السياسية:

نظام عالمي أحادي القطب يحتضر بعد فشله في حفظ الاستقرار العالمي وضمان الأمن الأوروبي ونظام ثلاثي جديد يتشكل بمشاركة روسيا والصين أو اتجاه العالم نحو فوضى التحالفات الإقليمية المتصارعة..

الدماء التي اختلطت بالثلوج في شتاء 2022 على الأراضي الأوكرانية افتتحت تاريخاً جديداً لهذا العالم.

الغزو الروسي لم يكن “بروفة” حرب عالمية ثالثة، لكنه كان أكثر خطورة بكثير من الغزوات السوفييتية للمجر في عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا في عام 1968.

والمعركة لم تقف عند حدود سوء الفهم بشأن الأمن والسيادة، بل كانت نزالاً لرسم ملامح النظام العالمي الجديد، وكالعادة يكتب المنتصرون ما يشاؤون في بنود الاتفاقيات، كما يفرضونها على كتب التاريخ.

وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا حذّر العالم من أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك: ستكون بداية حرب واسعة النطاق في أوكرانيا نهاية النظام العالمي كما نعرفه.

إذا لم تحصل روسيا على رد صارم وحاسم الآن، فإن هذا سيعني إفلاساً تاماً لنظام الأمن الدولي والمؤسسات الدولية المكلفة بالحفاظ على النظام الأمني ​​العالمي، أو كما قال.

لكن ما قاله السيد كوليبا ليس جديداً.

ليس سراً أن بوتين يسعى إلى الإطاحة بالنظام العالمي الحالي، على الأقل في ما يتعلق بالبنية الأمنية لأوروبا. 

وربما تكون الحرب في أوكرانيا مجرد ضربة البداية في سعيه لاستعادة بعض ألق ونفوذ روسيا السوفييتية.

لكنه أيضاً وبالضرورة ضربة بداية لنظام عالمي جديد، بعد أن انتهت صلاحية نظام ما بعد سقوط حائط برلين مطلع التسعينيات.

نظام يعترف بقوة روسيا العسكرية والسياسية، وبالصعود الصيني الاقتصادي والعسكري.

نظام لا يمنح أمريكا وأوروبا سوى ثُلث عجلة القيادة التي تتحكم في مصير الكوكب.

هل نحن فعلاً بصدد نظام دولي جديد كما يتوقع بعضهم؟ وهل هناك أفول للدور الأمريكي في النظام العالمي لمصلحة الصعود الصيني والروسي؟ 

هذا التقرير يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، عبر قسمين:

الأول: عن ملامح النظام العالمي الذي تقوده أمريكا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وعوامل الضعف التي سمحت لقوى أخرى بالصعود والمقاومة والتحدي.

والثاني: عن أسباب ظهور النظام العالمي الذي تتشكل ملامحه الأولى عندما تصمت المدافع في أوكرانيا، والتغييرات المتوقعة في خريطة الصراعات والتحالفات بين قادة العالم.. بين الغرب والشرق في المربع رقم واحد من الصراع الأزلي، في طبعة جديدة من الحرب الباردة.. قد تكون أشد قسوة وبرودة من سابقتها.

* نظــام عالمي “هش”يلفظ الآن أنفاسه

النظام الدولي مثل الكائن الحي ينمو ويتغير ويتداعى أحياناً وينهار.

تعبير “النظام الدولي” يشير إلى “مجموعة التفاعلات والأنشطة السياسية الدولية التي تنظم العلاقات، بناء على قواعد ومعايير سلوكية وهياكل مؤسسية وأطر تنظيمية محددة، والجهود الجماعية لمعالجة المشاكل التي يواجهها العالم، والتي تتجاوز قدرات كل دولة منفردة، وتتطلب تنسيقاً بين دول العالم”.

النظام الدولي الذي تأسس منذ العام 1864 حتى العام 1946، كان مركزه أوروبياً، تتولى فيه بريطانيا مسؤولية الحفاظ على توازن القوى العالمي ضد أي صعود محتمل لقوى جديدة.

