لماذا يريد أغنى رجل في العالم احتكار الإنترنت؟
السياسية:
يقول ماسك إنه يريد “تحرير الإنترنت”، لكنه في الواقع يريد أن يجعله منصة تابعة لشخص واحد.
جاءت مساعي أغنى رجلٍ في العالم، إيلون ماسك، لشراء شركة “تويتر”، لتعطي مثالاً واضحاً على تأثير المال في عالم التكنولوجيا، ليس بهدف الربح فقط، بل ضمن عوامل متعددة، تبدو السياسة ومحاولات الهيمنة على السرديات غير بعيدة عنها، إذا ما رصدنا العلاقة بين شخصيات من أمثال ماسك، ومصادر القرار السياسي، وبين ما تقدمه “تويتر”.
“تسلا” والبيت البيض
اعتادت شركة “تسلا” أن يتباهى بها ويروج لها البيت الأبيض والمسؤولون المقربون من مراكز القرار، باعتبار أن الحكومة الأميركية دائماً ما تكون حريصة على إظهار براعة وادي “السيليكون” والروح الابتكارية التي يبشّر بها مناخ العمل.
في قراءة لعلاقة ماسك بالرؤساء الأميركيين، فإن علاقته كانت ممتازة بباراك أوباما، بحيث اهتم الأخير بمجالات عمل شركة ماسك، ولاسيما بناء صواريخ “SpaceX” في عام 2010. واستفادت شركة “تسلا” سابقاً من البرامج الحكومية، التي تهدف إلى تحفيز الطلب على السيارات الكهربائية، ومساعدة الشركات على تبني التقنيات الخضراء.
خلال عهد ترامب، أشارت الصحافة الأميركية إلى لقائه ماسك، وإلى وجود علاقة جيدة تجمع الطرفين. أمّا اليوم، فنلاحظ أن العلاقة باردة ببايدن وإدارته، وخصوصاً إذا ما نظرنا إلى علاقة ماسك بأسلافه. هذا ما نلاحظه من الصحافة الأميركية وتغريدات الناشطين في منصات التواصل الاجتماعي.
عدة شواهد يستشهد بها هؤلاء الناشطون، في أكثر من مناسبة، منها ما أعلنه بايدن في بداية عهده، ومفاده أن هدف إدارته تخفيض عدد السيارات المبيعة مستقبلاً إلى النصف، وإبدالها بالسيارات الكهربائية بحلول عام 2030. حينها، دعا بايدن الشركاء والمعنيين إلى اجتماع في البيت الأبيض، واستثنى ماسك.
في الفترة ذاتها، قدمت إدارة بايدن قروضاً مدعومة قدرها 4500 دولار إلى المستهلكين الذين يقومون بشراء السيارات الكهربائية، التي يصنعها عمال السيارات التابعون للنقابات، وبالتالي يستفيد المنافسون لـ”تسلا”، بحيث يتم استثناء سيارات “تسلا” من القروض المدعومة هذه، باعتبار أن هذا المقترح يعطي أفضلية للعمال العاملين في شركات صغرى في صناعة السيارات، على الشركات الكبرى، مثل “تسلا” و”تويوتا” وغيرهما.
بالتوازي، يحتفل عدد من الناشطين من الحزب الجمهوري الأميركي بعرض ماسك شِراءَ منصة “توتير”، معتبرين أنها الفرصة الأخيرة في “تحقيق الديمقراطية”. الناقد تاكر كارلسون أوضح أن ماسك هو “الأمل الأخير”، بينما تحدثت شخصيات سياسية أيضاً عن أن “نضال ماسك من أجل حرية التعبير وطني وضروري”. ولعلّ كل تلك التصريحات تأتي في إطار التعبير عن الغضب الجمهوري من شركة “تويتر” بعد حظرها حساب ترامب في المنصة، وما يرونه من مضايقات تعرضوا لها من الشركة خلال فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، ولاسيما أن البعض رأى أن ماسك “سيقدم نسخة من تويتر أكثر ودية للمحافظين”، ملمّحين إلى احتمال أن يستخدم ماسك نفوذه ليعيد ترامب إلى المنصة.
يُذكَر، أنه بعد أن قامت “تويتر” بحظر حساب ترامب بعد أحداث اقتحام الكابيتول، غرّد ماسك قائلاً إن “شركات التكنولوجيا الأميركية لا ينبغي لها أن تتصرف بصفتها الحكم الفعلي لحرية التعبير”.
