السياسية :

شكَّلت العملية العسكرية في أوكرانيا والحصار الاقتصادي الشامل الّذي فرضه الغرب على روسيا أكبر صدمة في السياسة العالمية منذ نهاية الحرب الباردة على الأقل. وكنتيجة لذلك، ستكون هناك إعادة صياغة كاملة للعلاقات الاقتصادية الخارجية لروسيا وللنموذج الاقتصادي الروسي، وكذلك دخول روسيا والولايات المتحدة في مواجهة عسكرية سياسية طويلة الأمد في أوروبا الشرقية.

وسيكون لكلا العاملين تأثير مباشر في الوضع في شرق آسيا في سياق المواجهة الأميركية الصينية المتزايدة تدريجياً هناك. وكما هنا، فإنَّ الصين التي تقف على الحياد في الأزمة وتدعو الأطراف إلى ضبط النفس، ستكون مركز القوة العالمية الوحيد الذي سيستفيد من الكارثة الأوكرانية على المدى الطويل. ومن المحتمل أيضاً أن الأحداث في أوكرانيا ستحدد مسبقاً نجاح الصين في مواجهة الولايات المتحدة.

الموقف الصيني من الأزمة الأوكرانية

يتلخص موقف الصين من الأزمة الأوكرانية بالنقاط التالية:

أولاً، تؤمن الصين بضرورة حماية أراضي جميع الدول واحترام سيادتها ووحدتها.

ثانياً، تدعم بكين الأمن المشترك والمستدام والشامل، وتعتبر أنه لا يمكن تعزيز أمن بعض الدول على حساب دول أخرى من خلال تقوية التكتلات العسكرية أو توسيعها. وبالنظر إلى الموجات الخمس لتوسع الناتو، تدعو إلى أخذ مطالب روسيا الأمنية على محمل الجدّ والاستجابة لها.

ثالثاً، تتابع الصين عن كثب الوضع في أوكرانيا، وما يحدث هناك لا ترغب في رؤيته. وبناء عليه، تؤكد أن على جميع الأطراف ممارسة ضبط النفس وتجنب التصعيد ومنع حدوث أزمة إنسانية وسقوط قتلى في صفوف المدنيين.

رابعاً، تؤيد الصين أي جهد دبلوماسي يؤدي إلى حل سلمي للأزمة الأوكرانية، وترحب بالحوار المباشر بين روسيا وأوكرانيا، وهي تؤمن بأن المسألة الأوكرانية لها سياق تاريخي معقد، ويجب أن تكون أوكرانيا جسراً بين الشرق والغرب، وليس خطاً للمواجهة بين القوى العظمى.

وبهذا الشكل، تأسف الصين للمأساة المستمرة، وترحب بأي مفاوضات تؤدي إلى السلام. تقليدياً، هذا هو خطابها تجاه الصراعات والأزمات التي لا تشارك فيها، وتتجنّب بكين أيّ انتقاد لروسيا، لكنها تنتقد الغرب بشدة لتوسيع الناتو وعدم استعداده للاستماع إلى المخاوف الأمنية الروسية.

علاوةً على ذلك، لا يصف المسؤولون الصينيون الإجراءات الروسية في أوكرانيا بأنها “غزو”، ولا تنشر وسائل الإعلام الرسمية مواد سلبية عن روسيا والرئيس الروسي. وفي عالم المدونات الصيني، يحظى فلاديمير بوتين وإجراءاته وخطاباته في ما يتعلق بالعملية الأوكرانية بقبول واسع من المستخدمين من القوميين الصينيين الذين يسقطون هذه الحالة على العلاقات بين الصين وتايوان.

ورغم وجود تكهّنات بأن الصين، باعتبارها الشريك التجاري الرئيسي الوحيد المتبقي لروسيا، يمكن أن تضغط على موسكو للتوصل إلى اتفاق سلام سريع، لكن لا توجد أي مؤشرات على أنها تفكر في القيام بذلك.