بعد انكسار ألمانيا في معركة العلمين على الأراضي المصرية، انتهت الحرب العالمية الثانية بتغيير كبير في الخريطة السياسية للعالم.

ظهرت قوتان عظميان جديدتان في العالم، هما: الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي، أي روسيا حالياً. 

إذ إن هذه الحرب أدّت إلى إضعاف دول أوروبا، وعلى رأسها دول الحلفاء، ومنها فرنسا، وبريطانيا، ولم تعد الدولتان تسيطران على العالم.

انقسم العالم إلى كتلتين هما: الكتلة الغربية بزعامة أمريكا، والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي.

وعندما انهارت الإمبراطورية الشيوعية لم يفكر الغرب في حل حزب الناتو، ولا في وقف العداوة مع موسكو.

وبدلاً من بناء نظام جديد، أصرّ الغرب على النظام الموجود. اعتقدوا أن عدوهم تفكّك، لكن مهمتهم بقيت كما هي، متمثلة في زيادة حجم مجتمع ديمقراطيات السوق الحرة”، كما يعتقدون.

خلال العقود الثلاثة التالية، عملوا على توسيع النظام الليبرالي الغربي ليصبح نظاماً عالمياً. 

تضاعفت عضوية “الناتو” تقريباً. 

ثم تحوّلت المجموعة الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي، وهو اتحاد اقتصادي كامل يضم أكثر من ضعف عدد الدول الأعضاء. 

وتحوّلت الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة Gatt إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) التي رحبت بالعشرات من الأعضاء الجدد، ما أطلق العنان لفترة غير مسبوقة من العولمة المفرطة. 

تنحدر السمات الرئيسية للنظام الليبرالي السائد اليوم مباشرة من تحالفات الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة.

وفي تحليل يبدو أنه مكتوب قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، سخر مايكل بيكلي أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية بالجامعات الأمريكية من النظام الليبرالي العالمي الحالي.

كتب بيكلي في صحيفة Foreign Affairs أن النظام الليبرالي، مثل كل الأنظمة الدولية، هو شكل من أشكال النفاق المنظم الذي يحتوي على بذور زواله، بحكم العداوات التي يشعلها في طريقه.

يضيف: النظام الليبرالي، في الواقع، إقصائي للغاية.  والدليل؟

منذ سنوات يدور الحديث عن تراجع الدور العالمي للولايات المتحدة.

عن مؤشرات التعددية القطبية وتنامي الكيانات الاقتصادية التي تنافس الولايات المتحدة.

عن الصعود الروسي والصيني، وإعادة توزيع القوة في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية.

كل هذا مع استمرار احتفاظ الولايات المتحدة بالتفوق العسكري، وهو التفوق الذي لم يفصح عن نفسه عندما اندلعت الأزمة الأوكرانية، وأفسح المجال لعقوبات اقتصادية ورياضية ودبلوماسية.

حين تصورت أمريكا أنها تنفرد بكتابة التاريخ

بعد سقوط جدار برلين احتفلت الولايات المتحدة بانهيار عدوها السوفييتي، وتدشين فترة العصر الأمريكي.

ساهم باحثون بأعمال شهيرة، مثل “نهاية التاريخ” لفوكوياما و”صراع الحضارات” لهنتنغتون، ليثبتوا المستحيل: التاريخ الإنساني توقف عند انتصار الرأسمالية؛ لأنه انتصار حاسم ونهائي وغير قابل للخدش.

وتحولت الفكرة إلى سياسات يطبقها البيت الأبيض على العالم، تستند إلى ما اعتبرته واشنطن قاعدة مقدسة:  

الولايات المتحدة الأمريكية، بقوتها وبنائها الفكري والفلسفي، قادرة على التعامل مع الدول التي تشكل تهديداً لمشروع الهيمنة المفترض.

تعامل يرتكز على التهديد وإمكانية إسقاط أنظمتها.

وأصبحت القرارات الأمريكية تكرس سياسة الحظر وفرض العقوبات، وصولاً إلى إمكانية الاجتياح العسكري، من دون أي اعتبار لمنظومة الأمن الجماعي العالمي المتمثّلة بالأمم المتحدة.

