محطات مضيئة من تاريخ الوحدة اليمنية
السياسية: بقلم: زيد يحيى المحبشي
الوحدة اليمنية في مفهوم الراحل محمد أحمد نعمان: ” أمٌ لكل اليمنيين، وينبغي التعامل معها على هذا الأساس، كأم وليس كزوجة, فالأم في هذا السياق لا يمكن إلاّ أن نحبها مهما كانت، وبأي شكل بدت، أما الزوجة فنحن نختارها أو أقل شيء نقبل بها، لهذا لا مناص من أن الوحدة هي بالنسبة لليمنيين (الأم), قدرنا الذي لا يمكن أن نوجد بدونه”.
وحدة اليمن أرضاً وإنساناً من المسلمات الثابتة ثبوت وجود الشعب اليمني والأرض اليمنية، والسمة الغالبة على تاريخ هذا الشعب، والقاعدة العاكسة لجوهر الإرادة اليمنية، النازعة على الدوام إلى التوحد والاتحاد، باعتبار ذلك من عوامل القوة في مواجهة أخطار الطبيعة وتطويعها لصالح الإنسان اليمني ومواجهة الأطماع الاستعمارية الخارجية.
ورغم تقاسم الحكم في بعض الفترات بين أكثر من دولة, إلاّ أن هذه الدويلات لم تنجح في إرساء أي شكل من أشكال الانفصال, لأن الوحدة الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والثقافية كانت أكثر قوة وصلابة ومتانة من النزعات الانفصالية الشاذّة والغريبة على اليمن وشعبه الواحد الموحد في مساره ومصيره منذ فجر التاريخ.
في الاتجاه الأخر شكلت حالات التجزئة والانشطار التي شابت اليمن في بعض المراحل التاريخية، ظاهرة استثنائية وعابرة، فرضتها ظروف استثنائية، وصنعتها إرادة غير يمنية، أي أنها لم تكن في يوم من الأيام أمراً طبيعياً بل ظاهرة غريبة ودخيلة على اليمن وشعبه وتاريخه الوحدوي المشرق.
ومن خلال قراءتنا السريعة لتاريخ اليمن الوحدوي منذ الألف الخامسة قبل ميلاد المسيح عليه السلام وحتى أخر نموذج للوحدة اليمنية في العام 1990، تأكد لنا أن فترات التوحد كانت على الدوام الأطول زمنياً وأحد أهم عوامل القوة والأمن والاستقرار والازدهار والانتعاش الاقتصادي والفكري والحضاري ليس لليمن فحسب بل ولمحيطها الإقليمي، في حين كانت فترات التجزئة قصيرة جداً, كما أن ما شهدته اليمن من ممالك ودول متعددة سواء قبل الإسلام أو بعد استقلال اليمن عن الدولة العباسية وصولاً إلى العام 1914 إنما كان تعدد وتنوع يثري قاعدة التوحد ويعززها، لسببين هما:
1 – استمرار بقاء التواصل والاتصال الثقافي والمعيشي, ناهيك عن حرية تنقل الناس فيما بينهم.
2 – عدم تجاوز سقف الاختلاف المستوى السياسي، ودون أن يتعداه إلى المستويات الأخرى سواء كانت اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية, وهو ما حافظ على وحدة الشعب ووحدة خصائصه، كما لم تشهد تلك الفترة وجود حدود سياسية مرسومة بالمعنى المتعارف عليه بين الدول.
الوحدة اليمنية قبل الإسلام
ذُكِرت اليمن في الكثير من الكتب القديمة كالتوراة وكتب مؤرخي الإغريق واليونان ووصفت باليمن السعيد ولم يوصف أي بلد غيرها بهذا، ووصفها القرآن الكريم بالجنة والبلدة الطيبة، ولم يصف أي بلد سواها بهذا, وخصها بسورتي سبأ والأحقاف ولم تكن سبأ سوى مملكة اليمن القديمة، وهو تعبير لغوي مجازي المقصود منه السلطة اليمنية والشعب اليمني وحضارته الضاربة التي قامت بسبأ مأرب وأحقاف حضرموت.
