السياسية:
في نظرة إلى الوراء قليلاً، سنكتشف أنَّ المسألة الأوكرانية لا تقل أهمية عن لحظات تاريخية خطرة، مثل فتح القسطنطينية واكتشاف أميركا.

الأحداث والحوادث تقع كلّ يوم في المسرح الدولي، لكنْ ثمة أحداث تصبح مفصلية، وتغدو بمنزلة انقلاب تاريخي، تظهر بعده قوى، وتختفي أخرى.

ومن أوكرانيا، خط النهاية للعالم الأوراسي، يحدث الانقلاب الكبير، من نظام روماني – أميركي مزدوج إلى نظام متعدد القطبية متعدد الثقافات واللغات.

وفي نظرة إلى الوراء قليلاً، سنكتشف أن المسألة الأوكرانية لا تقل أهمية عن لحظات تاريخية خطرة، مثل فتح القسطنطينية واكتشاف أميركا في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، واندلاع الحرب العالمية الأولى في الثاني من آب/أغسطس 1914، ثم الحرب العالمية الثانية في الأول من أيلول/سبتمبر 1939.

ويذهب بعض المؤرخين بعيداً، ويجعلون الثورة الإيرانية 1979 وأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 جزءاً من تغيير المسارات التاريخية. ومهما كانت الأحداث المؤثرة، فإنَّ إسقاط الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، وصناعة كيان مختلق في فلسطين، ما هما إلا نتائج مباشرة للحرب العالمية الثانية التي تتمّ تصفيتها الآن في أوكرانيا.

على أية حال، فإنني أميل إلى ما صرح به لافروف، وزير خارجية روسيا، في الصين في نهاية آذار/مارس الماضي، عندما قال إننا نعمل على وجود نظام متعدد القطبية مع الصين. هذا النظام واقع لا محالة أو أصبح موجوداً منذ الساعات الأولى من فجر الخميس الموافق 24 شباط/فبراير من العام الجاري، حين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن عملية عسكرية في أوكرانيا، وأمر القوات الروسية بشن هجوم بري وجوي واسع النطاق. وبذلك، وضع حداً لمتلازمة الضفدع المغلي الذي حاول الغرب أن يمارسها، عبر التوسع التدريجي لقوات الأطلسي في المجال الحيوي للاتحاد الروسي.

وإذا كان هذا النظام الدولي يتغيّر الآن بالفعل، فأين موقع العرب منه؟ وهل سيقعون في فخ النظام الروماني الغربي مرة أخرى، أو سيفهمون مغزى ما بعد المسألة الأوكرانية؟

من الواضح لكلِّ ذي عقل أنَّ العملية العسكرية في أوكرانيا ليست محض مواجهة بين روسيا وأوكرانيا، ومن ورائها حلف الأطلسي (الناتو) فحسب، بل هي خطوة مثّلت منعطفاً تاريخياً مهماً، تمثّل أول تجلياته في تخلخل أركان النظام العالمي الأحادي القطبية الذي أعلن ولادته الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في تسعينيات القرن المنصرم، على أثر تفكك الاتحاد السوفياتي.

لقد امتنعت دول مجموعة “بريكس”، وهي الصين والهند وجنوب أفريقيا، إضافة إلى باكستان وإيران، وهي الدول التي تشكل في مجموعها أكثر من ثلث سكان العالم، عن إدانة العملية العسكرية، بل قبلت، ضمنياً، بحق روسيا في الدفاع عن مجالها الحيوي ومصالحها الاستراتيجية، في حين تكتلت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركي ومن يدورون في فلكها لدعم النظام الأوكراني بالمال والسلاح، فضلاً عن تشغيل ماكيناتها الإعلامية لإدانة روسيا وشيطنتها، بل اتخذت خطوات غير مسبوقة لحصار روسيا سياسياً واقتصادياً وإعلامياً.

كانت تلك مؤشرات تنبئ بأنَّ العالم أصبح أمام لحظة تحول تاريخية، وأنَّ نظاماً دولياً جديداً يتبلور، وخصوصاً أنَّ القطب الأوحد، والمتمثّل بالولايات المتحدة الأميركية، يمر بأزمة مركبة أسهمت في تراجع نفوذه في مناطق عدة، بدءاً من العراق، مروراً بأفغانستان وشرق آسيا، وصولاً الى أميركا الجنوبية، ما يعني بداية نهاية الهيمنة الأميركية الغربية، وأن العالم بدأ يتحرر تدريجياً من المظلة الأميركية التي أضحت مثقوبة.

لقد مثّلت “وثيقة الاستراتيجية الأميركية الشاملة” لبول وولفوتيز أو “وثيقة البنتاغون” فيما بعد منهاج عمل الولايات المتحدة الأميركية لترسيخ تفردها بالهيمنة على العالم، فقد تضمّنت ضوابط شديدة لمنع أي قوة إقليمية من أن تتحوَّل إلى قوة كبرى، حتى على مستوى إقليمها، وطرحت بناء خرائط جديدة للشرق الأوسط.