لأكثر من 20 عاماً، نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في ترسيخ مشروعها للهيمنة العالمية عبر الجمع بين إطار أيديولوجي جاذب ومجموعة من أدوات القوة الفاعلة، كحلف شمال الأطلسي والقواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في شرق أوروبا ووسط آسيا.

نجحت أمريكا في استغلال الاتحاد الأوروبي عبر دمجه بالمنظومة الدفاعية الأمريكية وعدم تمكينه، بسبب العلاقات المميزة بينها وبين دول أوروبا الشرقية، من تحقيق استقلاله الأمني. 

جرت المياه في كل الأنهار، إلا فيما يخص هذه العقيدة الأمريكية، والوهم بإمكانية القيادة الأحادية للعالم.

تضخم الاقتصاد الصيني وأصبح عملاقاً يخيف الغرب، وتمدد النفوذ الروسي عبر القارات، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.

وبدأ الصدام الحتمي ،في 2007 أعلن الرئيس الروسي في مؤتمر ميونيخ للأمن أنّ الأحادية الأمريكية لم تعد ممكنة، وحذّر من مخاطر تمدد حلف الناتو إلى الشرق. 

استند بوتين إلى القومية الروسية التي سبقت شمولية الاتحاد السوفييتي، وعاد إلى الأصول الدينية للكنيسة الأرثوذكسية، التي تسهم في تشكيل البناء القومي للمجتمع الروسي التقليدي. 

وقرر تشييد بناء أوراسيا بما يناسب خصوصيات الموقع الروسي بين آسيا وأوروبا، ليصح منافساً حقيقياً للأحادية الأمريكية. 

* الأزمة داخل “البيت” الغربي في السنوات الأخيرة

النظام الدولي الحالي هو التركة التي يعيش عليها الغرب منذ انتصاره في الحرب الباردة وانهيار عدوه الأول الاتحاد السوفييتي.

لكنه لم يكن في أفضل حالاته قبل أزمة أوكرانيا 2022.

شهد التحالف الغربي التقليدي العديد من التحديات الذاتية والمتعلقة ببنيته الداخلية، أو تلك المظاهر الناشئة كنتيجة له. 

خلال العقد الأخير، شهد حلف شمال الأطلسي “الناتو” (NATO) أكثر من خلاف داخلي، وسط تباين في المواقف حيال التعامل مع روسيا، وحتى رؤية دول الناتو للصين وطبيعة الشراكة معها.

الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لم يكن يخفي ازدراءه لحلف الناتو، وكان يتجاهل بعضاً من كبار حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، بالإضافة إلى حديثه علناً عن انسحاب الولايات المتحدة من التحالف. 

وهناك ما يكفي من الشكوك الأوروبية حول استمرار التزام الولايات المتحدة بعد عام 2024، وقد حقَّقت روسيا بعض النجاح في تعزيز هذه الشكوك، لا سيما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

الاتحاد الأوروبي، وهو أحد أعمدة النظام الدولي الحالي، يواجه تحديات عديدة تمس وحدة الاتحاد ومستقبله. وفقدانه المملكة المتحدة يشير إلى ذلك بكل وضوح. 

أكثر من ذلك أصبح المعسكر الغربي عرضة للاتهامات والانتقادات. فهو بطابعه الليبرالي غير مهيأ للتعامل مع المشكلات العالمية الملحة مثل تغير المناخ، والأزمات المالية، والأوبئة، والمعلومات الرقمية المضللة، وتدفق اللاجئين، التي يمكن القول إن الكثير منها نتيجة مباشرة لنظام مفتوح يروج التدفق غير المقيد للأموال والسلع والمعلومات والأشخاص عبر الحدود.

لكن حرب أوكرانيا ستغير الكثير في هذه الملفات.

إحدى النتائج المباشرة ربما تكون تقوية الروابط بين ضفتي الأطلسي، أي بين أوروبا وأمريكا الشمالية.

ورفع الإنفاق العسكري داخل دول “الناتو”، كما أعلنت ألمانيا في خطوة نادرة منذ الحرب العالمية الثانية.