كما أن موقفها من الأزمة موقف حيادي وودي تجاه روسيا. وعلى خلفية الأزمة، أعربت الخارجية الصينية والهيئة التنظيمية للبنوك الصينية مراراً وتكراراً عن عزمهما على الحفاظ على علاقات كاملة مع موسكو.

كما امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن الدولي بشأن الأزمة الأوكرانية، ولم تدعم حقّ النقض الروسي، وفعلت الشيء نفسه خلال أزمة القرم. ولا تستطيع الصين، من حيث المبدأ، الاعتراف بتغيير وضع الأراضي على أساس الاستفتاءات (كما كان الحال في جمهوريات القرم ولوغانسك ودونيتسك)، لأن هذا سيؤثر في مشكلة تايوان. كما تجدر الإشارة إلى أن روسيا لا تعترف أو تدعم الموقف الصيني في النزاع الإقليمي مع الهند، وكذلك المطالب الصينية في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي.

التعاون الاقتصادي

كما في المراحل السابقة للأزمة الأوكرانية، على الشركات والبنوك الصينية العاملة في السوق العالمية أن تأخذ في الاعتبار التأثير السلبي المحتمل لعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيها. وفي هذا السياق، هم لا يختلفون في النظرة التجارية عن أي دولة أخرى، على الرغم من أن الصينيين هم الذين يشعرون بمخاوف متزايدة من الوقوع تحت الإجراءات العقابية الأميركية، ما يؤدي إلى مشكلة تفسيرهم الموسع للعقوبات.

وبغضِّ النظر عن موقف الحكومة الصينية، كان للعقوبات دائماً تأثير سلبي في التعاون الروسي الصيني. إضافة إلى ذلك، سيظهر في الأشهر المقبلة حتماً تأثير الصدمة الناتجة من الاختلال في آليات التسوية المالية وسلاسل الإنتاج والجانب اللوجستي. وعندها، سيتعين على الشركات إيجاد طرق جديدة للقيام بالأعمال التجارية.

في الوقت نفسه، قام الطرفان بعمل كبير حتى الآن لإنشاء بنية تحتية آمنة للتجارة الثنائية، واستمر ذلك حتى وقت قريب جداً. وفي العام 2020، بلغت حصة الروبل في التجارة الثنائية 7%، واليوان 17%. وتسعى الصين لتدويل عملتها، ويمكن استخدامها للتسويات بين غير المقيمين على أراضيها.

واستعداداً لصراع عنيف مع الغرب، زادت روسيا بشكل حاد من حصة اليوان في احتياطي الذهب والعملات الأجنبية. وفقاً لبعض التقديرات، يمتلك بنك روسيا 5 سندات حكومية صينية بقيمة 140 مليار دولار مقومة باليوان. وبشكل غير مباشر، قد يشير هذا إلى أن الحجم الحالي للعقوبات كان متوقعاً منذ وقت طويل.

وبلغ نصيب الصين من التجارة الروسية نحو 18% في العامين 2020 و2021، وهي الشريك التجاري الثاني لروسيا بعد الاتحاد الأوروبي، فقد كانت حصة الاتحاد الأوروبي في العام 2020 حوالى 38%. ومنذ العام 1999، زادت حصة الصين بشكل مطرد، في حين أن حصة الاتحاد الأوروبي آخذة في الانخفاض تدريجياً.

وفي حال استمرت هذه الوتيرة، يمكن للمرء أن يتوقع مساواة تقريبية في حصص الصين والاتحاد الأوروبي في التجارة الروسية حتى العام 2030. ومع الحصار المفروض على روسيا من قبل الاتحاد الأوروبي، يمكن تسريع عملية إعادة التوجيه نحو الصين كثيراً لتصبح الشريك الرئيسي في غضون عامين إلى 3 أعوام مقبلة. وبذلك، يمكن حماية تجارة روسيا مع شريكها التجاري الرئيسي من أي تأثير خارجي.