وسبأ والأحقاف أسماء لمناطق يمانية، ومن القصص القرآنية الخاصة باليمن: أصحاب الجنة وأصحاب الأخدود والفيل وأبرهة الأشرم وإرم ذات العماد وذو القرنين السيار وملكة سبأ والسيل العرم وقوم تبع.
وعندما أسلم أهل اليمن طواعية خصهم الله بسورة النصر، وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يستقبل وفودهم: “جاءكم أهل اليمن ….”.
هكذا تحدث القرآن والرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل اليمن ومملكة سبأ في إطار منطق الوحدة وليس منطق التجزئة، وعن مكانة هذا البلد ودوره الحضاري قبل مجيء الرسول الخاتم، على أن هذا الدور وتلك المكانة لم تأتي من فراغ، بل كان هناك شعب عظيم وقادة كبار استطاعوا توحيد أيادي سبأ منذ فجر التاريخ في كيان حضاري موحد، توفرت له كل أسباب القوة والازدهار، بما جعله يصل إلى مستوى تنظيم نفسه، في نُظم سياسية قوية، فرضت نفسها على قبائل الجزيرة العربية وما وراءها من الأمم، وما كان لها أن تصل إلى هذا المستوى لو لم تكن موحدة أرضاً وإنساناً، في وقت تعاقبت على حكم اليمن العديد من الممالك هي معين وسبأ وحمير، وفي فلكها أوسان وقتبان وحضرموت.. إلخ.
وهناك أكثر من 5000 نقش أثري، تتحدث عن هذه الممالك، وما شهدته من بروز قادة كبار، كان لهم الكأس المُعلا في تحقيق الوحدة اليمنية والحفاظ عليها، وكان بين كل وحدة وأخرى فترات من الضعف والتفكك العابرة.
وشهدت تلك الحقبة التاريخية تحقيق نوعين من الوحدة، هي:
1- الوحدة الشاملة: ضمت اليمن والجزيرة العربية وما وراءها من الأمم، ومن أبرز قادتها: “يعرب وسبأ والحارث الرائش وذو القرنين وكرب آل وتر” وغيرهم.
2– الوحدة القُطرية: اقتصرت على اليمن أو الجزء الأكبر منه، كما هو حال دولة حضرموت وأوسان وحبان وسمعي حاشد قبل الإسلام , والرسوليين والصليحيين والقاسميين في التاريخ الوسيط.
وفي كليهما فقد كان لتوحد اليمن أهمية كبيرة في استقرار وأمن الجزيرة العربية، والعكس في حالة التفرق والتشرذم، وهذه الحقيقة لا تزال السمة الغالبة إلى يومنا، كون اليمن المركز الرئيسي للأمن والاستقرار الإقليمي، نظراً لأهميتها الموقعية والجيوسياسية، وهذه أحد أهم أسباب عدوان تحالف الاستعمار السعودي الإماراتي اليوم، لأن وحدة اليمن وقوته يعني ببساطة “كش ملك” لصنائع الاستعمار البريطاني في الجزيرة العربية وأسيادهم في لندن وواشنطن ومن ورائهم ربيبتهم إسرائيل، ولهذا السبب حرصت السعودية منذ قيام دولتها الأولى وحتى يوم الناس على تكبيل اليمن بالمؤامرات وإغراقه بالصراعات المحلية، كي يظل على حاله من الضعف والتشضي.
مرَّ اليمن قبل ظهور الإسلام بمرحلتين هما:
1 – المرحلة المشرقة: استمرت من القرن 15 قبل الميلاد وحتى العام 115 ق.م، وهي مرحلة الدولة السبئية.
2 – المرحلة المظلمة: استمرت من العام 50 ق.م وحتى القرن 6 الميلادي، وهي مرحلة الدولة الحميرية، وذلك بسبب وقوعها تحت تأثير الأطماع الخارجية كالبطالسة اليونان والرومان والأحباش والفرس.