* حلف شمال الأطلسي “الناتو”

تأسس عام 1949 من 12 دولة ،أصبح العدد 16 دولة عند انتهاء حقبة الحرب الباردة في بداية تسعينيات القرن الماضي. 

في البداية احترمت الولايات المتحدة والدول الغربية التعهدات السابقة بعدم ضم أي دول من الأعضاء السابقين في حلف وارسو أو من الجمهوريات السوفييتية السابقة للحلف، إلا أن ذلك تغيّر مع مرور الوقت. 

انضم عدد من الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى الحلف، حتى بلغ عدد الدول الأعضاء فيه 30 دولة.

تصل الحدود الرسمية للحلف إلى الحدود الروسية المتاخمة لإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا.

* الغزو الروسي لأوكرانيا كشف ضعف حلف الناتو

إذا بلغت روسيا أهدافها السياسية في أوكرانيا بطرق عسكرية، فإن أوروبا لن تكون بعد هذه الحرب على سابق عهدها. 

الحلف الأطلسي مهمته الدفاع “عسكرياً” عن أعضائه وحلفائه، وعن تحجيم المجال الاستراتيجي لخصومه، وهو ما لم يحدث لدى انطلاق الجحافل الروسية صوب كييف.

وكشفت الأسابيع الأولى للأزمة عن خلافات في تقدير الموقف بين الأعضاء، وتضارب في المصالح. ورغم سعي الغرب للظهور كيدٍ واحدة ضد موسكو على صعيد العقوبات الاقتصادية، تبقى ظلال من الشك تحيط بقدرة الحزب على التحرك السريع الحازم لأداء دوره الأصلي.

وإذا فشل الناتو في تحجيم الخطوة الروسية الجامحة، سوف تصبح السيادة الأمريكية في أوروبا مقيدة، وقدرة حلف الناتو والاتحاد الأوروبي على ضمان السلام في أوروبا أوهاماً من تاريخ قريب. 

وبدلاً من ذلك، سيتوجب تقليص الأمن في أوروبا ليقتصر على الدفاع عن الأعضاء الأساسيين في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. 

وفي ظل ما يعتبر حصاراً روسياً، لن يملك حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي القدرة على تطبيق سياسات طموحة خارج حدودهما.

* الخلاف حول نهاية الحرب الباردة وميراثها

في أوائل عام 1994، وبعد 4 سنوات من انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، وصف مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي أوكرانيا القوية والمستقرة بأنها ثقل موازن حاسم لروسيا.

قال بالحرف: إذا سيطرت روسيا على أوكرانيا فيمكن لها أن تعيد بناء إمبراطوريتها من جديد.

يومها حذر الرجل أيضاً من إذلال روسيا، التي ترفض أن تلعب دور المهزوم بعد نهاية الحرب الباردة.

من أبرز الاتهامات للنظام العالمي المنتهية ولايته، ما وصفه أحد المحللين بأنه “استسلام الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين للغطرسة والتمني والمثالية الليبرالية، واعتمادهم بدلاً من ذلك على الرؤى الأساسية للواقعية”. 

والواقع أن روسيا استولت على شبه جزيرة القرم، وسعت للسيطرة على أوكرانيا؛ لأن واشنطن لم تتبع مثل هذه السياسات “الواقعية” في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

بوتين ينظر إلى الماضي بغضب ورغبة في الانتقام. 

هو يعتبر الغرب مسؤولاً مع سبق الإصرار والترصد عن تفكيك الإمبراطورية السوفييتية، ويتحدث باستفاضة عن الخسائر الإنسانية الجسيمة التي نجمت عن تلك “المأساة”.

وترفض الولايات المتحدة وأوروبا سردية المظلومية التي ترتكز على تفكُّك الاتحاد السوفييتي، لا سيما انفصال أوكرانيا عن روسيا. 

وحينما وصف بوتين الانهيار السوفييتي بأنه “الكارثة الجيوسياسية العظمى للقرن العشرين”، كان يتباكى على 25 مليون روسي كانوا خارج روسيا لدى تفكك الاتحاد السوفييتي، منهم 12 مليوناً في الدولة الأوكرانية الوليدة وقتها. 