قد تكون الزيادة الحادة في صادرات المواد الخام الروسية إلى الصين مقيدة، بسبب الافتقار إلى البنية التحتية المناسبة، مثل قدرة السكك الحديدية وخطوط الأنابيب ومحطات الموانئ. تصدر الصين سلعاً تامة الصنع بشكل أساسي، وهي أقل اعتماداً على قدرة النقل.

لذلك، يجب أن نتوقّع في السنوات الأولى زيادة حادة في الصادرات الصينية إلى روسيا، مع نمو أكثر تواضعاً في الصادرات الروسية إلى الصين، ما سيؤدي إلى خلل كبير لمصلحة الصين لبعض الوقت.

كما أنّ أداء الصين دور المشتري الوحيد أو الرئيسي لبعض أنواع المنتجات الروسية والتداول باليوان سيؤدي إلى بعض الخسائر السعرية للمصدرين الروس، لكن في ظل الظروف الصعبة الحالية، يصعب اعتبارها خسائر حرجة. ومع تطور الخدمات اللوجستية الجديدة، يمكن أن تصبح الصين بديلاً للسوق الأوروبية.

بموازاة ذلك، يمكن أن نعتبر أن محاولات روسيا السابقة لتنويع علاقاتها الاقتصادية مع آسيا دُفنت بعد أن دعمت الاقتصادات المتقدمة الثلاثة في المنطقة (اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة) العقوبات المناهضة لروسيا بدرجات متفاوتة، وإن كان ذلك تحت ضغط شديد من الولايات المتحدة.

عندها، ستكون الصين حتماً الشريك المسيطر، ومن الممكن في المستقبل القريب أن تكون حصتها في التجارة الروسية قابلة للمقارنة مع قيم الذروة لحصة الاتحاد الأوروبي في وقتها (أي أكثر من 50%).

وتتمثل إحدى اللحظات الإيجابية لروسيا بنمو عدد من الشركات الصينية التي تتمتع بمراكز قوية في الهندسة الميكانيكية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وصناعة الطيران، والتي تخضع لأنواع مختلفة من العقوبات الأميركية.

والشركاء الصينيون، بما في ذلك أولئك الخاضعون للعقوبات الفرعية، قادرون على احتلال العديد من القطاعات المهمة في السوق الروسية التي أخلتها الشركات الأوروبية والأميركية، مثل بيع وإنتاج السيارات والإلكترونيات الاستهلاكية والمعدات الصناعية في روسيا. وفي العديد من المجالات، يستطيع الصينيون استبدال الموردين الغربيين في بعض الأحيان مع خسارة معتدلة في الجودة، وأحياناً من دونها.

آفاق العلاقات السياسية

سيتعين على روسيا استخدام الأدوات القليلة المتاحة لتنويع التجارة الخارجية من أجل الحد بطريقة ما من اعتمادها الاقتصادي على الصين. ومع ذلك، من الواضح أنه خلال فترة الحصار الغربي، لن يكون أمام روسيا خيار سوى المشاركة بشكل متزايد في التعاون السياسي والعسكري مع بكين.

إن أهمية الموارد الروسية والتكنولوجية والاقتصادية والعسكرية بالنسبة إلى جمهورية الصين الشعبية في سياق المواجهة مع الولايات المتحدة ستسمح لروسيا بتجنب موقف ثانوي واضح في هذه الشراكة. ومع ذلك، فإن الصين ستحدد النغمة.

لم تشارك موسكو سابقاً في العديد من الخلافات بين القوى الآسيوية، وكانت سياستها في آسيا مستقلة عن الصين، باستثناء الاحتواء العام للولايات المتحدة. أما الآن، فسيتعين على روسيا حماية علاقاتها مع اللاعبين المستقلين، ولا سيما مع الهند وفيتنام، والتضحية بعلاقاتها مع حلفاء الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وخصوصاً اليابان وأستراليا، من أجل تعزيز شراكتها مع الصين.