وفي سبيلها لذلك، شنت عدة حروب مباشرة أو عبر وكلائها، بدءاً من أفغانستان إلى العراق، ومن ليبيا إلى سوريا. وقد دفع العرب أثماناً باهظة جراء تلك السياسات، من بث الفتنة داخل مجتمعاتنا العربية إلى فقدان عشرات الآلاف من الضحايا جراء الحروب التي أشعلتها الولايات، ما يعني أنَّ العرب من أكبر المستفيدين من انتهاء الهيمنة الأميركية أو تقلصها. وقد آن الأوان للعرب حتى يخرجوا من تحت المظلة الأميركية المثقوبة.

إنَّ المجتمع العربي يملك من المقومات التاريخية والجغرافية والبشرية والثقافية والاقتصادية ما يؤهله للقيام بالدور المنوط به، والمتمثل بملء الفراغ الذي سيتركه الغرب الاستعماري، بانسحابه المنتظر من منطقة الشرق الأوسط.

ربما يجدر هنا ذكر أنَّ الوطن العربي يمتلك طاقات وثروات طبيعية وبشرية ضخمة ومهمة، سواء من ناحية حجمها أو كمياتها، علاوةً على ترابط الدول العربية بوحدة جغرافية متصلة من الأراضي، تقع في منطقة تتميز بمركز استراتيجي تتوسط بين الشرق والغرب، ويجمعها تاريخ مشترك ولغة واحدة، ما يؤهلها إلى أن تصبح قوة اقتصادية وسياسية يمكن أن تؤدي دوراً مهماً في النظام العالمي الجديد.

إنَّ العرب يتوزعون على 22 دولة، ترتبط جميعها بوحدة جغرافية متصلة، تمتدّ من المحيط الأطلسي غرباً إلى بحر العرب والخليج العربي شرقاً، بمساحة إجمالية تقدر بنحو 14 مليون كيلومتر مربع بنسبة 10.2% من مساحة اليابسة، وتقع في قلب العالم القديم آسيا وأوروبا وأفريقيا، ما يمنحها ميزة استراتيجية دولية وإقليمية، فضلاً عن إشرافها على البحرين الأحمر والمتوسط، وبحر العرب، والخليج، وجبل طارق، وباب المندب، ومضيق هرمز، حيث تمر معظم التجارة الدولية. ويُقدّر العدد الإجمالي للسكان في المنطقة بنحو 440 مليون نسمة، بما يقدر 5.3% من سكان العالم، ويُقدّر مجموع القوى العاملة بنحو 40% من مجموع السكّان.

وتشكّل احتياطات الدول العربية 65% من الاحتياطي العالمي للنفط الخام، وتنتج حوالى 31% من الإنتاج العالمي، وتتمتع المنطقة جغرافياً بميزة نسبية، إذ إنها الأقرب إلى معظم الأسواق العالمية في آسيا وأوروبا، وأيضاً تكاليف إنتاج البرميل لا تزيد على 1.50 دولار، وتكلفة اكتشافه 5 سنتات.

وتحتفظ الدول العربية بحوالى 35% من احتياطات الغاز في العالم. وقد شكَّلت حصتها من إنتاج الغاز الطبيعي المسوق 17% من الإجمالي العالمي، إضافةً إلى الفوسفات والفحم الحجري والرصاص والنحاس، ويتجاوز حجم الاستثمارات العربية 1400 مليار دولار.

إنَّ أمام العرب فرصة تاريخيّة لاستعادة مكانتهم المستحقة في قمرة قيادة العالم الجديد، وهذا لن يتأتَّى بالأمنيات أو بانتظار منحة من المتصارعين على القيادة، بل بالتعامل مع اللحظة التاريخية التي يمر بها العالم، وبذل أقصى الجهود الممكنة لاقتناص الفرصة التاريخية لتحقيق أماني الشعوب العربية، بوضع العرب في المكان اللائق بتاريخهم وقدراتهم وإمكاناتهم.

إن الفرصة التاريخية لا تكرر نفسها، وهي سريعة في حركتها، وتمر مرَّ السحاب، ومن ثم تضيع على من لم يمسك بها ويعمل على توظيفها لتحقيق مشاريعه، والتاريخ ينبئنا بأنَّ العرب دعموا بريطانيا (العظمى) في مواجهتها مع رجل أوروبا المريض (الإمبراطورية العثمانية)، مع وعد بالسماح بالاعتراف باستقلال العرب، ونكثت بريطانيا بالعهد، بل اتفقت وفرنسا على تقسيم البلاد العربية فيما عرف باتفاقية “سايكس – بيكو”، وزرعتا الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، لتضمنا بقاء حالة الانقسام والصراعات. فليستفد العرب من أخطاء الماضي، وليحسنوا استخدام الفرصة التي تتيحها اللحظة التاريخية الراهنة، حتى لا يدخلوا في دوامة ندم جديدة.

ولكنَّ العرب لديهم جوار إقليمي يرتبط معهم دينياً وثقافياً، كما يرتبط معهم بالموارد الطبيعية، الأنهار والبحار، ويجب على هذه القوى المجاورة ألا تساعد المهزومين في النظام الدولي القديم على جعل العرب تحت وطأة التبعية، بل يجب أن يكون التعاون سداً مانعاً لعودة الغزاة القدامى.

* بقلم : إلهامي المليجي
* المصدر: الميادين نت ـ المادة الصحفية تعبر عن راي الكاتب