كتب بوتين في مقال نشره في صيف 2021 أن الناس “وجدوا أنفسهم في 1991 خارج دولتهم في ليلة وضحاها، مُبعدين بوضوح هذه المرة عن وطنهم الأم التاريخي”، وقد وُزِّع هذا المقال على الجنود الروس مؤخراً.

ونظام عالمي جديد يبحث عن ملامحه ، هي المرة الأولى التي تعود فيها الحرب لأوروبا في القرن الـ21.

هي المرة الأولى أيضاً التي تقوم فيها موسكو، سواء في عهد الاتحاد السوفييتي أو في عهد روسيا، بإطلاق حرب ضد بلد أوروبي.

والنتائج المتوقعة للتدخل الروسي تحتمل سيناريوهات متعددة متعلقة بأهداف وشكل ومدى العملية العسكرية الروسية. 

يتركز اليوم النقاش في الأوساط الاستراتيجية والاستخبارية حول أن تكون الحرب في أوكرانيا بداية نظام دولي جديد؟ 

أم أن ما يحدث قد يؤدي إلى تعزيز مكانة الولايات المتحدة، ويسمح لها بمزيد من التمدد والتفرد؟

هناك أسباب ومؤشرات عديدة وراء هذه الأسئلة التي تحمل الكثير من الشكوك:

الولايات المتحدة لم تعد قادرة على ممارسة الأدوار الدولية نفسها التي تمارسها منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.

الصين تتحول إلى عملاق اقتصادي يغزو القارات الخمس بالاستثمارات والنفوذ والتحالفات الهادئة.

روسيا لا تخفي طموحها في استعادة التأثير الكبير للإمبراطورية السوفييتية، وفي السنوات الأخيرة أصبح لها مواطئ أقدام عسكرية في الغالب، في معظم مناطق التوتر من أواسط وغرب آسيا إلى شمال إفريقيا.

إذن لدينا الآن قوة عظمى كانت مسيطرة، لكنها بدأت تغرب عن أراضي النفوذ التقليدي، هي أمريكا.

وقوتان صاعدتان، هما روسيا والصين، وطموح كل منهما له ما يبرره في ظل النجاحات والتوسعات في الأعوام الأخيرة.

نشوء نظام دولي جديد يعني بالضرورة كيف ستتعامل القوة الدولية الصاعدة مع التراجع الأمريكي، أو ربما مع إعادة واشنطن النظر في مجمل سياساتها الدولية لاستعادة مكانتها ومصالحها، والمشاركة في إدارة المشهد الدولي بشكل أوسع.

* “انتصار” روسيا في أوكرانيا يجعل أوروبا مركز التحرك الأمريكي

هيمنة روسيا على أوكرانيا من شأنها أن تفتح الباب على عدم الاستقرار وغياب الأمن في منطقة واسعة تبدأ في إستونيا لتشمل بولندا حتى رومانيا وتركيا. وذلك لأن جيران أوكرانيا سينظرون إلى وجود روسيا فيها ما دام قائماً، على أنه استفزازي وغير مقبول وسيشكل أيضاً بالنسبة للبعض منهم تهديداً أمنياً.

في حال انتصار روسيا في أوكرانيا، سيواجه موقف ألمانيا في أوروبا تحديات شديدة. 

لا تملك ألمانيا جيشاً قوياً، وجيرانها بعد التقدم الروسي غرباً سيصبحون عرضة لعدم الاستقرار. 

ستقود فرنسا وبريطانيا القرار الأوروبي بفضل قواتهما المسلحة القوية نسبياً وتقاليد التدخل العسكري العريقة لدى كل منهما. 

وستبقى الولايات المتحدة هي صاحبة الكلمة العليا في أوروبا. 

وسيعتمد حلف الناتو على دعم أمريكا، كما ستفعل أيضاً دول شرق أوروبا القلقة والمعرضة للخطر، ودول المواجهة، الجبهة الأمامية، على طول حدود مترامية الأطراف وغير مستقرة مع روسيا، بما في ذلك بيلاروس والأجزاء التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا.