الممالك القديمة الكبرى:
1 – معين:
وهو اللقب الثاني لـ”عبد شمس بن يشجب بن يعرب” إلى جانب لقب الشهرة “سبأ الأكبر”، ومعين وسبأ من أعظم دول العهد القديم وبينهما تداخل كبير، ظهرت معين من الجوف في نحو 4000 – 900 ق.م، وقد عثر على نصب تذكاري بابلي ذُكرت فيه معين وصِلاتها بمملكة بابل، يعود تاريخه إلى 3750 ق.م، وما يهمنا هنا أنها كانت دولة تجارة وفتح اقتصادي وسلام، وفي عهدها تحققت وحدة اليمن والجزيرة، ووصل نفوذها الاقتصادي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، وإليها يعود فضل اكتشاف فنون الملاحة البحرية، وكان نظام الحكم فيها ملكي وراثي معتدل واستشاري، واقتصر تدخل الملك فيها على المسائل العليا المتعلقة بحقوق الملك والشعب فقط.
2 – سبأ:
مؤسسها “سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب”، ومرت بمرحلتين هما:
أ – سبأ الأولى: عاصرت الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، وعثر على وثائق سومرية تعود إلى الفترة 5000 – 3500 ق.م، تكلمت عن وجود علاقات ربطتها بمملكة سبأ الأولى السابقة لظهور معين.
ب – سبأ الثانية: قامت خلال الفترة 950 – 115 ق.م، واستطاعت القضاء على معين والحلول مكانها، وكانت دولة حروب وفتح، وربطتها صلات مع ملوك “آشور”، وأكثر ملوك سبأ كانوا من موحدي اليمن والجزيرة العربية.
وينقسم عهد سبأ إلى مرحلتين هما:
أ – مرحلة المكارب 850 – 620 ق.م وفي عهدهم تم الجمع بين الحكم والكهانة والرياسة الدينية.
ب – مرحلة الملوك 610 – 115 ق.م.
وشهدت فترة دولة سبأ مقاومة عنيفة من ملوك وأمراء الإقطاع، الذين اصطدمت سياسة توسعها بمصالحهم واستقلالهم, وكان النظام فيها ديني أكثر منه سياسي.
3 – حمير:
تنسب إلى “حمير بن سبأ”, قامت خلال الفترة 115 ق.م – 525 م، ويسمى عهدها بعهد “التبابعة”، وفيه تطورت الألقاب الرسمية للملوك تبعاً لتوسع نفوذ الدولة، وشهدت بعض فتراتها توحد اليمن والجزيرة.
وكانت سبأ المملكة وحمير الملوك والدولة، وكان بينها وبين ملوك سبأ وكهلان تنافس وتداخل, لا صراع وتنافر، وكل منهما كان يسعى لتوحيد اليمن تحت نفوذه بشتى الوسائل من تحالفات ومعاهدات واندماجات وحروب.
عمالقة الوحدة قبل الإسلام:
زخرت مرحلة ما قبل ظهور الإسلام بالعديد من عمالقة التوحيد منهم على سبيل المثال:
1 – “يعرب بن قحطان” 5700 – 5000 ق.م: الجد الجامع لكل اليمنيين والعرب، وأول الملوك في التاريخ القديم، وأول من أقام دولة يمانية موحدة عاصمتها صنعاء، دامت من بعده قرابة 500 سنة.
وإسمه “يمان” أو “يمن” أو “يامن” بحسب الهمداني، وبه سميت اليمن، وكونه أول من اشتق وحذف واختصر وأوجز وأعرب في كلامه لُقِّب بـ”يعرب”، ومن حينها ظهر اسم العرب، وفي هذا يقول بن أبي الحديد في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة ص 495: “إن يعرب أول من أقام دولة يمانية عربية في التاريخ القديم، أي وحدّ القبائل القحطانية، وكانت قد تكاثرت وانتشرت وانتقلت إلى أطوار الحضارة، بما جعلهم يقيمون دولتهم”.
