روسيا – “الناتو”.. مواجهة مفتوحة إلى ما بعد أوكرانيا
شارل أبي نادر*
قد يقول بعض المتابعين للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ، والتي تشكل فعليًا وجهًا أساسيًا من أوجه الصراع الروسي – الغربي، إنه بمجرد انتهاء هذه العملية بتحقق الأهداف الروسية، (والتي لن تنتهي قبل تحققها)، سوف تهدأ الأوضاع في المنطقة الأكثر حساسية من العالم، تاريخيًا وجغرافيًا، وستعود العلاقات الدولية بشكل عام والعلاقات الروسية مع الأميركيين ودول “الناتو” والاتحاد الأوروبي بشكل خاص، الى مرحلة المواجهة الباردة والمضبوطة عسكريًا وسياسيًا وديبلوماسيًا واقتصاديًا، تمامًا كما كانت هذه العلاقات في أغلب الأوقات.
طبعًا، يمكن أخذ هذا الاحتمال بعين الاعتبار، فليست المرة الأولى التي تحدث فيها مواجهة روسية – غربية (تاريخ هذه المواجهات معروف) ثم تعود تلك العلاقات الى النمط المتوازن تقريبًا، وملف استعادة روسيا لشبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤، نموذج واضح عن ذلك، حيث كان بالنسبة للغرب شبيها بالدخول الروسي اليوم إلى أوكرانيا، لناحية ما يصفونه بتجاوز القانون الدولي وقرارات المؤسسات الدولية المعنية، مع ما نتج عنه من توتر واشتباك روسي – غربي، ومن عقوبات اقتصادية وديبلوماسية على موسكو ما زالت مستمرة حتى اليوم. وبعد تلك الاستعادة للقرم عادت روسيا وانخرطت في شبكة علاقاتها الدولية – ومع دول “الناتو” تحديدًا – بالحد المعقول والكافي لادارة تلك العلاقات وحفظ مصالح الأطراف، خاصة المتداخلة مع بعضها بعضًا، في الطاقة والاقتصاد والسياحة وغيرها.
لكن في الواقع، وفي ظل ما تشهده المواجهة المباشرة اليوم بين الروس و”الناتو” على خلفية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لناحية تطور عناصر الاشتباك وتوسُّعِها، وخطورة إمكانية جنوحها الى مستويات غير آمنة على صعيد الاستقرار الاستراتيجي والنووي، أو لناحية ذهاب كل طرف، الروس أو اغلب الدول الغربية، بعيدًا في إجراءات الاستهداف للطرف الآخر، أو في الإفصاح الواضح والعلني من كل طرف عن فقدان الثقة بالآخر بشكل كامل، وعن اتخاذ إجراءات هجومية متقدمة من كل طرف باتجاه الآخر وفي كافة المجالات، أصبح واضحًا أن هذا الاشتباك الإستراتيجي لن يتوقف بعد اليوم، وعلى الأقل، اذا لم يتطور أكثر وأكثر، فهو لن ينخفض مستواه عما هو عليه اليوم، وذلك للأسباب التالية:
في نظرة دقيقة للخارطة الجغرافية لروسيا، والتي تمتلك مساحة شاسعة، تقترب من مساحة الولايات المتحدة الأمريكية زائد مساحة الدول الأوروبية، يتأكد أنه لا يمكن لأي طرف أو تجمّع أطراف مهما كانت قدراته، أن يسيطر بسهولة على روسيا، مع هذا الفارق الشاسع في الامتداد والانتشار، وهذا الأمر طبعًا سيكون مستحيلًا، على الأقل لناحية حلم السيطرة على الداخل الروسي، بين الغرب على حدود أوروبا الشرقية أو الشمال حتى تخوم القطب الشمالي، أو جنوبًا حتى القوقاز وآسيا الوسطى، أو شرقًا حتى شمال المحيط الهادي أو الألاسكا وجزر الكوريل المتنازع عليها بين روسيا واليابان.
من جهة أخرى، يضاف الى هذه المساحة الضخمة لروسيا، البعد الاستراتيجي والعسكري الذي تمتلكه في نقاط المواجهة الحساسة وفي مناطق الاشتباك الدولية حول العالم، بين البحر الأسود وبحر قزوين، أو بحر بارنتس والقطب الشمالي أو بحر البلطيق وامتدادًا الى بحر الشمال، أو في المحيط الهادي، وصولًا الى البحر المتوسط والشرق الأوسط والسواحل الدافئة في سوريا، الأمر الذي سوف يعقّد حتمًا الأمور على دول المواجهة معها، وسيكون عليها (الدول الغربية و”الناتو”، إمَّا أن تتأقلم مع هذا الانتشار الاستراتيجي الواسع لروسيا، مع ما يؤمنه للأخيرة من نفوذ وسيطرة ومصلحة اقتصادية وسياسية، وإما أن تعيش طيلة حياتها في هاجس اضعاف أو تخفيف هذا النفوذ قدر الامكان، مع ما يحمله ذلك من توتر وخطر وصراعات لن تبقى جميعها مضبوطة.
هذا لناحية القدرات الروسية الذاتية جغرافيًا وعسكريًا واستراتيجيًا، خاصة القدرة الروسية في الردع الإستراتيجي والنووي، أو في القدرات التقليدية، مع ما تملكه من قدرات وامكانيات اقتصادية ضخمة في الطاقة والقمح والزراعات الإستراتيجية، لتضاف إليها نقاط قوة أخرى، ستمتلكها حتمًا من تحالفاتها الحساسة والاستراتيجية مع كل من الصين وايران بدرجة أولى، أو مع مروحة واسعة من الدول الاخرى، في الشرق أو في أميركا اللاتينية. أغلب هذه الدول غير بعيدة عن التوجهات الروسية، لناحية الخصام أو الاشتباك أو العلاقات غير الجيدة بشكل عام، مع الأميركيين وبعض الاوروبيين من الغارقين في الحضن الاميركي، كبريطانيا على الاقل، سيكون لهذه الجبهة الواسعة لروسيا مع هذه الدول، موقع متقدم وقد نستطيع القول ايضا “متفوق” في المواجة ضد “الناتو” والغرب بشكل عام.
من هنا، فإن هذا الموقع الحساس وهذه القدرة والامكانيات التي تمتلكها روسيا، لن تسمح للغرب بأن ينهي هذا الاشتباك الإستراتيجي معها، حيث سيجد نفسه دائمًا، ملزمًا بأن يبقيها مستنفرة على كافة الصعد، ومن خلال اجراء نظرة جيوسياسية تفصيلية لمناطق الاشتباك أو التماس الروسي مع الغرب، بدأت تظهر نقطة المواجهة الأخرى بين الطرفين، إنها فنلندا، والتي تملك موقعًا متقدمًا على بحر البلطيق بين روسيا ودول الشمال من “الناتو”، السويد والنرويج، وتشكل نقطة ربط للبر الروسي مع تلك الدول وامتدادًا الى الواجهة الروسية البحرية مع بحر بارنتس والقطب الشمالي. وفيما تتشابه مع أوكرانيا في أهمية موقعها بالنسبة للغرب ولروسيا، أو في أنها غير منخرطة في “الناتو” ويعمل الاميركيون جاهدين لان تكون عضوًا في الحلف المذكور، ستكون حتمًا نقطة الاشتباك اللاحقة بين “الناتو” وبين روسيا، وخاصة أن الحلف المذكور ربما كل دول العالم ايضا، يتيقن بما لا يقبل الشك ابدا، أن أوكرانيا لن تكون الّا في الموقع الذي ترضى به روسيا.
* المصدر : موقع العهد الإخباري