بعبارة أوضح: يستدعي النجاح الروسي في أوكرانيا من واشنطن أن تتخذ من أوروبا محوراً لها. 

وحلف الناتو هو الأداة المنطقية التي يمكن للولايات المتحدة أن توفر لأوروبا عبرها ضمانات أمنية وأن تردع روسيا. 

حرب أوكرانيا من شأنها أن تعيد إحياء الناتو بوصفه التحالف العسكري الدفاعي الذي يضمن للغرب بقيادة أمريكا أن يقود العالم.

وبالنسبة للأوروبيين، سيكون هذا هو النداء الأخير لتحسين القدرات الدفاعية، ومساعدة أمريكا على إدارة المعضلة الروسية – الصينية.

* الصين: “الذئب المحارب” أكثر جرأة بعد المغامرة الروسية

الجميع يعرف منذ البداية  ما تريده الصين، لأن القادة الصينيين أعلنوا الأهداف ذاتها لعقود من الزمن: 

إبقاء الحزب الشيوعي الصيني (CCP) في السلطة وإعادة ضم تايوان والسيطرة على شرق الصين وبحر الصين الجنوبي. 

وإرجاع الصين إلى المكانة التي تليق بها كقوة مهيمنة في آسيا وأقوى دولة في العالم. 

خلال نصف قرن تقريباً، اتّبعت الصين نهجاً هادئاً وسلمياً نسبياً لتحقيق تلك الأهداف، دون أن يتجنّبها المجتمع الدولي. 

كانت الصين تسير على نهج الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ، الذي قال: أخفِ قوّتك وانتظر الوقت المناسب.

لكن في الأعوام الأخيرة، توسعت الصين بقوة على جبهات متعددة. وحلّت دبلوماسية “الذئب المحارب” محل دبلوماسية الصداقة.

في منطقة شرق آسيا البحرية، تحركت الصين بعنف لتعزيز مطالبها الإقليمية الشاسعة. 

أنتجت السفن الحربية بشكل أسرع من أي بلد منذ الحرب العالمية الثانية، وازدحمت الممرات البحرية الآسيوية بخفر السواحل الصيني وسفن الصيد.

عززت المواقع العسكرية عبر بحر الصين الجنوبي، واستخدمت السفن المجهزة للاصطدام والاعتراضات الجوية بإخراج الجيران من مناطق متنازع عليها. 

وبدأت الدعوات لغزو تايوان تنتشر داخل الحزب الشيوعي الصيني، ويشعر مسؤولو البنتاغون بأن مثل هذا الهجوم ربما يكون وشيكاً.

سوف تحتاج بكين لتبادل الخدمات مع موسكو، التي هي حالياً في مواجهة دائمة مع الغرب، كظهير اقتصادي داعم وشريك في التصدي للهيمنة الأمريكية. 

وفي احتمال أسوأ لأمريكا، قد تصبح الصين أكثر جرأة بفضل إصرار روسيا في أوكرانيا، وربما تهدد بالمواجهة في تايوان.

* بداية عصر “القيادة الثلاثية” للعالم 

انتصار روسيا على أوكرانيا سوف يفضي إلى تغيرات جيوسياسية واسعة في أوروبا.

وفي أهداف حلف الناتو والنظام العالمي القائم. 

وسوف تنشر روسيا قوات برية وجوية وصاروخية في قواعد بغرب أوكرانيا وكذلك في بيلاروسيا، التي أصبحت فعلياً وكيلاً لروسيا.

سيتم تجميع القوات الروسية على طول الحدود الشرقية لبولندا التي يبلغ طولها 650 ميلاً.

والحدود الشرقية لسلوفاكيا والمجر والحدود الشمالية لرومانيا.

ومن المحتمل أن يتم وضع مولدوفا تحت السيطرة الروسية أيضاً. وسيكون التهديد الأكثر إلحاحاً على دول البلطيق، إذ تقع روسيا بالفعل على حدود إستونيا ولاتفيا مباشرة وتلامس ليتوانيا عبر بيلاروسيا ومن خلال موقعها الأمامي في منطقة كالينينغراد.

وسيكون الانتصار الروسي بداية حقبة تسيطر فيها الصين على تايوان وجنوب شرق آسيا. وسوف تولد 3 كتل في العالم: أمريكية، وروسية وصينية.

أيضاً سوف تعم الفوضى والصراع على الصعيد العالمي؛ حيث تتكيف كل منطقة في العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوة.

من مقال رأي في صحيفة Washington Post

هكذا تسير روسيا نحو المشاركة في حكم العالم

الأزمة الأوكرانية تجسد سعياً لإعادة رسم خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة، واستعادة نفوذها على نصف أوروبا، بحجة أنها تضمن أمنها. 

وما دام بوتين باقياً في السلطة، فإن عقيدته سوف تبقى، وسوف تُلقي بظلالها على العالم لفترة طويلة.

الاستراتيجية الجديدة لروسيا هي فك ارتباط دول البلطيق بحلف شمال الأطلسي من خلال إثبات أن الحلف عاجز عن تقديم الحماية لها.

مع وجود بولندا والمجر و5 أعضاء آخرين في الناتو يتشاركون الحدود مع روسيا الجديدة الموسعة، فإن قدرة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على الدفاع عن الجناح الشرقي للحلف سوف تتضاءل بشكل خطير. ويمتلك بوتين طموحاً أبعد من ذلك.

هو يعتقد أن مصالح روسيا تتحقَّق على أفضل وجه بتفكيك التحالف الأطلسي. 

لذلك يدعم بوتين الجماعات المُشكِّكة في الاتحاد الأوروبي والمناهضة لأمريكا في القارة الأوروبية.

وهو متهم بالتدخل في الانتخابات على الأراضي الأوروبية.

يعمل في العموم على توسيع الشقاق داخل المجتمعات الغربية. 

وأحد أكبر أهداف بوتين هو دفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أوروبا، وهو هدف يبدو غير واقعي، لكن السياسة تتجاوز الواقع أحياناً عند التفكير بالمستقبل. 

ويعرف بوتين أن إضعاف التحالف الأطلسي يمهد الطريق نحو هدفه النهائي: الإطاحة بالنظام الدولي الذي تلا الحرب الباردة. 

العودة إلى المشهد العالمي في منتصف القرن العشرين

من الواضح أن روسيا تقترب من مركز القيادة بصحبة الصين.

وأن كلاً منهما في حاجة إلى الأخرى.

كان للأزمة الأخيرة في كازاخستان تأثيرها في تعزيز روسيا لنفوذها في منطقة آسيا الوسطى، وهو ما يعني تزايد أهمية روسيا للصين.

وقد تؤدي الحرب في أوكرانيا لنتيجة مشابهة في تعميق القناعة الصينية بجدوى التقدم خطوات للأمام في العلاقات مع روسيا. وهو ما يؤشر -في الوقت ذاته- لمركزية الصين في التحركات الروسية ضد الغرب.

تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا ستؤثر على الموقف الصيني تجاه موسكو، والمدى الذي يمكن أن يذهب به الطرفان للتنسيق، وربما التحالف في مواجهة الغرب، واستثمار اللحظة الراهنة في وضع أسس لنظام دولي جديد تكون لهما فيه مساهمة أكبر في إدارة المشهد الدولي.

التحدي الغربي يشكل سبباً كافياً لاحتمال تنامى نشوء تحالف بين القوتين ينتج عنه تحالف أوسع، وهو ما يعني بالضرورة أننا بتنا أمام نظام دولي جديد. 

الصورة التي تتشكل الآن تشبه الصراع الكلاسيكي الذي نشب في معظم عقود القرن العشرين، بين الغرب والكتلة الشيوعية، رغم خلافات الصين مع الاتحاد السوفييتي وقتها.

* بعض ملامح النظام العالمي القادم بعد المغامرة الأوكرانية

بوتين كان صادقاً عندما انتقد حصار روسيا من قِبل الناتو وأصر على أن النفوذ الغربي يهدد العلاقة التاريخية بين أوكرانيا وروسيا. ومن الواضح أنه يرى فرصة سانحة في الفوضى المترتبة على تفشي وباء كورونا، والتوسع الإمبراطوري لأمريكا والانقسام الداخلي الذي يعاني منه الغرب.