2 – “عبد شمس – سبأ الأكبر- بن يشجب بن يعرب” 3750- 3500 ق.م: أول من أعاد وحدة اليمن الطبيعية مع الجزيرة العربية، واهتم بالزراعة والري والتجارة، واشتهر بكثرة غزواته، وأسس الإمبراطورية السبئية بعهديها المعيني والسبئي، وكان يمارس السلطة بواسطة ممثلين عن الشعب من ثلاث طبقات، هي: المزود والأقيال والأذواء.
3 – “عبد شمس وايل – سبأ الثاني- بن وائل بن الغوث” نحو 2750 ق.م: ثالث الموحدين، وإليه يعود فضل إنشاء سد مأرب، ومن بعده ظلت اليمن موحدة في عهد خلفائه.
4 – “تبع ذي مرائد- الرائد تبع الأكبر” نحو 2150 ق.م: الموحد الرابع، واستمرت الوحدة في عهد ابنه “شمر ذو الجناحين الأول”، والملك الصعب “ذو القرنين السيار” – تبع بن تبع الأقرن بن شمّر يرعش بن إفريقيس – وعهد الملك “شدد بن قيس بن صيفي” في نحو 1500 ق.م، وصولاً إلى أخر الموحدين قبل الإسلام وهو سيف بن ذي يزن 575 – 596م.
واشتهر هذا العهد بالكثير من العمالقة الذين استطاعوا أن يوحدوا اليمن والجزيرة، وأن يفرضوا أنفسهم على غيرهم من الأمم، وبين كل وحدة وأخرى فترة ضعف ووهن وتشرذم، لكنها ظلت في إطار الحدود السياسية دون أن تطال الجوانب الأخرى، كما شهدت تلك الفترة تنافس بين ملوك اليمن، ترك بصماته على المنطقة، ولذا كان من الطبيعي أن يجتمع العرب ويتحدوا باجتماع ملوك اليمن وتوحدهم، ويتفرقوا بتفرقهم.
مظاهر الوحدة:
1- وحدة الأرض والإنسان:
بإجماع المؤرخين ظلت اليمن في مساحتها الطبيعية وحدة لا تتجزأ منذ أن سكنها نبي الله نوح وحتى منتصف العقد الثالث من القرن العشرين، مع عدم ورود أي ذكر لشمال أو جنوب، وعليه يحدد المؤرخون مساحتها الطبيعية بالقسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية والذي يشمل ما بات يُعرف اليوم بـ الجمهورية اليمنية وسلطنة عمان والجزء الأعظم من جنوب السعودية، وهي الأرض التي أخذت مُسمّاها من الملك “يمن بن قحطان” الملقب بـ”يعرب”، وقحطان ليس الأب المباشر ليعرب، بل بينهما نحو ثلاثة آلاف سنة، وسُمي شعبها باليمنيين ودولتها باليمن، ومن ذرية هذا الملك تناسلت قبائل العرب قاطبة، يقول ابن هشام: “ان يعرب بن قحطان سمي يمناً، وبه سميت اليمن”، ويضيف ابن منظور: “وهو أبو اليمن كلهم”.
ولا زالت القبائل اليمنية عبر العصور تحتفظ بأنسابها وأصولها وفروعها المكونة فيما بينها نسيجاً اجتماعياً واحداً، ناهيك عن التجانس في العادات والتقاليد والقيم والأهداف والهموم والطموحات والتطلعات.
2 – الوحدة الاقتصادية والحضارية:
من الأمور اللافتة إدراك الممالك اليمنية مُبكراً مساوئ تعدد الكيانات القبلية ذات النفوذ المحلي والكيانات الإقطاعية، لما لها من ضرر على وحدة اليمن، فحاولت تلافي ذلك عبر إقامة روابط اجتماعية على أُسس اقتصادية، قُسِّمت بموجبها قبائل اليمن إلى وحدات “مجمعة” زراعية وصناعية ومهنية، وربطت بينها بروابط العمل والإنتاج بدلاً من أواصل القرابة والدم.