كما أنّ الاتجاه السلبي الذي ظهر سابقاً في العلاقات الروسية اليابانية سيزداد بشكل حاد، إذ ستستمر الأنشطة، مثل الدوريات المشتركة للأساطيل الروسية والصينية حول اليابان التي جرت في نهاية في العام 2021. وقد تبرز مسألة تنسيق مواقف البلدين في النزاعات الإقليمية مع اليابان (مطالبات الصين بجزر دياويو / سينكاكو ومشكلة جزر كوريليس الجنوبية).

الصين التي تنتقل إلى تعزيز أكثر نشاطاً لمفاهيم النظام العالمي والمبادرات العالمية (المجتمع ذو المصير المشترك للبشرية، علاقات القوى العظمى في العصر الجديد، الحزام والطريق) قد تكون مهتمة بدعمها هذه الأنشطة من خلال دول كبيرة، ومن المرجح أن تتلقى مثل هذا الدعم من روسيا. في الواقع، تجلى هذا الاتجاه بالفعل في الإعلان الروسي الصيني المشترك بعد زيارة فلاديمير بوتين للصين في 4 شباط/فبراير 2022.

ربما لا تكون الصين قادرة بشكل جذري على التخفيف من صدمة الأشهر الأولى أو السنة الأولى من الحصار على روسيا. هنا، يعتمد كل شيء على السياسة الاقتصادية الروسية. على المدى الطويل، ستصبح الشراكة مع الصين، إلى جانب السياسة الصناعية لروسيا، أساس نموذج جديد للتنمية الاقتصادية الروسية. وفي بعض النواحي، أساس أكثر جدوى من الشراكة السابقة مع الاتحاد الأوروبي

إذاً، ستحلّ الصين محل الاتحاد الأوروبي كشريك تجاري رئيسي لروسيا، وقد يصبح الانعكاس التدريجي للتدفقات التجارية إلى الشرق عاملاً في تنمية مناطق سيبيريا والشرق الأقصى، وصولاً إلى انتقال جزء من مواطني القسم الأوروبي من روسيا إلى هناك. وسيضعف التأثير السلبي للعقوبات الغربية في التعاون الروسي الصيني تدريجياً مع انجرار الصين نفسها إلى مواجهة العقوبات مع الغرب. ويعد العامل الرئيسي الآخر في إضعافها هو التعامل باليوان.

ومن خلال سياسة حكيمة، يمكن لروسيا أن تخرج من الحصار الغربي بشكل قوي، مع تجارة خارجية متنوعة وبنية تحتية للتصدير متطورة في الشرق الأقصى، وعلاقات خارجية أكثر توازناً، وأكثر مقاومة للعقوبات.

الثمن الذي يجب دفعه مقابل ذلك سيكون تقويض سياسة موسكو لتنويع العلاقات في آسيا لسنوات عديدة. ستضطر روسيا إلى التصرف بما يتماشى مع سياسة الصين في آسيا، ليس لاحتواء الولايات المتحدة فحسب، ولكن أيضاً لمواجهة حلفاء الولايات المتحدة، بقيادة اليابان. ويمكن التقليل من التأثير السلبي للشراكة مع الصين على العلاقات مع الهند وفيتنام ما دامت هذه الدول مستقلة عن الولايات المتحدة، وبالتالي فهي ليست أهدافاً ذات أولوية للضغط الصيني.

ومن غير المرجح أن تثار مسألة التحالف العسكري مع جمهورية الصين الشعبية في المستقبل القريب، لكن من الناحية النظرية، لا يمكن استبعاد ظهور تحالف عسكري روسي صيني رسمي أو تفاعل عسكري موضعي في حالة حدوث أزمات عسكرية في المحيط الهادئ.

على سبيل المثال، تفترض المادة 9 من المعاهدة الروسية الصينية لحسن الجوار والصداقة والتعاون للعام 2001، أن يتم إجراء مشاورات عاجلة للقضاء على هذا التهديد في حال وجود تهديد لأحد الأطراف. هذا الأمر واقعي تماماً في حال حدوث أزمة حول تايوان، عندما تكون جمهورية الصين الشعبية مهتمة بـ”المظلة النووية” الروسية لمنع التدخل الأميركي.

* المصدر : الميادين نت – فهيم الصوراني
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع