الولايات المتحدة إلى السوق البريطانية، بما في ذلك إلى مجال الرعاية الصحية، كما في ما يتعلق بالمنتجات الزراعية حيث تشكل قضية الدجاج الشهير المغسول بالكلور نقطة خلاف.

وحتى عودة دونالد ترمب في العام 2024 لا توفر أي ضمانة بعقد اتفاق تجاري، لا سيما إن كانت الكفة فيه تميل لمصلحة بريطانيا.

إن وضع تمثال لوينستون تشرشل في المكتب البيضاوي أمر مختلف جداً عن خيانة المزارعين الأميركيين.

لقد وضع الرئيس بايدن بالفعل شرطاً هائلاً، على أنه غير رسمي، لإبرام أي اتفاق تجاري بريطاني – أميركي، وهو ضرورة احترام اتفاق التجارة والتعاون البريطاني الأوروبي، كما بروتوكول إيرلندا الشمالية، ومع توافق واشنطن وبروكسل على هذه النقطة فإن البروتوكول غير قابل للمساومة والنقاش فعلياً، مهما قالت ليز تراس أو الحزب الديمقراطي الوحدوي.

يكتشف البريطانيون رويداً رويداً ما تعنيه “استعادة السيطرة” إلى جانب ممارسة السيادة من قبل قوة متوسطة الحجم، في عالم تسيطر عليه تكتلات تجارية ضخمة، وهذا لا يساعد بريطانيا في “الازدهار بقوة” مثلما وعد السيد جونسون في السابق.

المصدر: اندبندنت عربية ـ المادة الصحفية تعبر عن راي الكاتب