أي أن تلك الممالك فضلت ربط القبائل بالروابط الدينية والاجتماعية والاقتصادية لا رابطة الدم والنسب، وعلى أساسه برز ما يسمى بالعمل الجماعي التعاوني.
وتعددت وتنوعت صور الحضارات القديمة، ما نجد دلالته في آثارها ونقوشها، وفي وضع أسس السدود وإنشاء المحافد والمدن والقصور والمدرجات الزراعية والمعابد وشبكات الري والصهاريج والحاميات التجارية والمنارات, وأقامت مستوطنات حضارية في مختلف المناطق وسنّت ما يستلزمها من التشريعات والتنظيمات.
والطابع العام للنظام السائد قبل الإسلام هو النظام الإقطاعي, لكنه كان أقرب إلى التعاونيات الجماعية, فيما كانت الحياة الاجتماعية تتسم بالطابع القبلي مع هيمنة واضحة للسلطة الدينية.
وشهدت تلك الفترة حضارة إنسانية رفيعة من أبرز مظاهرها اللغة السبئية القديمة والخط المسند, وأظهرت الآثار والنقوش المنتشرة في أنحاء اليمن تشابهاً وتجانساً كبيراً بين أسماء الأوائل في السكن ومحال الإقامة.
3 – الوحدة السياسية:
ضمت اليمن عدداً من مراكز القوى الساعي كل منها إلى مد النفوذ والاستقطاب على سائر المجال الحيوي لليمن، في وقت كانت الوحدة فيه تمثل قوة وسلاح في وجه الغزاة والمحتلين وغضب الطبيعة، وغالباً ما كان يصحبها نُظم سياسية شوروية، تعطي للشعب حق المشاركة الفعلية في صناعة القرار، سواء عبر اتحادات مجالس القبائل أو المجالس الاستشارية “المسود”.
ومن مظاهر الوحدة السياسية أيضاً الأسماء والمسميات التي أُطلقت على الأماكن، والتعاريف الفنية كـ”المحفد” و”المخلاف”، حيث أطلق الأول على القصور والقلاع المحصنة، والثاني على الأقاليم، وهي تسميات إدارية, ويعد “يعرب” أول من قسّم جزيرة العرب إلى ولايات، وجعل على كل منها والي، فيما كان “سبأ بن حمير” أول من وضع التقسيمات الإدارية، فجعل “المحفد” مسمى للناحية أو المديرية عليها أمير، و”المخلاف” مسمى للإقليم عليه قيل/ جمع أقيال, وتحدث الهمداني عن 30 مخلاف يمني، سُمّي كلٌ منها بمن سكنه من ملوك حمير وكهلان المتغلبين في عصورهم، ومن الطبيعي أن تكون أسماء أماكن سُكنة الممالك اليمنية القديمة وأسماء أعلامها ومشاهيرها متشابهة ومتجانسة.
العوامل المؤثرة على وحدة اليمن:
يأتي في مقدمتها نزعات التسيُّد والاستئثار بالسلطة إلى جانب العوائق الطبيعية والنزعات السياسية وجماعات المصالح والضغط خصوصاً أمراء الإقطاع، مع دخول العامل الخارجي منذ النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وتحديداً في العام 24 ق.م، عندما حاول الرومان احتلال اليمن ومن بعدهم الأحباش والبطالسة اليونان والفرس، وما أوجده هذا التنافس الاستعماري الحاد على موقع وثروات اليمن من صراعات وتعصبات لازالت اليمن تكتوي بنارها إلى يومنا.
ناهيك عن ضعف بعض ملوك تلك الفترة وخلودهم إلى الترف والاسترخاء، وتخليهم عن القيم السياسية لبناء الأسرة والمجتمع والفرد، ما جعل القرون السبعة المستبقة ظهور الإسلام نقطة مظلمة في تاريخ اليمن القديم باستثناء فترات متقطعة منها.