هكذا كتبت New York Times

لكن رغم ذلك، فإن كل السيناريوهات، بما فيها السيناريو الأكثر نجاحاً، ستؤدي على الأرجح إلى تقويض بعض المصالح التي يقاتل الجيش الروسي دفاعاً عنها.

النظام العالمي الجديد لن يقوم على أنقاض النظام المُحتضر؛ لأن أمريكا لا تزال قوة عظمى. كل ما في الأمر نهاية عصر الأحادية القطبية وبروز عالم متعدد الأقطاب عسكرياً واقتصادياً.

يمكن مقارنة النظام الجديد بأجواء الحرب الباردة في القرن الماضي، من حيث سباقات التسلح والستار الحديدي، والتكتلات القطبية. الفارق هو التنسيق بين الصين وروسيا في النسخة الجديدة من الحرب الباردة، مقابل الخلافات العميقة في الماضي.
وسيظل الناتو محاصراً لغرب روسيا تقريباً.
وقد تنضم المزيد من الدول إلى الحلف.
كما سيزيد الإنفاق العسكري الأوروبي.
وسنشهد الدفع بمزيد من القوات والآليات العسكرية 
وسوف تشهد دول أوروبا الشرقية المزيد من العسكرة والتسليح وبناء القواعد. 
وستكون الإمبراطورية الروسية المعاد تشكيلها أشد عزلة عن الاقتصاد العالمي.

سيحاول الغرب التركيز على بناء كتلة اقتصادية تحرم الصين وروسيا من التوسع الاقتصادي، تقودها مجموعة السبع وحلفاؤها “الديمقراطيون” الذين يسيطرون على أكثر من نصف ثروة العالم. 

لن تكون أمريكا هي المتحكم في الملفات والصراعات، بعد أن حقق خصومها وأعداؤها انتصارات للإرادة كما فعلت إيران، وعلى المستوى الدولي بما تفعله روسيا.

من المرجح الاحتفاظ بذات المؤسسات الدولية رغم الانتقادات لمجلس الأمن وعقمه، والتلويح بإعادة النظر فيه.

على نحو حاسم يلخص روبرت كاغان، وهو باحث وناقد للسياسة الخارجية للولايات المتحدة ومن كبار دعاة التدخل الليبرالي، النتيجة الحتمية الأولى لحرب أوكرانيا، مهما كانت المسارات والنهاية، في أن قيادة العالم أصبحت بالفعل ثلاثية.

في مقاله بعد اندلاع الحرب كتب يقول: حان الوقت للبدء في تخيل عالم تسيطر فيه روسيا بشكل فعال على جزء كبير من أوروبا الشرقية.

وتسيطر الصين على جزء كبير من شرق آسيا وغرب المحيط الهادي.

وعلى الأمريكيين وحلفائهم الديمقراطيين في أوروبا وآسيا أن يقرروا، مرة أخرى، ما إذا كان هذا العالم مقبولاً.

ويتوقع الكاتب أن تعكس مرحلة ما بعد الغزو إحياء القوة العسكرية الروسية وتراجع نفوذ أمريكا.  والأغلب أن تقف الصين إلى جانب روسيا. 

وإذا اقترنت هذه التغيّرات بمكاسب للصين في شرق آسيا وغرب المحيط الهادي، فسوف يبشر ذلك بنهاية النظام العالمي الحالي و”بداية حقبة من الفوضى والصراع العالميين؛ حيث تتكيف كل منطقة في العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوة”.

أي ربما يكون عالماً بلا أقطاب على الإطلاق، بل جزر إقليمية منعزلة من التحالفات والخصومات، تسبح في بحار المنافسة والصراع وعدم الاستقرار.

الحلول العسكرية للتوترات بين الشرق والغرب، كما قال هنري كيسنجر، سوف تقود حتماً إلى حرب باردة جديدة، ستكون طويلة الأمد.

وستكون أشد وطأة وقسوة من نسختها الأولى في القرن العشرين.

* المصدر: عربي بوست