مسار طبيعي
عمل المنظومة الرأسمالية وسياساتها الاستعمارية التي تتبعها لا تقتصر على الأرض، لكنها تستهدف أيضاً البشر. واليوم، في عصر الإنترنت، تشكّل المنصات التي يستخدمها الناشطون والمؤثّرون، في مختلف جوانب حياتهم، هدفاً ومطمعاً.
من هنا، يمكن قراءة التخبّط الحالي في العلاقة بين البيت الأبيض وشركات وادي “السيلكون”. في هذا الإطار، تأتي محاولات كسب نفوذ إضافي وسباق السيطرة على منصة مؤثرة، مثل “تويتر”، ضمن حدود الاستفادة المتبادلة بين الطرفين: المؤسسة الرسمية وماسك.
بالتالي، يظهر التخبط، وهو جزء طبيعي ومسار متوقَّع نتيجة توسع نفوذ عمالقة التكنولوجيا، الذين واجهوا عموماً زيادة في التنظيم والنقد العام والتدقيق في ظل إدارة بايدن، حيث الضغط من المستخدمين والباحثين بشأن البيانات والتلاعب بها. وبالعودة الى تصريحات البيت الأبيض، بعد تعطُّل خدمات شركة “ميتا”، آنذاك، صرح البيت الأبيض رسميا بأن نفوذ هذه الشركات أصبح يثير القلق.
يقول ماسك إنه لا يحب الانخراط السياسي، لكن ما تكشفه السجلات المالية للشركتين التابعتين له يشير إلى عكس ذلك، إذ أنفقتا أكثر من مليوني دولار على جهود الضغط “اللوبينغ”. وأنفقت شركة Tesla، شركة السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة التي يديرها، أكثر من 400 ألف دولار على جماعات الضغط الفيدرالية في عام 2021، وهو فعلاً أكثر مما أنفقته طوال العام الذي سبقه بأكمله.
وفي هذا السياق، لا يبدو أن ماسك متحيز بصورة تامة إلى جهة سياسية معينة، فتارة يدعم الجمهوري وتارة الديمقراطي.
ويتميز أسلوب التغريد الذي يتبعه ماسك، بأنه راصد سريع للأحداث الشائكة والزوايا الضيقة، التي تسمح له بإبداء الرأي، والتفاعل مع حسابات لأشخاص عاديين. أيضاً، هو شرس في الإجابات والمواجهة. مثال على ذلك ما حدث مع الأمير الوليد بن طلال، عندما اعتبر أن “تويتر أهم من القيمة التي قدمها ماسك”، فردّ عليه الأخير، متسائلاً عن “حجم الأسهم التي تمتلكها السعودية في المنصة، وكذلك عن وجهة نظر المملكة بشأن حرية التعبير، وعن عدم قدرته على مغادرة السعودية بعد أحداث الريتز”.
تأثير “تويتر” ومحاولة الهيمنة
عند الحديث عن “تويتر”، كمنصة بين عدّة منصات، فإننا لا نتعامل مع برنامج أو منصة عادية، ولاسيما أن شبكة التواصل هذه تحولت، في الأعوام القليلة الماضية، إلى أداة استراتيجية، سياسياً وإعلامياً، وإلى سلاح مؤثّر، يُنتج الموجات السياسية ويصدّرها، إلى جانب تحوّلها إلى منصة جاذبة لظواهر وأحداث اجتماعية وثقافية، يتداخل فيها العامل السياسي، مثل مسألة الهجرة، وحقوق الأقليات، والصراعات الدينية والعرقية. فكل هذه المواضيع يمكن رصدها من خلال منصة “تويتر” ودراسة بياناتها ومسارها، انطلاقاً مما يتم تقديمه.
لذا، فإن محاولات التأثير والتغلغل، إعلامياً وسياسياً وأمنياً، وقدرة المستخدمين على الوصول إلى الأخبار والمحتوى، تتقاطع مع القدرة على التعبير في هذه المنصة. ومن هنا، نفسّر أطماع عدة شخصيات في العالم، بينها أغنى رجل في العالم، إيلون ماسك، للاستحواذ على “تويتر”، وخصوصاً أن ماسك لطالما سعى، ومن خلفه شركاته، لتشكيل المشهد السياسي، وذلك من خلال تمويل جماعات الضغط والمساهمات في الحملات.