الوحدة اليمنية بعد الإسلام
أتى الإسلام واليمن في ذروة الانقسام والتشرذم والتمزق والحروب، الأمر الذي ساعد في مسارعة أبنائه إلى اعتناق هذا الدين حُباً وطواعية، لأنهم وجدوا فيه الطريقة المُثلى لاستعادة وحدتهم، وبالفعل تمكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من توحيد أبناء اليمن والقضاء على الطبقات وحكومات الأقاليم والأقيال، فأرسل إليها رجالاً كثيرين، ليسوا جميعاً حُكاماً أو ولاة بقدر ما كانوا يحققون التوعية بالإسلام، وتحقيق سيادة الدولة المركزية، وبالتالي التعامل مع اليمن كوحدة إدارية وسياسية متكاملة.
ورغم نجاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معالجة الصراعات التي سادت اليمن قبل ظهور الإسلام, لكن ذلك سرعان ما عاد إلى الواجهة تحت مسميات آخر مع نهاية العام 40 هـ، وقفت حجر عثرة أمام توحد اليمن باستثناء فترات قصيرة ومتقطعة, كما أتاح ذلك فسحة وفرصة ذهبية للأطماع الخارجية في اليمن كالعثمانيين والجراكسة والأيوبيين، والفاطميين والمماليك والاستعمار الغربي، وخاتمة الأثافي الاستعمار السعودي الإماراتي وهو أكثرها قذارة وبشاعة، وما بينهما شهدت اليمن العديد من الإمارات والممالك والدول كانت تتوسع وتنكمش حسب الظروف الداخلية والخارجية وشخصية الحكام.
عمالقة الوحدة بعد الإسلام:
1 – “محمد بن عبدالله بن زياد”: أول من وحد معظم أجزاء اليمن في العصر الوسيط، وأول من أقام إمارة يمنية مستقلة عن الدولة العباسية عام 207 هـ الموافق 819 م، واستمرت الوحدة في عهده ثلاثة عقود، ومما ساعد على ذلك تحقيقه رزمة من الإصلاحات العمرانية والثقافية، ومن بعده نجح “حسين سلامه” مولى بني زياد في توحيد اليمن لفترة قصيرة وامتد سلطانه من الشحر إلى مكة المكرمة.
2 – “علي بن مهدي الحميري”: تمكن في 1159م من القضاء على الدولة النجاحية في تهامة، وإخضاع معظم أجزاء اليمن، وإقامة نظام قريب من الاشتراكية، ما أدى الى تأليب القوى الإقطاعية ضده، وتحالفها مع الأيوبيين لإسقاط دولته 1173م.
وبالفعل استطاع الأيوبيين بالتعاون مع أمراء الإقطاع المحليين من احتلال اليمن باستثناء القسم الأعلى الواقع تحت نفوذ أئمة الزيدية، وما أشبه الليلة بالبارحة فقد نجح الاستعمار السعودي الإماراتي بالتعاون مع أمراء الإقطاع المحليين المتضررين من إقامة دولة يمنية حرة مستقلة ذات سيادة بعد ثمانية عقود من الهيمنة السعودية على القرار والسيادة اليمنية، في السيطرة على معظم أجزاء اليمن باستثناء القسم الأعلى الواقع تحت نفوذ أنصار الله، والذي ظل على الدوام عصياً على الغزاة والمحتلين ومنطلق دحرهم من اليمن، وهو أمل اليمن الحاضر للتحرير والاستقلال وإعادة الوحدة وتصحيح الاختلالات التراكمية، المتوالدة من رحم التدخلات والهيمنة السعودية ما بعد اتفاقية الطائف.
3 – “علي بن الفضل الخنفري” 889 – 914م: شملت دولته أغلب أجزاء اليمن، لكن ذلك لم يدم سوى 17 عاماً، ومما ساعده على إقامة دولته نجاحه في إسقاط إمارات الإقطاعيين.
4 – “عمر بن علي بن رسول” 1230 – 1455م: أحد أشهر موحدي اليمن بعد الإسلام، واستمرت في عهد خلفائه قرابة 93 سنة، ووصل نفوذه الأدبي إلى عمان شرقاً والحجاز غرباً.
5 – “علي بن محمد الصليحي” 1048 – 1150م: ثاني الموحدين لليمن بكاملها بعد بني رسول، واستمرت إلى آخر عهد الملكة “سيدة بنت أحمد الصليحي”، ومما ساعده على ذلك أخذه أمراء الإقطاع وإسكانهم في العاصمة صنعاء، ليكونوا تحت رقابته المباشرة، وامتد نفوذه الأدبي إلى الحجاز.
6 – الإمام المتوكل على الله “إسماعيل بن القاسم” 1654- 1686م: آخر الموحدين في العصر الوسيط، وخُطب له في الحرم المكي وبسط نفوذه على معظم أجزاء اليمن.
7 – وحدة 22 مايو 1990: أخر نموذج لوحدة اليمن في العصر الحديث، أتت نتاج مخاضات أربعة عقود، وتعمدت بدماء الشهيد “إبراهيم الحمدي” والتي كانت بمثابة الدينمو المحرك لعجلة الوحدة المتباطئة، لتعم الفرحة وتزهر دمائه الطاهرة حلما انتظره الشعب بفارغ الصبر في 22 مايو 1990، بعد 12 ربيعاً من رحيل الأب الروحي للوحدة اليمنية “إبراهيم الحمدي”.
أخطاء كثيرة رافقت السنوات الأولى لقيام الوحدة، عجلت بوضعها في العام 2007 على مفترق الطرق، ليأتي تحالف عدوان العاصفة في العام 2015 ويرمي بكل ثقله لصالح مشاريع التقسيم والتشضي، وتلغيم الأمن والسلم المجتمعي في اليمن، لأهداف وغايات استعمارية قديمة متجددة لا يتسع المقام للحديث عنها بل تحتاج الى دراسة مستفيضة في مباحث مستقلة.
كل ما سبق يؤكد لنا بوضوح أن تعدد الدول والدويلات في اليمن، وتداخلها واستعانة بعضها بالقوى الخارجية، قاد في نهاية المطاف إلى إنهاكها وضعفها وتلاشيها، وكون العامل الاقتصادي في طبيعته من العوامل القابلة للتفجير في أية لحظة، فإننا نلحظ جلياً أهمية تعامل الدول اليمنية المتعاقبة والمتداخلة مع أمراء الإقطاع، باعتبار معيار التحكم فيهم من العوامل الحاسمة في توحيد اليمن وأمنه واستقراره، في حال تمكن ملوك تلك الدول من تحجيم الإقطاعيين وتقليص نفوذهم والعكس في حالة الفشل، ما نجد دلالته في السمات العامة لفترات التوحد والتي حملت معها الأمان والاستقرار والانتعاش الاقتصادي النسبي والرضا الجماهيري وحماية البلاد من أطماع الغزاة والمستعمرين.
* المراجع:
– محمد ناصر ناصر حسن هادي, عمالقة الوحدة اليمنية في التاريخ القديم والحديث, مركز عبادي, ط1, 2001.
– محمد سالم شجاب, الوحدة والثورات اليمنية عبر العصور, ط1 , 2007.
– القاضي عبدالله الشماحي, اليمن الإنسان والحضارة, منشورات المدينة – بيروت, ط3 , 1985.
– محمد يحيى الحداد, التاريخ العام لليمن, ج 1- 4, منشورات المدينة – بيروت, ط1, 1986.
– سلطان أحمد عمر, نظرة في تطور المجتمع اليمني, دار الطليعة, ط1, شباط 1970.
– حسن قاضي, متى تجزأت اليمن؟ بدلاً من: متى توحدت اليمن؟, مجلة الحكمة, اتحاد الأدباء والكتاب – صنعاء, العدد 149, سبتمبر1987.
– د. أحمد الأصبحي, قراءة في تاريخ اليمن الوحدوي, معهد الميثاق 20 مايو 2007.
– د. عبدالعزيز الشعيبي, الخلفية التاريخية للوحدة اليمنية, معهد الميثاق 20 مايو 2007.