وعملياً، هذه ظاهرة الأوليغارشيات في الجيل التقني لرجال الأعمال، جيل شرس في المواجهة الاقتصادية، وينعكس ذلك على رغبته في الحضور، ليس فقط في مجال الأعمال، وإنما أيضاً عبر الرغبة الجامحة في مزاحمة الشخصيات القيادية. وظهر ذلك في تصريحات ماسك، واستهدافه السياسيين والحكومة في تغريداته، والتعرض مراراً للرئيس الأميركي جو بايدن في منصة “تويتر” نفسها. وقبل ذلك كله، التعليق الشهير الذي نشره في منصة “تويتر” والداعم للانقلاب على الرئيس البوليفي إيفو موراليس.
الغاية من شراء “تويتر”
يزعم ماسك أن لا أهداف ربحية من محاولته شراء شركة “تويتر”، ويضع الخطوة في إطار حماية “الحضارة البشرية”؛ بمعنى أنه يتحدث عن منصة “تويتر” كـ”ضرورة مجتمعية لديمقراطية فاعلة”، أصبحت غاية للتأثير ووسيلة في آن. وهنا نتحدث عن جزئية حرية التعبير ومركزية القرار عند جهة واحدة.
بمعنى آخر، يزعم ماسك أنه مدافع عن رؤية تحرريّة للإنترنت، أي إنترنت غير متحكَم فيه. لكن هذه الرؤية تُعَدّ لاعقلانية، فهناك شخص ما عليه أن يقرر كيف تعمل برمجية هذه المنصة، وما هي المعايير، وكيف تتطور، ووفقاً لماذا. وفعلياً، لدى ماسك القوة الكافية من المال للسيطرة نوعاً ما على “توتير”، وهذا ما يريده، على الرغم من إيحائه بغير ذلك، لكن “تحرير الإنترنت” هو عملياً تحريره من سلطة غير سلطته.
ماسك، الذي يدّعي تمجيده حرية التعبير، في الوقت نفسه هو مهووس بـ”السيطرة”، و قام بحجب (Block) عدة ناشطين وكتّاب بعد أن غرّدوا عن معاملته العمال في شركة “تسلا” مثلاً.
يتحدث ماسك عن حرية التعبير، لكنّ ما يطمح إليه هو “حرية النفوذ والسيطرة”، من دون حسيب ورقيب. يريد ماسك، من خلال هذه الخطوة، أن يكسر الحاجز أو “الصندوق الأسود” الذي يُبقي على مسافة بين المنصة والجمهور، ليعرف المستخدم كيف يتم اختيار المادة التي تُعرَض أمامه، وأساليب المفاضلة بين المنشورات وحجب الانتشار. هذا لم يحدث مع هذه المنصات سابقاً، لأنها تعاني التحيّز التقني في بنيتها البرمجية، وتدريب الذكاء الاصطناعي والخوارزميات. وبينما أوضح ماسك أن هذه الإجراءات تثبت أنه لا يوجد أي نوع من التلاعب من وراء الكواليس، سواء من خلال الخوارزميات أو بصورة يدوية، فإن علامات استفهام كثيرة تُطرح بشأن غاية ماسك في ذلك، ودوافعه في سياق الهيمنة على الشركة وما تقدمه.
الخلاصة
بعد إعلان نية ماسك شراء منصة “تويتر”، انقسم الخبراء والمراقبون في تحديد كيفية استجابة إدارة “تويتر” لطلب ماسك. هناك من رأى أن مجلس الإدارة “ليس لديه خيار سوى رفض العرض والدفاع عن مساهمي الشركة الأساسيين”، بحسب ما ذكرت شبكة “سي أن بي سي”. آخرون أكدوا أن أعضاء مجلس الإدارة “لا يمكنهم فقط رفض العطاء لأنهم لا يحبون ماسك. نحن أمام اختبار لتغيير شكل الإنترنت، ورؤية ماسك بخصوص هذا الأمر خطيرة. يقول ماسك إنه يريد “تحرير الإنترنت”، لكنه في الواقع يريد أن يجعله منصة تابعة لشخص واحد، ونسبة المساءلة فيها ضئيلة. وفي هذه الحالة، فإن هيمنة الأثرياء، مثل ماسك، على عالم الإنترنت، من الذين لديهم أهداف تتجاوز مصالح الشعوب، تجعل الأمور تتجه إلى ما هو أسوأ مما نعيشه حالياً، من تحيّز إلى الهيمنة على الصورة والكلمة، وصولاً إلى إقصاء ما يتعارض مع سياسات. والأخطر من هذا كله، أن أمثال ماسك لن يكونوا مسؤولين أمام أي شخص أو هيئة، عن الحقائق التي يخفونها، أو المصلحة العامة التي يتاجرون بها.
* بقلم : بهية حلاوي
* المصدر : الميادين نت ـ المادة الصحفية تعبر عن وجهة نظر الكاتب